« الثّورة وتداعيات الذّاكرة » بقلم محمد الشريف الفرجاني
وأنا أُتابع الانتفاضات التي انطلقت من سيدي بوزيد، بعد أن أضرم محمّد البوعزيزي النّار في نفسه، لتمتدّ إلى قرى ومدن السّباسب السّفلى والسّباسب العليا قبل أن تعُمّ أنحاء البلاد، رَجَعت بي الذّاكرة إلى سنوات 1960 حيث كنتُ تلميذًا بالمعهد الثّانوي المختلط بالقيروان صحبة مئات التّلاميذ الوافدين على عاصمة الأغالبة من أرياف سيدي بوزيد والمكناسي وجلمة وسبيطلة والقصرين وتالة وفريانة وحفّوز والعلا وحاجب العيون والوسلاتية وسيدي علي بن نصر اللّه وسيدي عمر بوحجلة والسبيخة و كسرى ألخ…
فذكّرتني أسماء المدن والقرى المنتفضة برفاق تحيل ألقابهم على تفرّعات القبائل والعروش المستوطنة بهذه الرّبوع التي غالبا ما كانت ضحية قساوة المناخ وقلّة الأمطار…وظلم الحكّام : الهمّامي والحامدي والجلاصي والرّابحي والسّالمي والغرسلاّويوالعبدلاّوي والبلطي والدّلهوميوالأجنف والتّيمومي والمسعودي والعبّاسي والمحفوظي والمنصوري والهرماسيوالورغمّي والكعبي والفايديوالزايري والوسلاتي والحاجبي…
ولمّا فرّ بن علي وحاولت حكومتا الغنّوشي الانتقاليتان إنقاذ ما أمكن من بقايا نظامه، وتحوّلت الانتفاضات إلى اعتصامات ومظاهرات في القصبة وشوارع العاصمة لشباب مهمّش زحف من الأرياف على مراكز السّلطة ليُطالب بمواصلة الثّورة حتّى تحقيق مطالب “الشّغل والحريّة والكرامة” التي مات من أجلها العشرات، ولاحت في ردود فعل بعض الأوساط الحضرية (الْبَلْدِيَّة) علاماتُ الفزع والتّبرّم ممّا اعتبرته “همجيّة” هؤلاء “الأجلاف” المهدّدين لمكاسب الرّقيّ والتّمدّن… تملّكتني نفس المشاعر التي كانت تجمعني بالوافدين من أرياف السباسب على “عاصمة الأغالبة” تجاه ازدراء من كانوا يُسمّوننا “عْرَبْ” (بمعنى “أعراب”، أولئك الذين قال عنهم القرآن إنّهم “أشدُّ كفرًا” ورأى فيهم ابن خلدون أكبر خطر على “العمران” والحضارة) وينعتوننا بالأجلاف على اعتبارٌ إتياننا المدينة بعاداتٍ وسلوكاتٍ ولهجاتٍ غريبة عن “آداب العمران” والحضارة.
وأنا أتابع اعتصامات القصبة وتجمعات القبّة وما يُرفع هنا وهناك من شعارات مستلهمة من المخزون الثقافي القائم على المقابلة الخلدونية بين “الْعْرَبْ والْبَلْدِيّة” وبين “الآفاقيّين والمتفوّقين”[1]، تذكّرتُ عبارات بعض أساتذتنا القيروانيين الذين كانوا لا يتورّعون على نعتنا بالأجلاف لأسباب لا علاقة لها بأدائنا الدّراسي ولا حتّى بما يفرضه النّظام المدرسي من قواعد وسلوك… من ذلك أنّ أحد رفاقنا من القيروانيين توجه مرّة لأستاذ قيرواني قائلا :” أُبَّيْفلان” عوضا عن “سيدي” فثارت ثائرة الأستاذ إزاء هذا النّشازغالبةأعن آداب التّخاطب بين التلميذ وأستاذه فقال :”هل أنا سقّاء حتّى تناديني بهذه العبارة ؟” ولم يتمالك نفسه ليُضيف :”أنا أعلَم أنك غير مسؤول عن هذا الخطإ هذا ما كان ليَصْدُر عن تلميذ متأدِّبٍ مثلك لولا تأثير هؤلاء الأجلاف الذين جاؤوا المدينة بعاداتهم وعباراتهم المنافية لقواعد الأدب !”