خالتي مباركة وتقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة

بقلم فتحي بن الحاج يحيى

كان منتظرا منذ صدور تقرير لجنة الحقوق الفردية والمساواة أن تهتزّ الأرض تحت أقدام النائمين على فكرة « إجماع الأمّة عبر العصور »، وأن يُعلن النّفير من كلّ حدب وصوب بدعوى رفض المساس بكلام اللّه الذي يُخفي في الحقيقة رفضا للمساس بتفوّق الذّكر ونوعا من الثأر على ما أتى به دستور 2014 في باب حرية الضمير والمساواة الكاملة بين النساء والرّجال. بل في الأمر عود للمكبوت الذي تراكم منذ ما قبل دستور 2014 أي منذ صدور مجلة الأحوال الشخصية وما تبعها من إجراءات تحديثية فُرضت بقوّة الدّولة البورقيبيةوقد يعود إلى أبعد من ذلك بكثير وتحديدا منذ إصلاحات القرن التاسع الذي رأى فيها أغلب مشايخ ذلك الزّمان مروقا عن الدّين الحنيف بداية من إلغاء الرقّ.

كان، إذن، لردة الفعل هذه صدى سبق أن عشنا مثيلا له في معركة مسوّدة دستور 2012 التي صدرت بصفة غير رسمية عن حركة النهضة. يومها أيضا رأينا التئام الحلف المقدّس بين السلفية والنهضويين وجزء كبير من الزيتونيين الذي يدّعون القراءة المقاصدية للقرآن والسنّة. والمتابع للتّاريخ يعلم أنّ هذا الحلف سبق له أيضا أن التأم، بمكوّنات ذلك الزّمن ومعطياته، عند صدور مجلة الأحوال الشخصية في مطلع الاستقلال رغم أنّه أخذ تعبيرات أكثر احتشاما وأقلّ صلفا خوفا من سلطة بورقيبة وسطوة الحزب الدّستوري.

نفس هذا الحلف طفح على السّطح،في ثلاثينيات القرن الماضي، بشكل مخز يوم صدور كتاب « امرأتنا في الشريعة والمجتمع » وأذاق صاحبه، الطاهر الحدّاد، الأمرّين. كانت هبّة مشهودة للزيتونيين وكلّ من جمعت بينهم فكرة جمود حركة التاريخ ودورانها حول نفسها، فرُفع مرّة أخرى شعار « إجماع الأمّة عبر العصور » ونُبذ الطّاهر الحدّاد ليموت غمدا في سنّ لم تتجاوز الستة والثلاثين عاما.

هذه المرّة شاهدنا تنويعة كاملة من ردود الفعل تراوحت بين إعلان النّفير في الجوامع والمساجد، والإمضاء على عرائض تنديد بتقرير لم تقرأه الأغلبية السّاحقة من الموقّعين (والحال أنّ مسألة دور الجوامع وطبيعتها ما زالت قيد النّقاش ويشوبها الكثير من الغموض فيما إذا وجب تحييدها عن الأحزاب أو عن السياسة أو عن الشأن العامّ، وما هو تعريف الشأن العامّ وكيفية تناوله حتى لا يصبح دعاية لهذا الطرف السياسي أو ذاك ولو إيعازا)، وبين الزّحف المنظّم على صفحات الفايسبوك إلخ. وبلغ الأمر حدّ مناداة أطراف، عادها الحنين إلى « ماء الفرق »، باستعماله ضدّ أعضاء الهيئة ورئيستها بشرى بالحاج حميدة، في حين طالب أحد المعتوهين من متصنّعي التّقوى رجمهم في ساحة عمومية.

بالمقابل، قليلة هي الأصوات التي ارتفعتلمساندةالتقرير. فباستثناء عدد من الجمعيات المدنية، وحزب « المسار »، وحزب « آفاق »، وبعض الأسماء المعروفة من المجال الفنّي، ومناضلون ديمقراطيون فرادى، وعريضة أطلقت أخيرا على الفايسبوك لجمع ما تيسّر من التوقيعات، إضافة إلى لطفي زيتون والنائبة سناء المرسني من حركة النهضة الذين طالبا، دون التطرّق إلى صلب الموضوع،بنقاش عامّ بعيدا عن سقوط الأخلاقيات، لم نشهد، إلى حدّ كتابة هذه السّطور على الأقلّ، ذلك الزّخم المنتظر والمفترض فيه أن ينمّ عن وعي حقيقي بأهمية الإصلاحات التي اقترحها التقرير.

