باردو » و »الكامور » إعتصامان ضمن مسار واحد »

بقلم ماهر حـنــيــن

تحول إعتصام الكامور منذ إنطلاقه إلي موضوع إهتمام الساعة سياسيا و إعلاميا وأبرز مرة أخرى عمق الإنقسام الذي يخترق الجسم السياسي و الإجتماعي في بلادنا ليس لإعتبارات إيديولوجية أو ثقافية تتعلق بالهوية و علاقة الدين بالدولة هذه المرة بل حول رؤية تنموية للجهات المقصية و حول مركزية الحقوق الإقتصادية و الإجتماعية للمنسيّين و المهمّشين.

من الجلي بداية أن إعتصام الكامور قد دخل بإقتدار معجمية الخطاب السياسي الإحتجاجي ، بسيميائيته الفريدة و بمكوناته الجغرافية و المحلية والشعبية وهو بهذا المعنى قد نجح في نقل تحركات مواطني تطاوين التي تكررت، من عزلة المكان و تجاهل التاريخ إلى معمعان الصراع السياسي حول إنتاج الثروة و إعادة توزيعها و منوال التنمية .عموما وضرورة إستعجال آليات التمييز الإيجابي للجهات الداخلية.

ذاك هو تجلي قوة الحضور البيولوجي للأجسام حين تحوّلها إرادة الفعل إلي كيان جماعي عدديا وسياسيا وتحوّل بمسكنها ومرقدها و مأكلها في الملأ تضاريس المكان إلي ساحة للتجمهر و التعبئة أي إلى فعل سياسي بإمتياز. يهتم به الإعلام و الراي العام وتفاوضه الحكومات.

قبل كامور كانت الذهيبة و المكناسي و جمنة و سليانة 2012 و قبلها جميعًا كانت الرديف 2008 ثم سيدي بوزيد 2010…. كل الأمكنة حملت عناوين محطات مواجهة بين خيارات الدولة و المجتمع دفاعا عن حق الحياة، بداية بالحق في الماء و الصحة و الشغل و مرافق العيش الكريم وإصرارا من المغيبين علي إنتزاع الإعتراف بالشراكة في الوطن، من دولة ظلمهم منوالها الإقتصادي و تاريخها الرسمي. لنقل تلخيصا أن كامور اليوم يكثّف رمزية إعتصام الهامش و الأطراف وأننا لابد أن نقرأه من هذه الزاوية أساسًا وتبقي كل قراءة مستهجنة و مشيطنة للإعتصام سطحية و متهافتة.

فضمن نفس الرؤية لدور الفضاء العمومي، ساحة للتجمع و التظاهر و الإعتصام، ولمعنى إحتلال الساحات العامة في سياق تجذير الممارسة الديمقراطية إتخذت “القصبة” و “القبة” و “باردو”… دلالات عند المعتصمين بها وأرّخت لمنعرجات وتحولات تجاوزت مسارات المؤسسات ومنحت الفضاء العام والحشود قوة فعل أبرز.

عند الديمقراطيين عموما سيضل باردو عنوانا كبيرا لإقتدارهم هُم. وعلينا اليوم أن ندرك أنه برغم مسافات الجغرافيا وفوارق مورفولوجية التضاريس بين الصحراء و المدينة، فالعلاقة بين باردو و الكامور قوية لمن أراد أن يهتدي إليها فهما ليسا ضدّين، وإن صارا ضدّين تصاب ثورتنا في عصبها الأساسي وهي وحدة الشعب التواق للإنعتاق و العدالة.و و الكرامة وتهتز وحدة الشعور الوطني العزيزة علينا جميعا.

