الموقف الرسمي التونسي من القضيّة الفلسطينيّة: بين الخطابيّة والتخبّط، بقلم مهدي العش

30/11/2023

مصدر النص: المفكرة القانونية


«هي حرب تحرير وليست حرب تجريم». بهذا الشعار برّر رئيس الدولة قيس سعيّد، في «كلمة للشعب»، معارضته لمشروع قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني. جاءت الكلمة بعد يوم من تعليق الجلسة العامّة المخصّصة للتصويت على هذا النصّ، بقرار من رئيس المجلس التشريعي إبراهيم بودربالة، الذي حرص في ذات الجلسة على إعلام النوّاب بموقف الرئيس المعارض للمشروع بوصفه تهديدا لمصالح تونس بل «اعتداء على أمن الدولة الخارجي». تعليق الجلسة مهّد لترحيل المسألة إلى ما بعد قانون الماليّة، وعلى الأرجح قبره. وبقطع النظر عن ضعف وخطورة صياغة المقترح التشريعي، لم يكن تدخّل الرئيس في آخر لحظة لوقف المصادقة عليه فقط دليلا إضافيّا يؤكّد حقيقة تمركز كلّ السلطة في قصر قرطاج وخضوع «البرلمان» الكامل لها. بل استعاد أيضا مشهد الضغوط الخارجيّة والداخليّة التي اعترضت المحاولات السابقة لتجريم التطبيع، بما يتناقض بشكل صارخ مع الخطاب السيادويّ للرئيس قيس سعيّد.
سيادويّة ظهرت أيضا في تطوّر الموقف الرسمي التونسي من القضيّة الفلسطينيّة منذ 7 أكتوبر الماضي، الذي أسند بشكل غير مسبوق خيار المقاومة، وبدا من خلال خطابات الرئيس كقطْعٍ مع «حلّ الدولتين» لصالح الدفاع عن تحرير كلّ الأرض الفلسطينيّة، بما يتناقض مع المواقف الرسميّة العربيّة ومع الموقف التونسي التقليدي، ويتماهى في المقابل مع المزاج الشعبي. لكنّ مواقف الرئيس لم تجدْ ترجمة دبلوماسيّة واضحة، بل ساهمت في اضطراب أكبر لأداء السياسة الخارجيّة، سواء في الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث احتفظت تونس بصوتها إزاء قرار وقف إطلاق النار أسوة بحلفاء إسرائيل (على الرغم من تناقض الخلفيّات)، وكذلك في القمّة العربيّة- الإسلاميّة في الرياض في 12 نوفمبر الجاري، وقبلهما في الاجتماع الوزاري للجامعة العربيّة. فإذا كان الاستغلال الداخلي للقضيّة الفلسطينيّة، الذي لطالما لجأت إليه الأنظمة العربيّة لتبرير الهيمنة على شعوبها، حاضرا بقوّة لدى الرئيس سعيّد المهووس بسرديّة المؤامرة التي تخوّن كلّ خصومه وتعفيه من كلّ مسؤوليّة فشل، فإنّ سيرورة الأحداث والمواقف، توازيا مع الإبادة الجماعيّة الحاصلة في غزّة، عرّت في الوقت ذاته ليس فقط اضطراب الموقف، بل هشاشة النظام التونسي وتصدّعاته.