وبقدر ما لا يُطرح السؤال عن شراسة ردّة الفعل القادمة من قاع المجتمع المحافظ، ومن المتمعّشين من مواقعهم صلب الجمعيات والهيئات الدّينية بالخصوص، فإنّه يُطرح بإلحاح شديد حول صمت التشكيلات السياسية وقطاعات هامّة من الرأي العامّ الديمقراطي الاجتماعي بداية من الشباب الثائر الذي يمثّل عماد الحراك الاجتماعي اليوم وصولا إلى كافّة أطراف اليسار على اختلاف مواقفهم وتوجهاتهم ومرورا بالأعداد الكبيرة للمواطنين الذين خرجوا في كلّ مرّة تصدّيا لمشروع الإسلام السياسي باسم الحفاظ على النمط المجتمعي التونسي.

لكن لنبدأ بأكبر حزب منظّم في البلاد ولنحاول رصد تفاعلاته مع وقع صدور هذا التقرير.

مأزق الإسلاميين 

عندما نتحدّث عن الإسلاميين نعني حركة النهضة بالأساس لأهمية حجمها نسبة إلى الأطراف الإسلامية الأخرى. نعلم أنّ القيادة تسعى إلى تقديم صورة عن نفسها كحركة مدنية « عقلانية » فصلت بين السياسي والدّعوي. وتحاول أن تقدّم نفسها إلى الدوائر الخارجية والمؤسسات الدّولية على أنّها الطّرف الأكثر مصداقية ونضجا في البلاد بقبولها بالإصلاحات المقترحة من صندوق النّقد الدّولي والبنك العالمي والمنظومة الأوروبية.

ومن دلائل هذه « العقلانية » و »المسؤولية السياسية » التي جعلت منها حركة النهضة بطاقة تعريفها الحالية أنّها قبلت بالسباحة ضدّ التيار في مواجهة اتحاد الشّغل وسائر القوى المجتمعية والسياسية التي تعارض مواصلة النهج الليبرالي في التّعامل مع الوضع الاقتصادي الصّعب وتنادي ببدائل أخرى، وإن بقيت مبهمة أحيانا. فالانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة غير بعيدة والكلّ يعلم تأثير الخارج على مآلات اللّعبة السياسية عندنا. وأن تراهن حركة النّهضة على مساندة « الإصلاحات » التي تريدها حكومة الشّاهد رغم الرّفض الشعبي لها فيعني أنّ وراء ذلك قراءات متعدّدة لعلّ أبرزها أنّ حركة النهضة تفصل تماما بين الأيديولوجي والاقتصادي (وليس بين السياسي والدّعوي) بمعنى أن الاقتصاد في رأيها معطى موضوعيا له قوانينه الخاصّة التي لا تخضع إلى المعطى الاجتماعي. فهي تتبنّى النهج الليبرالي في وصفته الخامّ شأنها في ذلك شأن الإخوانية العالمية في صيغتها الأوردوغانية الجديدة.

هذه « الجرأة » إن صحّ التعبير في اتخاذ مواقف في الملفّ الاقتصادي-السياسي في الاتجاه المعاكس للتحركات الاجتماعية وغليان الشارع نجدها غائبة تماما بل نجد عكسها عندما يتعلّق الأمر بالشأن الديني المعتقدي. صحيح أنّ حركة النهضة لم تعلن موقفها صراحة من محتوى التّقرير بل وقفت عند اعتباره منطلقا لحوار وطني جدّي قبل أن تنساق في بيان لاحق مع مشاعر قواعدها لتشير إلى خطورة بعض ما ورد فيه. وهي بالتأكيد تراقب تطوّر الأحداث التي تتمّ إلى حدّ كبير داخل مجالها الانتخابي وقواعدها الشعبية التي يعسر عليها مواجهتها على نحو صدامي حتى وإن أرادت ذلك من باب تحسين صورتها لدى الخارج ناهيك أنّ الأطراف المناهضة لجماعة الغنّوشي وجدت في هذا الحدث فرصة لاستعادة نفوذها وقدرتها التعبوية استنادا إلى مسائل حسّاسة تحرّك بسهولة مشاعر القواعد وتعيد إلى حركة النهضة شعبيتها التي مُسّت في جانب منها.

