الدور الثاني للانتخابات الرئاسية و الفرز المؤلم داخل العائلة التقدمية  

بكار غريب

لقد ودّعنا منذ أيام سنة 2019، لكن، للأسف، لم نودّع معها الأزمة. فالصعوبات الاقتصادية ما زالت قائمة ولعلّها تفاقمت على نحو غير مسبوق. ضمن هذا السياق المحمّل بجميع المخاطر بقدر ما هو محمّل ببعض الوعود، جرت الانتخابات التشريعية والرئاسية في غير موعدها إثر وفاة الرئيس الباجي قايد السبسي وهو ما زاد الوضع إرباكا. ومع إعلان النتائج، كانت الفرقعة المعلنة في الموعد، وتعدّدت الآراء والتّقييمات والمقاربات في الساحة السياسية والفكرية.

جمعية « نشاز » تقدّم هنا بعضا من هذه المقاربات لصديقات وأصدقاء شاركونا أنشطتنا الحوارية وأبدوا آراءهم التي تعكس، في الأخير، ما حملته لنا تلك السنة السياسية المتميّزة من مخاطر ووعود في الآن ذاته…


تطرق الصديق ماهر حنين في مقال هام نشره قبيل الدور الأول للانتخابات الرئاسية إلى ما سماه « حيرة الرفاق » متوقفاً أولاً على حيرتهم باعتبارهم جزء من « العائلة الحداثية » ثم و بالأساس على حيرتهم كيساريين و تقدمييين أمام المشهد السياسي الحالي و أمام الرهانات التي كنا إزاءها عشية 15 سبتمبر الماضي. و لا شك أن نتائج الدور الأول من هذه الانتخابات لم تبدد هذه الحيرة بل أنها عمقتها بعد أن نجحت في المرور إلى الدور الثاني شخصيتان لا تنتميان إلى العائلة اليسارية – و هذا كان متوقعاً – و لكنهما لا تنتميان كذلك إلى العائلة الحداثية الواسعة. فالأول، أي الأستاذ قيس سعيد، ليس سليل هذه العائلة و هو و إن يحمل مشروع ديمقراطية راديكالية مبنية على تصور راديكالي لمبدأي إرادة الشعب و اللامركزية، فإنه صرح بكل وضوح على تبنيه لمواقف محافظة في علاقة بقضايا المساواة بين الجنسين و الحريات الفردية. أما الثاني، و هو السيد نبيل القروي، فهو و إن عبر عن تبنيه لطرح تقدمي في ما يخص هذه القضايا المجتمعية، فإنه بالأساس رجل أعمال في ميدان الاتصال تسلل مؤخراً إلى عالم السياسة، موظفاً في ذلك العمل الخيري و قناته التلفزية التي اختصت في بث المسلسلات التركية. و هو إذا نظرنا إليه من هذه الزاوية لا يعدو أن يكون سوى مرشح المنظومة الاقتصادية الفاسدة.

و من الطبيعي أن يضع هذا الدور الثاني معشر التقدميين في وضع غير مريح. لأنه من المفروض أن هؤلاء يحملون في نفس الوقت القضية الاجتماعية و القضية المجتمعية. فهم يتوقون إلى تحقيق حداً أدنى من العدالة الاجتماعية بين الطبقات و بين الجهات كما أنهم يسعون إلى تحقيق المساواة بين الجنسين و توسيع مجال الحريات الفردية. فكانت عملية الحسم عن طريق بلورة موقف متجانس يتماشى مع قيمهم و مبادئهم عملية معقدة و عسيرة. فإما أن يسبقوا هدف تحقيق العدالة الاجتماعية على هدف تحقيق المساواة بين الجنسين و توسيع مجال الحريات الفردية و ينحازون هكذا إلى الأستاذ قيس سعيد، و إما أن يسبقوا هذه القضايا المجتمعية على مبدأ العدالة الاجتماعية و ينحازون هكذا إلى السيد نبيل القروي. و إما أن يعجزوا عن الحسم فلا ينحازون إلى هذا و لا إلى ذاك، فيمتنعون عن التصويت أو يلتجئون إلى التصويت الأبيض ليعبروا عن رفضهم لكلا المرشحين.