. وما أذكره في هذا الصّدد تصرّف أحد مدراء المعهد من أصل قيرواني، دشّن عهده في أوّل يوم من السّنة الدّراسية مهدّدا :”لقد جئتُ لأطهّر القيروان من الرّعاع والأجلاف الذين أفسدوا عاداتِ المدينة !”. ولقد كان لهذا الازدراء والتمييز تــأثيرات متباينة على التّلاميذ الوافدين من الأرياف : بعضهم كان يحاول (غالبا دون جدوى) إخفاء أصوله الريفية والتّشبّه بأهل المدينة في سلوكه ولهجته في حين كان البعض الآخر يُبالغ في التباين مع “البلْدِية” ولا يتورّع عن مقابلة الازدراء بمثله واصفا رفاقه من أهل المينة بـ”الميوعة”. ولئن كانت سياسة الازدراء والتّمييز حافزا يدفع ببعض “الريفيين” إلى مضاعفة الجهد للنّجاح والتّفوّق، فإنّها ساهمت في إحباط عزيمة عدد كبير منهم ودفعت بالبعض منهم إلى الانقطاع المبكّر عن التّعليم. ولم ينجح في الخلاص من المقابلة الخلدونية بين “البدو” و”الحضر” إلاّ ما ندر وخاصة من انخرط منهم في صفوف اليسار الذي وفّر أرضية لتجاوز تلك المقابلة والاستعاضة عنها بالتّماهي مع مصالح الطّبقة العاملة والشّعوب المضطهدة والثّورة على مصالح “البرجوازية والأمبريالية الرّجعية”.
وقد كانت بوادر هذا التجاوز بالنسبة لي في المعهد الثّانوي بالقيروان من خلال التّعاطف الذي أبداه عدد من رفيقاتنا ورفاقنا القيروانيين عندما وقع طردي وعبد العزيز بن عزيزة (والحقّ أنّ عبد العزيز هو الذي “أطرد” نفسه تضامنا معي !) ثمّ طرد الميداني الرّابحي وسالم الورغمّي سنة 1968 على خلفية بداية رفضنالعدد من مظاهر الظّلم والحيف وبعض الممارسات السلطوية من طرف عدد من الأساتذة والقيّمين فضلا عن المدير، وما كان يغذّي هذا الرّفض من توق للحرية والمساواة. فنشأت في ظلّ هذا التّضامن علاقات جديدة لا مكان فيها للتّمييز بين قروانيين، فتيات وشبّانا، مثل القصيبي والعلاّني والحمّاص ومالوش والصغير وبالعربي ونقرة… وريفيين مثل الآجنف والجلاصي والرّابحي والورغمّي والحاجّي… ثمّ أخذ هذا التّضامن بُعدًا سياسيا يساريّا في المظاهرة التي نظّمها تلامذة المعهد سنة 1970 احتجاجا على موت أحد التلاميذ من النّازحين من الأرياف المحيطة والمقيم بالمعهد. وقد قاد هذه المظاهرة تلاميذ منتظمون في حلقة ينشّطها أحد مناضلي منظمة “آفاق” ابراهيم رزق اللّه إثر خروجه من السجن وفرض الإقامة الجبرية عليه في القيروان. وتبدّدت نهائيا ظلال المقابلة الخلدونية بين “البدو” و”الحضر” في صفوف حركة “آفاق- العامل التّونسي” التي انتميت لها مع بداية 1973 وتقاسمتُ مع الكثير من مناضليها سنوات السرية ثمّ السجن بين 1975 و 1980ولم أشعر بتاتا بأنّ هذه المقابلة أثّرت على ما كان بيننا من تقاربات أو تباينات.