بهذا المعنى تحدّثنا عن أزمة، فالتقرير يبدو وكأنّه أعاد عقارب الساعة إلى نقطة الصّفر حيث تلتقي القاعدة النهضوية مع السلفية وحزب التحرير وأئمّة الزيتونة، وأساتذة الجامعة الزيتونية. ونقطة الصّفر هنا هي أيّام قليلة قبل صدور كتاب الطاهر الحدّاد سنة 1930. فالمطّلع على بعض خطب الجوامع وبيان أساتذة جامعة الزيتونة يجد نفسه أمام مفردات وتعليلات يعود صداها إلى « الحداد على امرأة الحدّاد » للشيخ محمد الصالح بن مراد.

بين هذا العود إلى الوراء في مجال السجال الديني والمجتمعي والتطلّع إلى التموقع في قلب القرن الواحد والعشرين، تجد حركة النّهضة نفسها ممزّقة بين متطلبات الصّورة « الحداثية » التي تريدها لنفسها وبين جاذبية الشدّ إلى الوراء حيث تطفح في كلّ مرّة عناصر الدّين والمعتقد المقحم في الشأن العامّ لتفسد ما تحاول بناءه السياسة على مدى أعوام وتزيد من تأجيج الصراع داخلها وتسقط مقولة « فصل السياسي عن الدّعوي ».

مأزق الديمقراطيين الاجتماعيين  

لقد تعوّدنا منذ المرحلة البورقيبية على مشهد سياسي ظلّت فيه الحريات الفردية مسألة محمولة على عاتق النخب التونسية ولا سيما الثقافية والفكرية والجمعياتية منها أكثر مما هي محمولة على النخب السياسية المعارضة، إلى درجة ذهب معها الاعتقاد إلى أنّ مثل هذه القضايا (حريّة الضّمير، حقّ التصرّف في الجسد، حرية الإبداع إلخ) لا تهمّ سوى فئات من المجتمع دون غيرها وأنّها لا تندرج ضمن سلّم الأولويّات في مثلث الخبز والحرية والكرامة الوطنية (علما وأنّ الحريّة في هذا المثلث يعنى بها حرية التعبير والتنظيم أكثر من أيّ شيء آخر).

فعندما أطلقت النساء الديمقراطيات في بداية التسعينات شعار « المساواة في الميراث » بدا الأمر أكثر من محرج لعديد الحساسيات السياسية الديمقراطية منها واليسارية والعروبية فضلا عن الإسلامية بطبيعة الحال، بل ذهب البعض إلى اعتباره في أفضل الأحوال « موش وقتو »أو هو من قبيل التّرف الفكري الذي لا يهمّ سوى بعض الفئات الميسورة التي تملك من المتاع ما سوف يتحوّل إلى رهان ميراث أمّا المعدومين، فلا دخل لهم في الأمر طالما أنّهم لا يرثون سوى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام، هذا إن صحّت المعادلة.

وللتذكير أيضا فإنّ أغلب تشكيلات اليسار التونسي قد قضّت زمنا قبل أن تنخرط في فكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان التي كان يُنظر لها كصنيعة إمبريالية وذات خلفية فلسفية برجوازية تشدّد على حريّة الأفراد قبل حرية الشعوب. فالرابطة التونسية لحقوق الإنسان لم تنشأ في أحضان اليسار الذي لم يعترف بها سوى لاحقا وبعد نقاشات مطوّلة صلبه على مدى السبعينيات والثمانينيات.