هكذا ارتسمت إذاً مسألة اختيار المرشح لرئاسة الجمهورية – أو عدم الاختيار – أمام كل من يحمل فكراً تقدمياً في هذا الدور الثاني للانتخابات : أيهما أهم أو أيهما أوكد في هذه المرحلة من تاريخ البلاد : مطلب العدالة الاجتماعية الذي يحمله الشباب في السواحل و الدواخل أم مطلب المساوة بين الجنسين و الحريات الفردية الذي تحمله بالأساس نخب حضرية؟ لكن لا شك أن هناك عناصر أخرى أخذت بعين الاعتبار عند حسم الأمر أو تدخلت بطريقة أو بأخرى لتدفع نحو أحد المرشحين أو لتأكيد الرفض لكليهما. و هذه العناصر هي موقف التقدميين من الثورة و من حركة النهضة و من « منظومة الفساد ». سنحاول إذاً تفسير الخيارات الثلاثة التي وضعها هذا الدور الثاني أمام « العائلة التقدمية » استناداً إلى الاشكاليات التي قدمناها أعلاه. ثم سنتطرق إلى الفرز المؤلم الذي أدى إليه هذا الدور داخل هذه « العائلة  » مع التأكيد أنه في رأينا لن يكون وقتياً بل أنه ربما سيساهم في هيكلة المشهد التقدمي للسنوات المقبلة و سنتساءل في النهاية أي هذه الخيارات سيمثل إمكانية استفاقة لليسار التونسي بعد نتائجه الكارثية في الانتخابات التشريعية و الرئاسية الأخيرة.

 خيار القروي : تسبيق « نمط العيش » على القضية الاجتماعية و مقاومة الفساد

من منا كان يتوقع قبل نتائج الدور الأول للانتخابات أن يلتحق جزء من التقدميين  بنبل القروي و حزبه « قلب تونس » و خاصة بعض المثقفين منهم بعد أن استهزأوا بالمواطنات البسيطات و « الأميات » الاتي صوتن له بكثافة مقابل ما وزع عليهن من « مقرونة » و ما بث لهن من مسلسلات تركية؟ من منا كان يتوقع مثل هذا الخيار و الكل يعرف ما تحوم حول هذا الشخص من شبهات فساد و بعد أن استمع القاصي و الداني إلى التسجيل الذي فضح أسلوب تعامل هذا المرشح مع مناوئيه من المجتمع المدني؟

و لكن هذا ما حدث فعلاً، فرأينا العديد يعلنون صراحةً أنهم يفضلون « المتحيل على الفاشي » و يبررون اختيارهم للفاسد و المتهرب الجبائي بمقولة « كلنا فاسدون و كلنا متهربون من الجباية ». و قد تجسد هذا الخيار قبل الدور الثاني للرئاسية من خلال نتائج الانتخابات التشريعية التي سجلت ارتفاعاً ملحوظاً في جل الدوائر لعدد المصوتين لقلب تونس مقابل عدد المصوتين لرئيس هذا الحزب قبل أسبوع. و بطبيعة الحال كان أهم تبرير لاصطفاف هؤلاء التقدميين وراء نبيل القروي هو أن هذا الأخير – على عكس منافسه – لا يمثل خطراً على مكاسب المرأة التونسية و على الحريات الفردية التي يتمتع بها التونسيون اليوم. و كان تبريرهم الثاني لهذا الاصطفاف يتأسس على فكرة أن التقدمية تعني بالضرورة معاداة الإسلام السياسي و هو ما يفترض أن يحتل التقدمي موقعاً نقيضاً لموقع الإسلامي، و بما أن حركة النهضة و روابط حماية الثورة قد اختارت مساندة قيس سعيد في هذا الدور الثاني فوجبت معارضة هذا الأخير و ذلك بدعم منافسه نبيل القروي.

و الجدير بالملاحظة هنا أن التقدميين الداعمين لنبيل القروي لم يبدوا حرجاً كبيراً من أن يكون مرشحهم عنصراً بارزاً إن لم نقل رمزاً من أهم رموز المنظومة الاقتصادية – السياسية الفاسدة التي انتفضت عليها الثورة صارخةً في وجهها شعارها الشهير في ديسمبر 2010 في شوارع سيدي بوزيد و القصرين ثم في ساحة محمد علي بالعاصمة : « التشغيل استحقاق يا عصابة السراق ». و بذلك يكونون قد تناسوا هذين المطلبين الرئيسيين للثورة (التشغيل و مقاومة الفساد) مختزلين هذه الأخيرة في مطلبي الديمقراطية و الحريات.