«كلّ أرض فلسطين»: هل قطعت تونس مع «حلّ الدولتيْن»؟
كان الموقف الرسمي التونسي لافتا في 7 أكتوبر بعد عمليّة «طوفان الأقصى»، حيث لم يكتفِ البيان، الذي صدر عن رئاسة الدولة بإعلان الوقوف الكامل وغير المشروط إلى جانب الشعب الفلسطيني، وإنما أكّد صراحة على الحقّ في المقاومة المشروعة للاحتلال. كما استعرض أمثلةً على المجازر الإسرائيليّة المتكرّرة والمتواصلة في حقّ الفلسطينيّين، في ما بدا كردّ على الإدانة الغربيّة للعمليّة وعلى تصوير الفلسطينيّين في ثوب المعتدي ودولة الاحتلال كضحيّة لـ«اعتداء إرهابي»، بما يمنحها «حقّا مطلقا» في «الدفاع عن نفسها». كما وصف البيان إسرائيل بالعدوّ، في موقف استثنائي للدبلوماسيّة التونسيّة، لم يحصل حتّى بعد العدوان الإسرائيلي على حمام الشط في تونس سنة 1985، الذي خلّف عشرات الضحايا من الفلسطينيّين والتونسيين، ولا بعد عمليات الاغتيال التي قامت بها في التراب التونسي (خصوصا أبو جهاد في 1988 ومحمد الزواري في 2016).
لكنّ أبرز ما في البيان، هي من دون شكّ الإشارة إلى حدود فلسطين التاريخيّة، أوّلا عبر التذكير بأنّ منطقة «غلاف غزّة»، التي شملتها نكبة 1948، هي «أرض فلسطينيّة ترزح تحت الاحتلال الصهيونيّ منذ عقود ومن حق الشعب الفلسطيني أن يستعيدها وأن يستعيد كل أرض فلسطين»، وثانيا عبر دعوة المجتمع الدولي لتحمّل مسؤوليّته في «وضع حدّ للاحتلال الغاشم لكل فلسطين». تكرّرت بعد ذلك إشارات الرئيس إلى «كلّ أرض فلسطين»، على الرغم من تردّد الجهاز الدبلوماسي إزاءها. فقد ظلّ موقف الدولة التونسيّة منذ الاستقلال (وقادة الحزب الدستوري قبله[1])، مساندا لحلّ الدولتيْن بعنوان الشرعيّة الدولية، على الأقلّ من وجهة نظر «براغماتيّة» بهدف «إحراج اسرائيل» وإظهارها في موقف الرافض لقرارات الأمم المتحدة، كما قدّمه الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة في خطابه الشهير في أريحا سنة 1965، أو كمرحلة أولى في انتظار تعديل موازين القوى والمطالبة بأكثر[2]. ربّما كان الاستثناء الوحيد، تاريخيّا، حديث محمد المصمودي وزير الخارجيّة سنة 1973 عن عدم شرعيّة قيام إٍسرائيل، لتدارك ما صرّح به هو نفسه قبل أيام من ذلك لوكالة الأنباء الألمانيّة حول «اعتراف تونس بحقّ إسرائيل في الوجود وليس في التوسّع»، وهو ما نفاه بورقيبة حينها[3]. وإن انخرطت تونس عموما، ضمن الموقف الأغلبي العربي في ما بعد النكسة وتبعت تطوراته من «اللائات الثلاث» لقمّة الخرطوم ثمّ معارضة اتفاق كامب ديفيد، وصولا إلى «مبادرة السلام» في 2002، مرورا بمسارات مدريد وأوسلو (مع فاصل تطبيع دبلوماسيّ رسميّ في النصف الثاني للتسعينات)، فقد ظلّ الالتزام بـ«الشرعيّة الدوليّة» عنصرا قارّا في خطابها الرسمي. حتّى ما خطّه الرئيس قيس سعيّد بنفسه في توطئة دستوره، لم يشذّ عن القاعدة، حيث أسّس حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره و«إقامة دولته على أرضه السليبة»، على قاعدة الشرعيّة الدولية. بذلك بدا الموقف الذي أعقب 7 أكتوبر 2023، بمثابة تحوّل سياسيّ ملحوظ ليس فقط في تاريخ التناول التونسي للقضية الفلسطينيّة، وإنّما أيضا بالنسبة إلى المواقف الرسميّة العربيّة التي يهرول جلّها نحو التطبيع مع إسرائيل من دون اشتراط إدماج الحقّ الفلسطيني في أيّ تسوية. لكنّه ظلّ تحوّلا خطابيّا بالأساس، لم يتحوّل أقلّه حتى الآن إلى سياسة ورؤية بديلة يمكن العمل على الترويج لها على الأقلّ في صفوف الدول المناصرة للحقّ الفلسطيني، في الوقت الذي تزداد فيه القناعة بالاستحالة الواقعيّة لتطبيق «حلّ الدولتين» في ظلّ سياسة الاستيطان الإسرائيليّة التي تقضم أراضي الضفّة. على العكس من ذلك، بدا وكأنّ الدبلوماسيّة التونسيّة تحاول تعويم الموقف والتقليص من وقعه، خوفا من ارتداداته.