أمّا عن القطاعات الهامّة من المجتمع والرأي العامّ، فقد وجب انتظار ثورة جانفي 2011 وما عقبها من توتّرات ومشادّات في بداياتها بين المدّ الدّيني في تعبيراته النهضوية المحافظة ثم في تمظهراته السلفية المتشدّدة، لتعي معنى « حرية الضّمير » التي أدرجت في الدّستور لا بحكم ميزان قوى داخلي فحسب بل، وخاصّة، بفضل عوامل إقليمية لعبت فيها أزمة الإخوانية العالمية، ولا سيما في مصر وقتها دورا حاسما، وانتهت بمقايضات تجلّت في نصّ الدّستور الذي أورد في بعض فصوله وأجزائه الشيء ونقيضه.

بعد طيّ ما عرف بالصفحة السياسية للنزاع مع صدور الدّستور، فتح الملفّ الاقتصادي الكارثي الذي لم يكن، في الحقيقة مغلقا لدى قطاعات واسعة من المجتمع سواء في الجهات أو في الأحياء الحزامية للعاصمة وكبرى المدن وإنّما أصبح يتصدّر اهتمامات والمحلّلين والأخصّائيين من كلّ صنف الذين عجّت بهم وسائط الإعلام.

صحيح أنّ البطالة، والفقر، وشحّ الماء، والنسب المهولة لانقطاع الشباب عن التعليم، وتبعات الكارثة البيئية على صحّة المواطنين، وتدهور الخدمات العمومية ولا سيما منها الصحية والتربوية وغيرها من علامات الأزمة الاجتماعية تحيل بالضّرورة إلى مسائل الحريات الفردية والمساواة إلى مرتبة ثانية في اهتمامات المواطنين. لكن لنذكّر بأنّ المخاض الإصلاحي الذي شهدته تونس تحت الحماية الفرنسية لم يوقف حركته في انتظار تصفية الاستعمار بدعوى سلّم الأولويات بل خاض المعركة الاجتماعية والمعركة التحررية بالتّوازي، واحدة ضدّ المستعمر على الصعيد السياسي وأخرى ضدّ التخلّف والجهل على الصعيد المعرفي والاجتماعي والثقافي. ولا أدلّ على ذلك من الأثر الذي تركته شخصيات مثل الدّوعاجي ومحمود بيرم التونسي وغيرهم من الذين خاضوا معركة الذّهنيات كلّ بطريقته.

ولنذكّر أيضا بأنّه رغم اختلاف التقييمات فيما يخصّ التجربة البورقيبية من حيث إنجازاتها وإخفاقاتها فإنّ الإجماع يكاد يكون حاصلا حول فشلها وقصورها في باب الحريات والديمقراطية التي ما فتئت ترجئهما بدعوى الأولويات وأنّ « الوقت لم يحن بعدُ ».

فالمستخلص من هذه الإطلالة التاريخية أنّ القوى الديمقراطية الاجتماعية المجسّدة اليوم في اليسار بمفهومة الواسع، والقوى النقابية، والطّاقات الشبابية الموزّعة في كلّ المجالات والجهات والتي تعبّر عن ذواتها بشتّى الوسائل الفنية الإبداعية (مسرح، موسيقى، فايسبوك، سينما إلخ)، والنضالية اليومية (اعتصامات، حركات احتجاجية، حملات تحسيسية إلخ) من واجبها أن تقف عند إشكالية التقاطع بين مطلب الحريات الاجتماعية (تشغيل، قدرة شرائية، إمكانيات ممارسة الفعل الثقافي، رعاية طبية، تهيئة عمرانية، تنمية جهوية ومحلية إلخ) ومطلب الحريات الفردية (احترام الحرمة الجسدية للفرد، عدم التدخّل في الحياة الخاصّة للأفراد، حرية التصرّف في الجسد، حرية الضمير والمعتقد، حماية المعطيات الشخصيات إلخ)وعدم التنافر بينها.