هكذا إذاً دفع هذا الدور الثاني القاسي بجزء من « العائلة التقدمية » إلى التصويت لمرشح المنظومة الفاسدة على أن يؤمنهم على « نمط عيشهم ». و لكن هذا الدور كان قاسياً كذلك بالنسبة لجزء ثانٍ من التقدميين، أولئك الذين اختاروا التصويت لصالح « المرشح المحافظ »، الأستاذ قيس سعيد.

 خيار سعيد : تسبيق القضية الاجتماعية على القضايا المجتمعية 

أمام هذه الحالة أيضاً يجدر بنا التساؤل : من منا كان يتوقع قبل هذا الدور الثاني أن يلتحق جزء من « العائلة التقدمية » بالأستاذ قيس سعيد، هذا المرشح المحافظ في علاقة بالقضايا المجتمعية و الذي لم يبد خلال الحملة الانتخابية أي استعداد لدخول بيت الطاعة الحداثي. فكلما سئل حول المساوة في الإرث أو عقوبة الإعدام أو المثلية الجنسية إلا و أصدح بمواقف محافظة، مفضلاً مبدأ العدل عن مبدأ المساوة في القضية الأولى و متمسكاً بالعقوبة في القضية الثانية و مكتفياً بالقانون الحالي في القضية الثالثة. فما الذي دفع بجزء من التقدميين التونسيين إلى التغاضي عن مثل هذه الأمور و إلى التصويت لصالح مرشح لا يحمل البتة أفكارهم على المستوى المجتمعي؟

من الواضح أن هؤلاء التقدمين اعتبروا أن قيس سعيد، بالرغم من نقائص رؤيته المجتمعية، يحمل بقوة القضية الاجتماعية و خاصة تطلعات العاطلين عن العمل و الجهات الأقل حظاً في التنمية. هذه التطلعات التي تجسدت في جملة قصيرة قالها أحد الشبان للمرشح و رددها هذا الأخير على المنابر الإعلامية : « نحبو نعيشو كيفكم ». و من لا يرى أن في هذا التطلع استحضاراً للحظة 17 ديسمبر من الثورة؟ و أن وراءه تذكيراً بنفسها الاجتماعي الذي وضعته النخبة السياسية بين قوسين طيلة كل هذه الأعوام؟ و من هذا المنطلق فإن دعم جزء من التقدميين لقيس سعيد لا يستند إلى برنامجه في إرساء لامركزية جذرية بقدر ما يستند إلى استحضاره للحظة الثورة و تذكيره بطابعها الاجتماعي. هذا على كل حال هو ما رآه فيه الشباب الداعم له و هذا هو ما أصبح يرمز إليه هذا المرشح، شاء أم أبى. و ما دمنا على مستوى الرمزية، فلا يجب أن نغفل عن بعد ثانٍ تعكسه شخصية هذا الرجل الآتي من خارج الأحزاب الذي رفض الدعم المالي الموكول له كمترشح و الأستاذ الجامعي المتواضع الحريص على تطبيق القانون، فأصبح يرمز بنزاهته و استقامته إلى مقاومة الفساد، و شاءت أقدار صناديق الاقتراع أن يجابه في الدور الثاني رمزاً من رموز الفساد.

هذه إذاً أهم الأسباب التي دفعت بجزء من التقدميين إلى الانحياز لقيس سعيد. لكن بقي أمامهم حاجز وجب تخطيه للتصويت لصالحه : هل يجوز لتقدمي يحترم نفسه أن يصوت في اللحظة الحاسمة جنباً إلى جنب مع النهضويين الذين أعلن حزبهم مساندته لسعيد في الدور الثاني؟ يبدو أن هؤلاء التقدميين قد تجاوزوا هذا الإشكال و ربما أنهم تذكروا تصويتهم جنباً إلى جنب مع النهضهويين ذات جانفي 2014 للمصادقة على دستور البلاد الجديد.

