حوار مع تزفيتان تودوروف ، ترجمة هاجر بودن

نشاز : كيف تفسّر التداول في أعمالك بين كتابات حول الفنّ والأدب وكتابات حول الحياةالمشتركة ( la vie commune )

تزفيتان تودوروف : هي من جهة علاقة تسلسل. كنت أدرس في مجال الأدب. بعد حوالي خمسة عشر عام قضيتها في فرنسا، ومع « انصهاري » أكثر فأكثر في المجتمع الفرنسي، بدأت أدخل شيئا فشيئا في ميادين غير أدبيّة :

تعدّد الثّقافات، الشّموليّة والديمقراطيّة، الحياة المشتركة. لكن، من جهة أخرى، أرى استمراريّ بين المجالين إذ أنّ الأدب، في رأيي، وحتّى الرّسم (التصويري على الأقلّ)، يساهمان في فكر عصرهما بشكل عميق ودقيق وبصفة خاصّة. كي نفهم فترة زمنيّة ما، ليس لنا، في أغلب الأحيان، من دليل أفضل من كتّاب وفنّاني ذلك العصر. الأدب ليس بنشاط تافه أو طائش ولا يتمثّل في ممارسات شكليّة أو فضاءات للبوح بأسرار ذاتيّة أو خاصّة بل هو فكر حول الكائن البشري والمجتمع والعالم ويطرح أسئلة جوهرية في حياتنا.

أنت زرت تونس مؤخّرا والتقيت بتونسيين من جلّ الأعمار للحديث عن علاقتك بالأدب وكيف ترى وضعية الديمقراطية في العالم الغربي. ما هي انطباعاتك بعد هذه اللقاءات ولو أنّ النّاس الذين التقيت بهم لا يمثّلون بالتّاكيد كلّ التونسيين؟

زيارتي كانت قصيرة جدّا، ممّ يجعلني أشكّ في أن تكون لآرائي إفادة حقّا… انطباعاتي كانت إيجابية جدّا، التقيت بأشخاص حيّة ومطّلعة ومنخرطة بحماس في حياة مجتمعها. على مستوى أقلّ شخصيّة، أشعر أنّ تونس، في جوانب عدّة، تجد نفسها وسط المعبر : لقد نبذت الديكتاتورية ولكنّها لم تختر بعد طريقها للمستقبل. هذا الخيار سوف يتابعه الجميع باهتمام. سواء في أوروبا أو في البلدان الإسلامية الأخرى، يُنظر إلى بلدكم على أنّه نوعا ما مخبر للمستقبل.

بالنسبة لتاريخ القرن العشرين الطّويل، كيف تفسّر أنّ البلدان العربيّة، رغم أنّها ليست من أفقرها في العالم، هي من بين الأخيرة في المطالبة بالتحرّر من الأنظمة الاستبداديّة؟

هنا أيضا لا أشعر بنفسي مؤهّلا، وتحديدا للفرز بين ما يعود إلى مخلّفات الاستعمار، من جهة، وما يعود إلى سلطة التقاليد. أميريكا اللّاتينية، مثلا، رفضت الوصاية الاستعمارية على مستوى الشكل منذ قرنين ورغم ذلك فإنّ الحكومات الديمقراطية لم تعوّض الديكتاتوريات العسكرية إلا منذ بضعة عقود : التئام الجراح يتطلّب وقتا طويلا. والدّور الذي يلعبه الدّين كذلك ليس هيّنا : أساس الديمقراطية هو إرادة الشعب والإذعان لسلطة نابعة من غيره يتناقض معها ويدخل في صراع مع مبادئها. أن يكون الأفراد مؤمنون ليس مشكلا بالنسبة لها، امّا أن تخضع الحياة العامّة لوحي من الغيب نعم.

الحركات الثورية في البلدان العربية والتي كانت في بداياتها عفويّة أو مستقلّة أصبحت الآن، كما في ليبيا وسوريا، مدعومة أساسا من الخارج وفي أغلب الأحيان من قبل أنظمة لا ديمقراطيّة كبلدان الخليج التي تساعد المجموعات الأكثر ظلامية في تلك الحركات. بما يوحي لك هذا الوضع حيث يبدو أنّ تلك الحركات الشعبية والديمقراطية لم تعد تتحكّم في مصيرها؟

هذا الوضع يؤسفني. لديّ شعور أنّ الحركات الاحتجاجية الأولى التي كانت تطالب بإرساء دولة القانون وبالمزيد من الحريات الفردية قد وقع احتواءُها من طرف مجموعات متنافسة على عين المكان واستعمالُها من طرف قوى أجنبية. لا يبدو لي أنّ غريزة الديمقراطية هي التي تحرّك الخصوم المسلّحين للقذافي أو لبشار الأسد. إنّ تدخّلا عسكريّا لصالح « الثوار » من شأنها أن تزيد الوضع خطورة. هذا لا يعني أنّ تصرّفات الديكتاتور مقبولة. أظنّ أنّ الهدف العاجل يجب أن يتمثّل في الوصول إلى وقف إطلاق النّار حتّى يصبح من الممكن الخوض في تفاوضات.