تخبّط الأداء الدبلوماسي
ظهر تخبّط الموقف التونسي، أيّاما قليلة بعد بيان السابع من أكتوبر، في أوّل استحقاق دبلوماسي متعدد الأطراف. فخلال الاجتماع الوزاري لجامعة الدول العربيّة في 11 أكتوبر 2023، صادق وزير الخارجيّة التونسي نبيل عمّار في البداية على القرار المتعلّق بـ«سبل التحرك السياسي لوقف العدوان الإسرائيلي وتحقيق السلام والأمن»، الذي أكّد على حلّ الدولتين وفق حدود 4 جوان 1967 (وهو ما تحفّظت عليه حكومة العراق)، وأدان قتل المدنيّين من الجهتين وجميع الأعمال المنافية للقانون الدولي (وهو ما تحفّظت عليه صراحة أو ضمنيا الجزائر وليبيا وسوريا والعراق). في المقابل، جاء التحفّظ التونسي بعد انتهاء الاجتماع بساعات، من الرئيس سعيّد نفسه الذي كلّف وزير خارجيّته بنقله للجامعة، في صياغة غير معهودة دبلوماسيّا. إذ لم يستهدف التحفّظ بنودا أو عبارات بعينها، وإنّما شمل القرار «جملة وتفصيلا»، لأنّ «فلسطين ليست ملفّا أو قضيّة فيها مدّع ومدّع عليه»، ولأنّ «الحقّ بمقاييس شرائع الأرض والسماء بيّن»، مع الإشارة إلى حقّ الشعب الفلسطيني «في أرضه السليبة كلّ فلسطين».
تكرّر التخبّط في اجتماع الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة، عند التصويت على قرار «الهدنة الإنسانيّة التي تفضي إلى وقف الأعمال العدائيّة»، وهو ما حال الفيتو الأمريكي دون إقراره في مجلس الأمن الدولي بما يسمح بإنفاذه. ففي حين صوّت كلّ أنصار الموقف الفلسطيني على قرار الجمعية العامّة الصادر في إطار آلية الاتحاد من أجل السلام، ورحّبت به فصائل المقاومة الفلسطينيّة، واعتبر مروره خرقا رمزيّا مهمّا وهزيمة دبلوماسيّة لإسرائيل وحلفائها، امتنعت تونس عن التصويت. حتّى العراق، الذي تحفّظ في البداية، طلب تعديل تصويته إلى الموافقة نظرا لـ«خلل تقني»، مع التأكيد على اعتراضه على حلّ الدولتين وعلى كلّ ما من شأنه المساواة بين الجانبين. وإذ برّر مندوب تونس في الأمم المتحدة طارق الأدب خيار الاحتفاظ، بأنّ الوضع في غزّة «يستوجب سقفاً أعلى وموقفاً أكثر وضوحاً»، وبأنّ القرار ساوى بين الجلاد والضحية، فإنّ الموقف التونسي ظلّ غير مفهوم. فقد عكس التصويت بالخصوص ضعف الإلمام بأصول العمل متعدد الأطراف وإكراهاته، وبرهانات الوضع في فلسطين وأولوية وقف إطلاق النار، وما فرضه شرط أغلبية الثلثين من حسابات وتوافقات. كما ترجم خضوع الدبلوماسيّة إلى مزاج الرئيس وحرصه على التفرّد بسقف عالٍ، لأغراض الاستهلاك الداخلي. فقد استقبل الرئيس يوم 27 أكتوبر، بالتزامن مع اجتماع الجمعية العامّة، وزير خارجيّته، ليذكّره بأنّ «قرارات الجمعية العامة لم تغير شيئا من طبيعة هذا الكيان الذي ارتكب أبشع المذابح قبل قرار التقسيم ولازال مصرّا على ارتكابها إلى اليوم»، ويؤكد على ضرورة أن «تصدع تونس بموقفها عاليا في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة لأن الحق الفلسطيني لا يمكن أن يكون بضاعة في بتة (مزاد) دبلوماسية». هذا الموقف القويّ غاب تماما قبل سنتين ونصف، حين أقال الرئيس قيس سعيّد نفسه مندوب تونس لدى الأمم المتحدة حينها منصف البعتي، بسبب عمله على مشروع قرار في مجلس الأمن يندّد بـ«صفقة القرن» وينتصر للحقّ الفلسطيني، وذلك بعد ضغوط أمريكية مباشرة، كشفت عنها مجلّة فورين بوليسي.