حملة إستهداف كامور والتشكيك واسعة ، والمنخرطون فيها من مشارب شتي ومنهم من يعرف الحق ويتجاهله ومنهم من يتوجس من تداعيات تدهور الأوضاع في جنوب البلاد أمنيا تحت تإثير التهريب والإرهاب وهم محقون بوجه ما. مما يضاعف مسؤولية المعتصمين ذاتهم ويضاعف الضغط علي الحكومة للوصول بداية إلي حل للمطالب العاجلة . لكن يخطئ طيف من اليسارين والنخب الديمقرإطية أكثر من غيرهم اليوم حين يضعون أنفسهم قبالة الكامور أو ضدّه وحين يصمّون آذانهم عنه ويرفضون سماع صوته دون أحكام مسبقة و إستهجان يكرّس مرة أخري نظرة التعالي . فهم ينقطعون بذلك عن جزء من شعبهم و يستمرون في رفض تجاوز معيقات إنخراطهم الشعبي في عنوان المقاومة للمرحلة القادمة، أي محاربة الفساد و ووضع مقومات ديمقراطية إجتماعية عادلة بين الجهات و الطبقات.

باردو في عيون أهلها

فرض الآلاف في باردو صائفة 2013 علي حكومة الترويكا المتهاوية و المعزولة شعبيا الإستقالة و الرحيل. وفرضو دستورا أقر للتونسيين جميعا، بما هم أهل له. وجعلهم اليوم أكثر مواطني و مواطنات الفضاء العربي الإسلامي تمتعا بالحرية رغم مناورات الإسلاميين و أغلبيتهم المجلسيّة حينها. في زخم ذلك المنعرج كان اليسار بطيفي شهيديه شكري بلعيد ومحمد براهمي وأنصاره وكانت الحركة الإجتماعية النقابية و النسائية جزءا من كتلة تاريخية شعبية غيرت ميزان القوى.

لقد رفضنا في باردو ما وصمنا به خصومنا حينها، كنا في الساحة علي يقين قوي وعنيد من أننا علي خط الثورة الديمقراطي وأن من إلتحق بنا مُكرها أو مؤمنا قد إلتجق بهذا الخط. من التناقض إذن أن نصم نحن إعتصام الكامور حتي وإن حق نقد بعض جو انبه بنفس الأسلوب الذي رفضناه لأنفسنا في باردو.

ما يهمنا من إستحضار باردو هو التذكير بهذه القوة السياسية الخارقة للحشود، المتضامنة و المتحابّة . وحاجتها المتضافرة رغم تنوع مشاربها إلي أفق سياسي يجسم إنتصارها المقتدر و الممكن، و مكانة الفضاء العمومي و الشارع في تجديد الممارسة الديمقراطية ذاتها .

مهمة هذا الأفق الجماهيري للنضال الديمقراطي علي منوال إعتصام باردو و الكامور وعبر الإضراب الجماهيري و التظاهر و الإحتجاج حيوية اليوم في بلادنا. فهي جزء من أدوات تجديد وتجذير الممارسة الديمقراطية وهي المضاد الحيوي لكل من يريد حصر الجماهيرية في تيارات الإسلام . السياسي ومطالبها الإيديولوجية.

بقدر ما نجح باردو في دوره رمزيا وفعليا فقد تفرقت بعده الحشود الموحدة إلي حشود جزئية تحت عناوين فرعية و متنافرة أحيانا وأُعيد تركيب المشهد السياسي بمقاربات أخرى غيرت ميزان القوى مؤقتا لفائدة تحالف الحكم الجديد.

في إتجاه مغاير عادت الساحات الصغيرة في الجهات تستجمع قواها بعد دستور .2014 وتشكلت حركات الدفاع عن الحق في الماء و الحق في الصحة و النقل و الشغل اللائق و البيئة و التنمية العادلة للجهات المهمشة … أفقية هذه الحركات و تمددها و جماهيريتها أحيانا ترجمت عن الحاجة للتعبئة مجددا، بإتجاه هدف سياسي موحد يسري من غير إنقطاع ودون معيق بين مكونات الجسم الإجتماعي الجديد الناهض والمقاوم و يدفع قوة التغيير الإجتماعي و الإقتصادي إلي مسارها السياسي المرتجى :شرعية دولة القانون محاربة الفساد و تحقيق عدالة إجتماعية