الواضح أنّ معركة اكتساب الكرامة لا تقف عند توفير الشغل ومعارضة المنوال الاقتصادي وغيره من المطالب الاجتماعية التي تحرّك قطاعات واسعة من الشباب وغير الشباب بل يفترض أيضا مقاومة « الأخونة النّاعمة » للمجتمع على المدى القريب والمتوسّط والبعيد والتي لا يمكن أن يتمّ دون تربية الأجيال القادمة على الحريّة في كامل معانيها وشعور الفرد أنّه سيد نفسه، وتنمية قدراته على التصدّي، بحكم نضج فردانيته، إلى سلطة الجماعة والإجماع.فالفردانية غير الفردية والأنانية كما قد يذهب في ظنّ البعض أو كما يريد البعض تمريره والإيهام به (ويكفي الرّجوع هنا إلى بيان أساتذة و »علماء » الزيتونة).إنّ الفردنة أو الفردانية سيرورة تحقق استقلالية الفرد من تبعيته لجماعات الانتماء الأسرية والقبلية والدينية والعرقية، وهي اعتراف بالفرد كقيمة وكذات مستقلة لها حقوق لا يمكن ارتهانها باسم قيم أو حقوق جماعات الإنتماء  في حين أنّ الفرداوية كنزعة أنانية تنفي البعد الاجتماعي للإنسان وما يقتضيه من تضامنات.

فبناء التضامنات الاجتماعية بين مختلف الشرائح المجتمعية وبين الأجيال يشترط قبل كلّ شيء أن يكون الأفراد أحرارا في أذهانهم، حريصين على تثمين الحرية في جميع أبعادها وأوجهها لا تأخذ الحرية في بعدها الوظيفي فحسب بمعنى خدمتها للقضية من عدمه في مرحلة ما.

بالمقابل يتعيّن على جميع الأطراف المنخرطة في النضال من أجل الحريات الفردية والمساواة أن تعي تمام الوعي أنّ المواطن الذي يعاني من انقطاع الماء، ويخوض حربا تكاد لا تنتهي مع غلاء المعيشة والأسعار، ويجابه يوميا فراغ الوجود والمعنى بسبب البطالة المزمنة واليأس من ارتقاء إلى مرتبة المواطنة، ولا يجد ما من شأنه أن يمنحه الشعور بأنّ قيمة في حدّ ذاته إلخ،  يصعب إقناعه أو حمله على الانخراط في معركة وجودية لا تُحدّد دلالاتها بالضّرورة ضمن العاجل اليومي بل تتطلّب إدراكا لبعدها الثوري الثقافي وأثرها في تغيير الذّهنيات على مدى الأجيال رغم أنّها تهمّ الفئات الشعبية والمسحوقة أكثر ممّا تهمّ الفئات الميسورة. لذا فهو في حاجة أيضا أن يرى « أطراف الحداثة » والمعنيين بخوض معركة الذّهنيات يقفون إلى جانبه في معركة الحياة والعطش وتوفير الحدّ الأدنى من مقوّمات العيش الكريم.

الخلاصة

لن ندخل في سبر نوايا رئيس الجمهورية عندما بادر بتكوين لجنة الحريات الفردية والمساواة. هل كان يريد من وراء علاقته البسيكاناليتيكية ببورقيبة أن يحمل المشروع التحديثي إلى منتهاه ومن حيث لم يجرأ بورقيبة على تخطّي آخر العقبات في إلحاق مجلة الأحوال الشخصية بما تقتضيه منظومة حقوق الإنسان الدّولية وسائر الاتفاقيات الدولية الأخرى، أم هي مناورة من طرفه ليضع حركة النهضة في المأزق ويؤجّج الصّراع بين أجنحتها ويفسد على الغنّوشي مخطّط الأردغنة (نسبة لنموذج أردوغان التركي)النّاعم، ويخلع عنه كسوة الحداثة ليعيده إلى الجلباب الإخواني الذي يسهل التعرّف عليه وضبط معالمه كخطر داهم. وقد يرى البعض أنّ هذا التّقرير وجه آخر لشروط الدوائر الدّولية والمؤسسات المالية العالمية يوازي الوجه الاقتصادي لخططها تجاه تونس. أي وجه الاستعمار الثقافي المتمّم أو المكمّل للاستعمار الاقتصادي وإلى ما ذلك من التخمينات والفرضيات التي لا سبيل إلى الإتيان عليها جميعا هنا.