اندلعت الثّورة وقد أصبحت منظمة “آفاق– العامل التّونسي” في عداد ملفّات اليسار. لم يكن لليسار ولا لغيره من الحركات السياسية دور في قيادتها –ولكنّ الشعارات التي تعبّأت وراءها الحركة الاجتماعية المنادية بـ”الشّغل والحريّة والكرامة الوطنية” وبإسقاط النّظام والتّداول على السّلطة لم تكن غريبة عن الشعارات التي بلورناها وعبّأنا على أساسها الحركة الطلابية والمدرسية والحركات الاجتماعية في تونس وفي المهجر قبل أن تُطوى صفحة المنظّمة التي تجاوزنا في إطارها المقابلة الخلدونية بين “البدو” و”الحضر” وما عرفته من تلوينات مازالت مستمرّة إلى اليوم . فما الفرق بين هذه الشعارات وتلك التي صغناها مثل “الخبز والحرية والكرامة الوطنية” و “لا بورقيبة باي ولا نويرة خليفة،يلزم الانتخاب والديمقراطية” ردًّا على تحوير الدّستور لإسناد الرئاسة مدى الحياة إلى بورقيبة وتوريث وزيره الأوّل السلطة من بعده ؟ وكم حزّ في نفسي رحيل رفاق لنا قبل أن يُشاركونا انتصار ما كنّا نطمح له ولو من دون مشاركتنا المباشرة في الثّورة. تذكّرت، وأنا أبكي فرحا يوم هروب بن علي، رفاقي الحبيب القطاري (أبسيلون)، ومحمد البوغانمي (اللأستاذ)، وأحمد بن عثمان، ونور الدين بن خضر، وعمّ خميّس (المولدي زليلة)، والطيّب القطاري، ونور الدين بوراوي، وفتحي المسدّي، ومحمد الشّرفي (مع المعذرة إن نسيت أحدا ممن رحلوا عنا ولم يشهدوا مثلنا بعضا من أحلامنا تتحقّق من خلال هذه الثورة). كما تذكّرت أبي، حسين الفرجاني، وعمّ الجيلاني بن الحاج يحي، ومن رحل من عائلاتنا التي وقفت بجانبنا وهي لا تدري لماذا أقدمنا على ما أدّى بنا إلى قضاء سنوات من شبابنا في السّجن، وقلت لو عاشوا معنا تهاوي نظام بن علي لفهموا بعضا من أسباب عنادنا ومعارضتنا للنّظام ورفضنا طلب العفو.
كان هاجسي، ونحن نعيش انهيار الدّكتاتورية أن يستفحل ما لاح في أفق الثّورةمن نعرات قبلية- عشائرية وجهوية وردود فعل تستلهم النظرية الخلدونية، فيعود بنا المتربّصون بالطموحات الديمقراطية للثورة إلى مقابلات وهمية تعيد صياغة ثنائية “البدو” و”الحضر” في أشكال جديدة أو تستعيض عنها بما هو أخطر منها كالمقابلات “بين “الإسلام والكفر” و”نحن والآخرون” وما إلى ذلك ممّا يلجأ إليه تجّار الأوهام لمغالطة أولئك الذي يغلب عليهم اليأس وتختلط عليهم سبل الخلاص.
ولقد رأينا خلال الفترة التي تلت الثّورة وسبقت الانتخابات نماذج من هذه المقابلات الوهمية التي خيّمت بظلالها على مسار الثّورة وأدّت إلى تحقّق الكثير ممّا نخشاه كدخول القوى الديمقراطية التّقدّمية مشتّتة الصّفوف بقوائم متنافسة متنافرة لتحصد ثمار انقساماتها، وفوز قوائم النّهضة ومن أعلنوا مسبقا عزمهم التّحالف معها، واستغلال موازين القوى التي أفرزتها الانتخابات من طرف جماعات سلفية رجعية استولت على كثير من الجوامع لتجعل منها منابر لدعاويها الظّلاميّة، واقتحمت فضاءات مدرسية وجامعيةلتفرض النّقاب وتُعطّل الدّروس والامتحانات وتفصل بين الإناث والذّكور وتتهجّم على المدرّسين الذين تعتبرهم كفّارًا يدرّسونعكس ما جاءت به تعاليم الإسلام، واجتاحوا فضاءات عمومية مستعملين مختلف أنواع العنف لترويع المواطنين وإجبارهم على اتّباع سلوكات مناقضة لما أحرزته البلاد منذ أكثر من نصف قرن في مجالات الحرية والمساواة والتّقدّم. ولم تقف هذه الجماعات عند حدّ التّعبير عن رؤاها ولا حتّى عند التّهديد لمن يخالف تصوّراتها بل رأت في صمت السّلطة المنبثقة عن الانتخابات تجاهممارساتها تشجيعا يسمح بالاعتداء على المواطنين والصحافيين والمبدعين من فنّانين وكتاب ومفكّرين، وكلّ من يقف في وجهها. فازدادت المخاوف وكثرت التساؤلات عن الثورة : هل قامت من أجل هذا ؟وهل يمكن أن يقبل الشعب الخضوع من جديد للاستبداد بعد أن تحدّى الدّكتاتورية وحاول كسر أغلالها فكان له ما أراد ؟