إعتصام الكامور : الرمزية والرسالة

مهما كان حكمنا علي معقولية مطالب المعتصمين و وواقعيتها من المهم أولا أن ندرك معني هذا التحرك الشعبي القوي وأن ننتبه إلي بلاغة رسالته السياسية و التاريخية. لقد حول شباب تطاوين أرض التفاوض حول إستحقاقات الثورة إلي الجهات الداخلية العميقة وأخرجوها من مؤسسات صماء تحكمها إعتبارات الأغلبية الإنتخابية، إلى عيون الملأ .

ليس واقعيا ولا مقبول فعلا أن تقر المجموعة الوطنية إقتطاع نسبة 20 بالمائة من عائدات النفط لجهة ما أو اي نسبة من اي ثروة وطنية لاي جهة كانت ففي ذلك تفكيك لوحدة الدولة شرط وجودنا جميعا وضرب لمقومات التضامن و العيش المشترك. ولكن ما أثارته الجماهير في تطاوين وتوحدت حوله علي غاية من الأهمية يتعلق بالفساد الذي يحوم حول قطاع الطاقة و عائدات الثروات الوطنية و بالثقة في الدولة المركزية عموما وفي هذه الإغلبية الحاكمة الآن حتي وإن كانوا هم من صوتوا لها بأنفسهم . بل إن غضب سكان تلك الربوع الجارف يعود إلي عقود وهم اليوم يستشعرون مواطنتهم و حقوقهم و يهتدون إلي طرق شعبية للدفاع عنها.

ربما يكون من الصعب علي جزء من نخب المدينة وحتي علي نخب يسارية وحداثية أن تتقبل هذا التعبيرعن الإقتدار النابع من العمق و تحذر منه. غير أن كل مجتمعات العالم المفتوحة تشهد هذا الدخول القوي للمقصيين و المهمشيين و الطرفيين إلي معترك الحياة السياسية وتصديهم للأرتدوكسيات الليبرالية أو القومية أو الدينية الغيرديمقراطية ..ومن ينفصل عنهم ينفصل اليوم عن عالم السياسة الفعلي

أبلغ إستخلاص في نظري لتنامي إحتجاج الجهات الداخلية بمحطاته النوعية المتعددة آخرها الكامور، هو عودة الجماهير للفعل السياسي حتي لا تبقي ثورتنا ثورة سلبية تغير مظاهر الأشياء ولا تغير الجوهر . وهي عودة ستُكسبها التجربة و المراكمة ثقافة مقاومة وثقافة قيادة و روح الواقعية. و تنخرط في مشروع وطني جامع أساسه العدالة و المواطنة ووحدة الدولة.

إن مشكل إنقطاع جسور التعاطف بين جزء من حشود باردو وحشود الكامور هو غاية الثورة المضادة بكل عناوينها و ألوانها وبناء هذه الجسور هو مهمتنا. لأن كسب ثقة الناس و محبتهم و الإنخراط معهم في مقاوماتهم من أجل كرامتهم هو شرط التغيير القادم. مسؤوليتنا كبيرة ومسؤولية معتصمي الكامور أكبر، لإعطاء هذا التحرك بعده الوطني ووقف آلة الدعاية المضادة الضخمة ضده، والتي تذكرنا بالهجمة الشرسة على تجربة جمنة ، ومن أجل توسيع التضامن معه وهو ما لا يتحقق إلا إذا إتسعت أبواب التضامن للجميع وصار الكامور عنوانا وطنيا… ونحج في تحقيق أهدافه . ووللحديث بعد كامور بقية.

ماهر حـنــيــن

المنتدى التونسي للحقوق

الإقتصادية و الإجتماعية

نشاز

نشر في موقع

المنتدى التونسي للحقوق

الإقتصادية و الإجتماعية

Show More
Close