هكذا انقسمت إذاً « العائلة التقدمية » بمناسبة الدور الثاني بين من اختار « (المدافع عن نمط العيش التونسي » / « رمز رأس المال الفاسد ») و من اختار (« المنتصر للعدالة الاجتماعية » / « المحافظ الفاشي ») دون أن ننسى من عجز عن الحسم و فضل عدم التورط إلى جانب هذا أو إلى جانب ذاك، فبقي محايداً أمام هذه المواجهة و حافظ على عذريته لمعارك مقبلة. لكن ما هي مآلات هذا الفرز في علاقة بمستقبل « العائلة التقدمية » بمختلف أجزائها؟ هل ستكون انعكاساته سطحية و قصيرة المدى أم ستكون عميقة و طويلة المدى بما يسمح بإعادة تشكل المشهد التقدمي؟

 انعكاسات الفرز 

لا شك أن لا أحد من التقدميين كان يتمنى دوراً ثانياً مثل الذي منينا به، لكن هكذا شاءت صناديق الاقتراع و تعدد الترشحات التقدمية و تشتت أصواتها. و علينا الإقرار بأن الخيار الصعب الذي فرضته الصناديق على التقدميين كان له بعض المزايا إذ أجبرهم على بلورة تحليل معمق يؤسسون عليه موقفهم. كما أنه أجبر الجميع على الكشف عن نفسه و نجح بالخصوص في تعرية من صنفوا أنفسهم تقدميين و ما كانوا كذلك. فلا يمكن في رأيي اعتبار من صوتوا لصالح نبيل القروي جزءًا من « العائلة التقدمية ». لأن التقدمية تتعارض في جوهرها مع الفساد و توظيف العمل الخيري و قنوات تلفزية  لمآرب سياسية.  و الأرجح أن هذه « العائلة التقدمية » لم تكن سوى مجرد التقاء مرحلي بين تيارات سياسية و طبقات اجتماعية مختلفة وجدت نفسها في نفس الخندق أيام الترويكا و عشية انتخابات 2014. و اليوم يبدو جلياً أن الهاجس الرئيسي لمن صوت للقروي من بين التقدميين كان المحافظة على « نمط عيشه » و مصالحه الاقتصادية و موقعه الاجتماعي. فما كانوا تقدميين بما يحمل هذا المفهوم من معانٍ على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي و إنما كانوا ليبراليين على الصعيد المجتمعي و يمكنهم اليوم قطع « تسكرة التقدمية »…

و لكن ما يمكن قوله في علاقة بالخيارين المتبقيين : من رفض الاختيار بين المرشحين و من انحاز لقيس سعيد؟ كما قلنا سالفاً يمكن وضع الامتناع عن التصويت في خانة رفض التورط في هذه المرحلة إما إلى جانب الرأسمالية الفاسدة و إما إلى جانب التيار المحافظ على الصعيد المجتمعي بما يحفظ حظوظاً لإعادة بناء الذات في المستقبل على قواعد صلبة. لكن من لا يرى ما يحمل مثل هذا الموقف الطهوري من سلبية و من انتظارية و هي سمات تتعارض مع كنه الفعل السياسي؟ و من هنا يصعب اعتبار موقف الحياد في الدور الثاني كنقطة انطلاق لتموقع تقدمي جديد و فاعل في المشهد السياسي التونسي، كما أبرز ذلك جلياً الرقم الهزيل جداً الذي حصدته البطاقات البيضاء …

أما الموقف الثالث الذي اختار الانحياز لقيس سعيد، فهو بالرغم من ما يحمله من مخاطرة، يبدو لنا كالخيار القادر على انتشال اليسار التونسي من سقوطه المتواصل و على فك عزلته. لأن أصحاب هذا الخيار أدركوا جيداً أولوية القضية الاجتماعية في هذه اللحظة من تاريخ البلاد، و هو سوف ما سيعيد اليسار إلى أصله و أسس هويته. و هذا الخيار يمكن في رأينا أن يؤسس أكثر من غيره لمستقبل اليسار لأنه كان خيار الشباب التقدمي الذي كسر حاجز الخوف و تحرر من الطابوهات التي كانت و لا تزال تعيق تحرك اليسار القديم – يسار الكهول و الشيوخ الذي ظل حبيس صراعات سبعينيات و ثمانينيات القرن الماضي – الذي بقي غريباً و معزولاً عن مجتمعه رغم حرية التنظم و التعبير و النشاط التي أهدته الثورة.

فرز الدور الثاني للانتخابات الرئاسية كان قاسياً على معشر التقدميين و موجعاً لهم، لكنه وضح و كشف و عرى. و بهذا يكون قد قدم لهم خدمة جليلة و زود من اختار الخيار المناسب لهذه المرحلة الدقيقة من تاريخنا بوضوح الرؤية و مكنه من تموقع على الساحة السياسية يجعله ينظر إلى المستقبل بتفاؤل و ثقة.

Afficher plus
Bouton retour en haut de la page