للجواب عن هذه الأسئلة لا يمكن الاكتفاء برصد سياسات الائتلاف المنتصر…ومواقف المعارضة داخل المجلس التّأسيسي، واجتماعات الأحزاب وبياناتها… بل يجب التفطّن إلى ما لم يقع الانتباه إليه قبل اشتعال شرارة الثّورة في نهاية سنة 2010 من حراك اجتماعي بمختلف تعبيراته المدنية من جمعيات ونقابات ومنتديات ثقافية وأشكال جديدة للتعبئة عبر قنوات تواصل لا تقدر أيّ سلطة حكومية أو حزبية التحكّم فيها. فهي التي كانت شرايين الثّورة، وهي التي فرضت ومازالت تفرض على الائتلاف الحكومي تنازلات وتراجعات ما كانت موازين القوى التي أفرزتها الانتخابات لتسمح بها… وهي التي تضغط على تيّارات المعارضة التقدّمية والدّيمقراطية لتدفع بها في طريق الخروجمن تشتّتها… وهي التي تواجه بشجاعة قوى السّلفية والرجعية التي تريد فرض تصوّراتها على المجتمع… وهي التي تضغط على الحكومة لإجبارها على الخروج من صمتها تجاه ما ترتكبه هذه القوى من أعمال تهدّد الحريات الجماعية والفردية كما تهدّد مكاسب البلاد وأمن العباد…
ومن يتابع الاعتصامات أمام المجلس التأسيسي منذ اجتماعه الأوّل، والمظاهرات المطالبة باحترام الحريات والحقوق الأساسية للأفراد والمواطنين لا يمكن سوى كبح جماح تشاؤمه. فرغم نجاح النّهضة والحركات السلفية في جرّ عدد من سكّان الأحياء الشعبية إلى تحركّات مناهضة للمعتصمين الوافدين من المناجم والمناطق الداخلية التي انطلقت منها شرارة الثّورة ومناوأة مظاهرات المنعوتين بـ”صفر فاصل صفر” من شباب ونساء ورجال يدافعون عن أهداف الثّورة وما فرضته من حريات توّجت ما تحقّق للبلاد من مكاسب حداثية، ورغم ما أبدته الحكومة من صمت تجاه تطاولات السلفيين وتبرير لها وتشويه لاعتصامات المطالبين بتحقيق أهداف الثورة،رغم كلّ ذلك لم تفتر عزيمة المجتمع المدني وتجاوزت تحرّكاته من حيث الوعي ما كان يتهدّد اعتصامات القصبة واجتماعات القبّة من نزعات شابها ما يُذكّر بالمقابلة الخلدونية المقيتة بين البداوة والحضارة… والأمل كلّ الأمل في أن تتبلور رؤية سياسية تسمح بالخروج نهائيا من حلقة المقابلات الوهمية التي تغذّيها وتتغذّى منها قوى الاستبداد والاستغلال والظّلم والتّمييز، رؤية تتوحّد على أساسها القوى الطّامحة لمزيد من الحريّة والمساواة. ذلك هو رهان المعارك القادمة في إطار ما حقّقته الثّورة من مكاسب ديمقراطية ينبغي الدّفاع عنها ودعمها بمكاسب جديدة.
هل ستنجح القوى الديمقراطية في توحيد صفوفها لرفع هذا التّحدّي ؟ هل بإمكانها أن تُحوّل هزيمتها في انتخابات المجلس التأسيسي إلى نقطة انطلاق لانتصارات ديمقراطية جديدة بالاعتماد على قوى المجتمع المدني التي أظهرت من الوعي والمقاومة ما يسمح بكسب هذا الرّهان ؟ ذلك ما سوف تبيّنه الأشهر القادمة التي تفصلنا عن الانتخابات التشريعية والرئاسية… إذا ما تمكّنت من تعبئة القوى الديمقراطية وإجبار الائتلاف الحاكم على احترام موعد هذه الانتخابات.
فيفري 2012
[1]– في ثلاثينيات القرن العشرين، أسّس جماعة من علماء الزّيتونة من أصول حضرية جمعية أسموها “جمعية المتفوّقين لمقاومة الآفاقيّين”لأنّهم لم يكونوا راضين عن احتلال عدد من “الآفاقيين” بعض الخطط التي دأبوا على احتكارها.