تواصل التخبّط في القمة العربية الإسلامية التي انعقدت في الرياض في 12 نوفمبر، والتي لم تتمخّض عنها إجراءات عمليّة تتناسب مع ما يحصل من إبادة جماعيّة. فقد كان القرار التونسي هو «التحفّظ على جميع القرارات»، وعددها 31، باستثناء ثلاثة فقط، تتعلّق بالوقف الفوري للعدوان الإسرائيلي الغاشم والعمل على إدخال المساعدات الإنسانية العاجلة والكافية للشعب الفلسطيني فورا ورفع الحصار، بتعلّة ضرورة التركيز على الأولويات وعدم التوسّع في نصّ القرار. وهي تعلّة غير مقنعة، في حين يبدو أنّ السبب، على الأرجح، كان صعوبة التوفيق بين إكراهيْن: عدم المصادقة على النقاط المتعلّقة بحلّ الدولتين ومبادرة السلام العربيّة، انسجاما مع موقف الرئيس سعيّد، والخوف من الإفصاح عن ذلك مباشرة وبصراحة ووضوح كما فعل العراق، تجنّبا لإغضاب دول شقيقة وحليفة. نتيجة لذلك، تحفّظت تونس على نقاط عديدة إيجابية، وإن كانت غير كافية، من قبيل مطالبة مجلس الأمن باتخاذ قرار حاسم ملزم يفرض وقف العدوان وتحميله مسؤولية التواطؤ في تواصله، ومطالبة جميع الدول بوقف تصدير الأسلحة والذخائر إلى سلطات الاحتلال، ورفض كلّ محاولات تهجير الفلسطينيّين سواء داخل القطاع أو خارجه، ومطالبة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية باستكمال التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها جيش الاحتلال، إلخ. بل أنّ مسؤوليّة تونس في علاقة بمطلب تتبع جرائم الاحتلال أمام المحكمة الجنائية الدولية مضاعفة، حيث أنّها منخرطة في ميثاق روما، وكان بإمكانها الانضمام إلى الإحالة التي وجهتها خمس دول تقودها جنوب إفريقيا، إلى المدعي العامّ، وزيادة الضغط الدبلوماسي في هذا الاتجاه، كما ذكّر بذلك الناشط في حركة BDS أحمد عباس. لكنّ الموقف الرسمي التونسي تجنّب حتى التصويت على المطالبة بذلك. فإذا كانت القمّة العربية الإسلامية المشتركة قد عكست سقفا منخفضا في دعم الصمود الفلسطيني واقعيّا، فإنّ التعامل التونسي معه لم يظهر سقفا عاليا أو موقفا قويّا، بقدر ما عكس خوفا من إظهاره وتردّدا في ترجمته.
أمّا الاجتماع الذي عقده نبيل عمّار في 24 أكتوبر مع سفراء الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن في تونس، لتبليغهم الموقف التونسي والتشديد على ضرورة التحرّك الفوري لمجلس الأمن، فيبدو هو الآخر موجّها فقط للاستهلاك الداخلي. ربما كان من الأجدر، لو كنّا فعلا نسعى للتأثير على دول الشمال، أن نضغط على «الحليف الإيطالي»، الذي لا تنقطع زياراته لتونس ولا التنسيق الأمني معه لحراسة حدوده، لتعديل موقفه المساند لدولة الاحتلال في حربها على غزّة، أو أن نوقف علاقاتنا الأمنيّة مع وكالة فرونتكس، التي تستعمل التكنولوجيا الأمنيّة والعسكريّة الإسرائيلية في مهامّها في المتوسّط. لكنّ «السيادة» و«حرب التحرير» في الخُطب، أسهل بكثير من تطبيقها في الممارسة.