أكيد أنّ للسياسة دورها في قرار رئيس الدّولة لكن الأهمّ من كلّ ذلك أنّ ما ورد في هذا التّقرير، وتجاوزا لخلفيات الطّرف أو الأطراف الذي أذن بصياغته، فهو يمثّل دون ريب :

  • ثورة حقيقية في مجال التشريع على الأقلّ إذ سيضفي على دستور 2014 فهما أوضح في اتجاه الدولة المدنية وترسيخ مفهوم القانون الوضعي، وتجاوز التضارب بين بعض فصول الدّستور فيما بينها أو تكييف قراءة البعض منها استنادا إلى الديباجة الكافكائية لهذا الدّستور.
  • مرجعا للسلط التحكيمية والقضائية لإنتاج فقه قضاء أكثر تلاؤما مع الأحكام الدولية في مجال حقوق الإنسان وسائر المعاهدات والاتفاقيات التي صادقت عليها تونس، وأكّد الدستور التونسي التزام بها. ففقه القضاء قد غلب عليه، مع بعض الاستثناءات، تأويل الفراغات التشريعية أو عدم وضوحها الصريح في المجال المدني باتجاه العودة إلى مضمون التشريع الإسلامي المالكي (زواج التونسية بغير المسلم، حقّ الزوجة الأجنبية في الميراث، حضانة الأطفال عندما تكون الأمّ المطلقة غير مسلمة إلخ).
  • خطوة كبيرة في معركة الذهنيات وتغيير العقليات من أجل تحرير الفرد من سطوة الجماعة ووطأة النظام الأبوي والذكوري، وخلق الشروط من أجل مساواة حقيقة بين المواطنين والمواطنات بقطع النظر عن الجنس، والمعتقد، والرأي، واللّون، والعرق.

وأخيرا، نداء إلى جميع الذين وقفوا في وجه مشروع أسلمة المجتمع، وجميع الذين خرجوا في حملات قانون 52، و »مانيش مسامح »، واعتصامات الكرامة، و « مُش بالسيف »، و »تعلّم عوم »، وغيرها من مئات التحركات الشبابية المتفرّقة التي كان دافعها الشعور بالاعتداء على الذّات البشرية، ورفض المهانة، وإرادة رفع الرّأس في وجه ماكينة العنف المؤسساتي أو الديني أن يدركوا أنّ معركة التشريع والقانون هي أوّل المعارك لضمان مرجعية قانونية مجرّدة  تساعد على خوض النضالات الفردية و الجماعية والطبقية بأكثر ثقة في النفس و بتضامن عضوي يضفي الشرعية على التحرّكات فضلا عن مشروعيتها.

والنداء موجّه أيضا، ومرفوقا بأكثر من نقطة استفهام، إلى الأحزاب التقدمية والديمقراطية واليسارية (استنادا إلى ما هو مسجّل على يافطاتها)، لتخرج عن صمتها وتردّدها وحساباتها السياسوية الضيقة بداعي الخوف من التصادم مع الشعب. فالشّعب ليس أبله. وهو يحترم كلّ من يتحمّل مسؤولية أفكاره ويدافع عنها بوضوح وجرأة، ويمقت كلّ من يحاول التّلاعب بمشاعره وإبداء ما لا يضمر. فضلا على أن الشعب التونسي مدفوع كغيره من الشعوب إلى أن يخوض الصراعات الفكرية الضرورية داخل فئاته وشرائحه حتى يتسنى له القبول بقيم العيش المشترك.

وشخصيا، أنتظر من الجبهة الشعبية أن تعلن موقفها بوضوح. وخشيتي أن تمرّ مرّة أخرى حذو لحظة تاريخية بدعوى، هذه المرّة، أنّ القضية لا تهمّ خالتي مباركة !

08 جويلية 2018

صدر أيضا بجريدة المغرب بتاريخ 11 جويلية 2018

Show More
Close