العديد من التونسيين يرون أنّ قضية الشرق الأوسط ومساندة أهمّ القوى الديمقراطية لإسرائيل لعبت دورا أساسيا في تأخّر شعوبنا فيما يخصّ المطالبة بحرّياتهم وبأنظمة ديمقراطية وكذلك في الربط بين الديمقراطية والطغيان الاستعماري, ولا زالت هذه المسألة تأثّر بشكل سلبيّ جدّا على ساحتنا العامّة. لكن يبدو أنّ فكرة حلّ ممكن قد ابتعدت في ظلّ هذا الوضع الاستراتيجي الجديد. كيف ترى مستقبل هذه القضية وكيف يمكن حلّها حسب رأيك؟

الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لعب دورا في طمس النقاش السياسي في البلدان العربية ومثّل أيضا حجّة لحكّام تلك البلدان الذين يحمّلون غيرهم مسؤولية فشلهم. الأخطاء هنا مشتركة. الديمقراطيات الغربيّة بالفعل قادت سياسات استعمارية، والمطالبات الأخيرة بـ »حقّ التدخّل » أو بـ »مسؤولية الحماية » ليست بعيدة عنها كثيرا. لكنّ الأنظمة الاستبدادية تستعمل الخطاب المناهض للإمبريالية للدّفاع عن مصالح المجموعات الحاكمة. أمّا عن الصّراع ذاته، فهو يبدو لي حاليا في طريق مسدود.

ألا ترى أنّ أوروبا والولايات المتّحدة الأمريكية قد لعبت دورا في غاية من السلبية في هذا الصّراع، خاصّة بالامتناع عن أيّ قرار جادّ ضدّ إسرائيل؟ كيف تفسّر عدم الإختلاف في المواقف بين اليسار واليمين في أوروبا حول هذه المسألة؟

لنوضّح نقطتين : لا أظنّ أنّ لأروبا وزنا ثقيلا في هذه المسألة. لا وجود لأوروبا سياسيّا وليس للبلدان التي تكوّنها تأثير كبير. وفي هذا الصدد لا أرى فرقا كبيرا بين اليسار واليمين. حتّى أنّ حكومات اليسار هي التي يحرّكها ما سمّيته بـ »التبشيرية السياسية » أي محاولة فرض ما يرونه خيرا بواسطة القوّة العسكريّة. أمّا عن الدّوافع غير السياسية فيجب البحث عنها في تاريخ أوروبا ـ وامتدادا تاريخ أمريكا الشمالية ـ المطبوع بحضور سكّان يهود منذ العصر القديم، سكّان ينتمون إليها ولكنّهم عانوا من اضطهاد عنيف في الماضي، من العداء المسيحي للسامية وصولا إلى الإبادة النازيّة.

بالنسبة لآفاق الحركة الديمقراطية في العالم : نلاحظ حركات احتجاجية ضدّ السياسات الليبيرالية خاصة في أوروبا وأمريكا الشمالية واللاّتينية. ومع هذا، عند الانتخابات، تختار الشعوب نفس الأحزاب، من اليسار كانت أو من اليمين، ولا تعير اهتماما لاقتراحات أكثر راديكالية. كيف تفسّر هذه المفارقة؟

أغلبية الشعوب تحتجّ ولكن هذا لا يعني أنّها تنشُد الثورة، وأظنّ انّ لها أسبابها المقنعة. المحاولات الثوريّة لتغيير العالم في أوروبا لم تخلّف ذكريات جميلة. يجب أيضا التفريق بين النموذج اللّبرالي عموما، وهو نموذج لا ترغب الأغلبية في التخلّي عنه، والسياسات النيوليبيرالية أو اليبيرالية المتطرّفة التي التصقت بعولمة الأسواق وهيمنة الممارسات المالية والتي لم تبدأ إلّا في أواخر القرن العشرين. تغيّر العقليات الذي من شأنه أن يؤدّي إلى خيارات سياسية مغايرة يمكن أن يحدث داخل الأحزاب الموجودة، المسألة ليست مسألة تسميات.

من الواضح أنّ إطار الدّولة الوطنيّة لا يسمح للحركات البديلة بالتطوّر أو بالتأثير الفعلي على سياسات الدّول والمنظّمات الدّوليّة. ما هي حسب رأيك الطّرق الأكثر نجاعة لتدعيم تلك الحركات؟ كيف يمكن الخروج من الإطار الوطني؟ النضال من أجل الاتحادات بين الدّول، كسر الحواجز، تلك التي تعيق تجوّل البشر كما البضائع ورؤوس الأموال : هل يمكن أن يكون هذا حلّا على المدى البعيد؟

لست متأكّدا من أنّ حظوظ الحركات البديلة قد تكون أكبر على الساحة الدولية منها داخل الدولة الوطنية. حتّى في أوروبا، حيث تحوّلت العديد من القوى الوطنية إلى مؤسّسات أوروبية، تظلّ الدّول الوطنية مدار التضامن بين السكّان. الفرنسيون لا يرغبون في إنفاق أموالهم من أجل الألمان مثلا أو العكس (وهذا مثال من وحي الخيال طبعا!).التجوّل الحرّ لرؤوس الأموال والبضائع يطرح مشكلة إذ فيه إفلات من الإرادة السياسية أي من إرادة الشعوب. في انتظار ظهور كيانات سياسية متعدّدة القوميات يجب مواصلة الفعل في إطار الدّولة.

يبدو إنّ النّظرة الماهوية للعالم العربي، التي يحملها مثلا برنارد لويس، قد اهتزّت بحدوث « الربيع العربي »، لكن ألا يمكن أن يؤدّي تطوّر الأوضاع وصعود الإسلام السياسي ـ مهما تفاوتت حدّته ـ إلى الحكم في البلدان المعنية إلى عودة الاستشراق القديم وأحكامه المسبقة؟

لا يمكن التوقّع ولكن في الأثناء علينا أن نحاول صدّ ما قد يكون تحقيقا لتلك النبوءة القديمة. يجب تكذيب الكليشيات البالية حول البلدان الإسلامية.

Show More
Close