تجريم التطبيع: المزايدة أسلوبا للتهرّب؟
إذا كان التنسيق الأمني اليومي مع فرونتكس إطارا لتطبيع غير مباشر، فإنّ التطبيع العسكري لديه إطار رسمي، وهو حلف شمال الأطلسي (الناتو). فتونس وإسرائيل، وإن كانا لا ينتميان مباشرة إلى الناتو، هما عضوان في «الحوار المتوسطي» منذ إطلاقه في 1995، برفقة دُول عربيّة وأوروبية. وقد تعزّز الانخراط التونسي في الناتو في السنوات الأخيرة، بعد تطوّر علاقاتها العسكرية مع واشنطن مع حصولها في 2015 على مرتبة «الحليف الرئيسي غير العضو في الناتو». وقد حصلت العام الماضي، أي بعد انقلاب 25 جويلية وتفرد سعيّد بكلّ السلطة، سابقة خطيرة تتمثّل في حضور وزير الدفاع التونسي الحالي عماد مميش مع ممثل وزارة الدفاع الإسرائيليّة في اجتماع تنسيقي للناتو بقاعدة رامشتاين العسكريّة الأمريكية في ألمانيا.
قد تكون العلاقات العسكريّة الوثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية من بين الأسباب التي دفعت الرئيس سعيّد إلى التدخل لمنع المصادقة على مشروع قانون تجريم التطبيع، أو حسابات أخرى تبرّر تكييف مشروع القانون بأنّه تهديد لـ«أمن الدولة الخارجي»، كما جاء في كلام «رئيس» برلمان الرئيس، ابراهيم بودربالة، للنواب خلال جلسة المصادقة، نقلا عن الرئيس سعيّد نفسه. وبغضّ النظر عن ضعف وسوء صياغة وخطورة فصول المقترح، فإنّ ما يثير الانتباه هي طريقة قبره. إذ لم يتّبع الرئيس إجراءات دستوره الشخصي، ولم ينتظر مصادقة البرلمان ليستعمل صلاحيّة الردّ، ولم تلبّ السلطة التنفيذية ووزارة الخارجيّة تحديدًا طلبات الاستماع للتعبير عن موقف معارض، ولم يقدّم مشروع قانون بديل حسب رؤيته للموضوع. وإنّما ضغط الرئيس على البرلمان عبر رئيسه لتعطيل التصويت الذي تقدّم حينها، ثمّ أنهى الموضوع من الغد في «كلمة للشعب». هكذا تأكّدت حقيقة المؤسسات الصوريّة التي وضعها سعيّد، والتزم كلّ «النوّاب» في النهاية بقرار صاحب القرار الأوحد. حتّى أنّ «الحجّة الأقوى» خلال النقاشات داخل «البرلمان»، سواء لدى أنصار المقترح أو معارضيه، كانت تراشق الاتهامات بخدمة مؤامرة ضدّ مسار 25 جويلية المجيد. في كلمته، تقمّص الرئيس زيّ «الفدائيّ المقاتل» لتبرير موقفه، واتّهم المبادرين بمقترح القانون بـ«تحويل الصراع إلى صراع قانونيّ»، مؤكدا عدم اعترافه بمصطلح التطبيع لأنّه يعكس فكرا مهزوما، ولأنّ «التطبيع خيانة عظمى». أمّا هو، فحتى وإن لم يمتلك «صواريخ عابرة للقارّات»، فإنّه يصدح على الأقلّ بـ«مواقف عابرة للقارّات».

توظيف قضيّة تحرّر لتبرير الاستبداد
لم يفوّت الرئيس خلال كلمته تلك، الفرصة لاستثمار القضيّة في تشويه التجربة الديمقراطيّة التي أجهضها. إذ قارن بين توطئة دستوره وخيارات دستور 2014، الذي اقتصر على إعلان الانتصار «للمظلومين في كلّ مكان، ولحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، ولحركات التحرّر العادلة وفي مقدّمتها حركة التحرّر الفلسطيني، ومناهضة كلّ أشكال الاحتلال والعنصريّة». و «فسّر» الرئيس ذلك بأنّ «أحد الصهاينة» أشرف على صياغته، في أكذوبة لن يحوّلها تكرارها ولا «حجّة السلطة» إلى حقيقة. يبقى أنّ دستور 2014، على الأقلّ، كان ثمرة نقاش ديمقراطي مفتوح، وإن لم تغِب عن مخاضه الضغوط الأجنبيّة، فالتنصيص على الصهيونيّة من بين أشكال الاحتلال والعنصريّة (الذي تجنّبه سعيّد أيضا في دستوره) سقط بفارق 14 صوتا فقط، وتفاصيل التصويت وخيارات الكتل والنواب متاحة للجميع.
لم يتوقّف الاستهلاك الداخلي للقضيّة الفلسطينيّة هناك، بل كاد يتحوّل إلى عنصر قارّ في الخطاب الرئاسي. إذ فسّر سعيّد هروب خمسة من أخطر المساجين في قضايا إرهابيّة من سجن المرناقيّة (قبل إعادة القبض عليهم بعد ذلك بأسبوع) بتواطؤ «أطراف في الداخل» مع «الحركات الصهيونيّة»، لأنّ «هذه الدوائر لا تقبل بأيّ نظام وطني بل تريد ديمقراطيّة شكليّة وهميّة يكون الحكم فيها للوبيات والعملاء». تكرّر المنطق نفسه في اجتماع الرئيس يوم 24 نوفمبر مع رئيس الحكومة ووزراء العدل والماليّة، عند هجومه على الجمعيات والتمويل الأجنبي، حيث اعتبر سعيّد الجمعيات (من دون أن يسميها) «امتدادًا لدوائر استخباراتيّة»، كخلاصة لاسترسال خطابي دام دقائق في علاقة بالقضيّة الفلسطينيّة.
هذا المشهد ليس جديدًا بالمرّة، وهو يذكّر بعقود من استغلال الأنظمة العربية لقضيّة التحرّر الفلسطيني خدمة لمصالحها الداخليّة في الهيمنة على شعوبها وإسكات أصوات معارضيها. لا يتعلّق الأمر فقط بمصر عبد الناصر وأنظمة البعث في سوريا والعراق. حتّى في تونس نفسها، استعمل نظام بن علي موقفه من الحرب على العراق، وعدم اصطفافه وراء الموقف الأمريكي حينها، لمزيد قمع معارضيه في الداخل وإغلاق كلّ نوافذ الاحتجاج الديمقراطي وترسيخ منظومته الاستبداديّة في بداية التسعينات[4]. لكنّ التاريخ علّمنا أنّ الاستبداد العربي ساهم بدرجة كبيرة في إهدار الحقّ الفلسطيني ومراكمة الهزائم، وأنّ التحرّر الوطني لا ينفصل، بل في أحيان كثيرة يشترط التحرّر السياسي. وإن كانت التجربة الديمقراطية المجهضة في تونس قد فشلت في استحقاق «الكرامة الوطنيّة»، فإنّ ذلك لا يعني أبدا أنّ حكم الفرد يمكن أن يأتي بها. بالعكس، الحرية السياسيّة هي شرط ضروري للكرامة. والنظام الذي يرمي بمعارضيه في السجون ويتعامل مع شعبه كرعايا، هو أضعف من أن يواجه قوى الهيمنة العالميّة. لذلك أيضا، سيادويّته تبقى فقط خطابيّة، للاستهلاك الداخلي ليس إلاّ.


[1] M.M. Laskier, ‘Israel and the Maghreb at the Height of the Arab–Israeli Conflict: 1950s–1970s’.

[2] عبد اللطيف الحناشي، موقف بورقيبة من القضية الفلسطينية (1946-1965)، مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 18، العدد 69 (شتاء 2007)، ص. 52.

[3] Jacob Abadi, Tunisia and Israel: relations under stress, Middle Eastern Studies, 53:4, p. 516.

[4] Voir Sadri Khiari, Tunisie: le délitement de la cité, Editions Karthala, 2003, p. 45.

Afficher plus
Bouton retour en haut de la page