اليسار بعد الهزيمة : نهاية جيل؟
هناك عطب ما في مملكة اليسار: نهاية جيل؟
كما تخيّم سحابة حزن على النّفوس بعد كلّ هزيمة، انتاب عشيرة اليسار، مناضلون وأنصار ومستثمرون في بعض أمل، مزيج من شعور المرارة والإحباط والضياع. فالهزيمة لم تكن هذه المرّة « عادية » بل تحمل في طياتها نذيرا وعلامة بنهاية شيء ما ربّما لا رجعة فيه، نهاية اليسار التونسي في تعبيراته السياسية-الحزبية المنخرطة في معارك الانتخابات والبرلمان.
ولعلّ استعمال كلمة « يسار » يمثّل في حدّ ذاته مغامرة أو رهانا غير مكسوب بالضرورة، لما يعتري هذا الفضاء من صعوبة في حصر جميع مكوّناته أو رسم حدوده وتخومه فضلا عن نكران بعض من أطرافه سحب هذه الصّفة على أطراف أخرى. ودون الدخول في معركة من هو المنتمي لليسار من عدمه، وهل هناك مقاييس موضوعية تحوّل اكتساب هذه الصفة، وهل هناك جهة ما تستحقّ أكثر من غيرها هذا « الوسام »، ومن المخوّل لإسناده أو سحبه أو عدم منحه أصلا، علما وأنّ المسألة مثلت مدار نقاشات فكرية وفلسفية وسياسية في جلّ أنحاء العالم تقريبا.
لكن لنبقى في تونس، فما اصطلح على تسميته باليسار التونسي يتجاوز في الحقيقة الكيانات السياسية والجيل الذي أشرنا سابقا ليشمل نوعا من الذّهنية أو العقلية في تعاملها مع الذّات ومع الآخر، كما يشمل أشكال انخراط في الشأن العامّ، ورؤى للحياة نلاحظها في عديد الفضاءات الاجتماعية، والثقافية، والمدنية وغيرها، إضافة إلى جيل جديد من الشباب الذي يتحرّك خارج أطر الأحزاب والفضاءات السياسية التقليدية، ومثّل أحد أهمّ سمات « المرحلة الانتقالية » بفضل نضالاته المتواصلة في الشارع من أجل قضايا متنوّعة ومتفرّقة سواء في مجال الحريات الفردية، أو مقاومة الفساد، أو المطالبة باستعادة ثروات البلاد، أو التصدّي لقانون المصالحة، أو التنديد بالقمع البوليسي الخ.
ونحن في هذه الورقة لا نعني هذه المستويات وليست موضوع تعاليقنا إذ سنهتمّ أكثر في هذا في اللّقاء بمناقشة مصير جيل من النشطاء الفاعلين الذي تركوا بصماتهم، بشكل أو بآخر وبدرجات متفاوتة، على الحياة السياسية وفي مدارات النضال، سواء قبل الثورة أو بعدها، مع الإقرار بأنّ مصطلح « الجيل » معقّد من حيث رسم ملامحه وضبط تخومه لا سيّما وأنّ المقصود بالنّقد ليس فقط مجموعة الفاعلين السياسيين الذين هرموا بفعل الزّمن والدّوران في حلقة مفرغة، والذين أصدرت نتائج الانتخابات الأخيرة في حقّهم أحكاما قاسية.
بل الذي نعنيه هو الوقوف عند هذه اللحظة التاريخية التي تتهاوى أمام أعيننا لكثرة ما أخطأ هؤلاء الممثلون لليسار السياسي من منعطفات، وكثرة ما مرّوا جنب الواقع والوقائع التي أفرزها المجتمع، وأداروا الظهر إلى عديد الأشكال النضالية الشبابية لمجرّد كونها لا تنطق بنفس كلمات قاموسهم التقليدي ولا ترسل نفس الإشارات المطمئنة على انتمائها إلى سجلّ بعينه، ولا يمكن حشرها في خانة معلومة أو تأطيرها وفق ضوابط تنظيمية تمكن من السيطرة عليها « إيديولوجيا وسياسيا »، وهم لا يدركون أنّ الزّعامتية أصبحت عائقا، وأنّ أشكال التنظّم التقليدية لم تعد توفّر ما يكفي من الأوكسيجين إلى شباب يعيش على أنساق أخرى ويبحث عن هواء وأهواء غير مدرجة في كتب السّلف.
والمقصود أيضا بـ »هؤلاء » ذلك الجيل السياسي الذي تمرّس في الحركة الطلابية على مدى الربع الأخير من القرن العشرين، وداخل صفوف المعارضة النقابية والسياسية، والذي عرف براديكاليته الثرثارة، وحمله لماركسية يستحي من إشهارها ويخجل من الإصداع بها…
ولعلّ الأمور سارت وكأنّ امتحان الشرعية والوجود القانوني كان أعسر على هذا اليسار من أن يكسبه ويجتازه بسلام.
غداة 14 جانفي، ظهر اليسار إجمالا برأسين أو وجهين لئن تقاطعا أحيانا فقد اختلفا في أغلب الأوقات: يسار يرجّح المسألة الاجتماعية عن قضية الحريات (خاصّة منها الفردية)، ويسار يركّز جهوده على معركة الحريات على حساب انغراسه صلب المجتمع. ولعلّ تفكّك هذا الطرف الأخير، خاصة من ورثة التراث ما بعد الشيوعي (نسبة إلى الحزب الشيوعي التونسي)، بل اندثاره تقريبا كان واضحا للعيان على مدى السنوات الأخيرة بحكم اندماجه في الوسط « الحداثي » و/أو ما يسمّى بـ »الوسطي » وفقدانه نتيجة ذلك لهويته.
وبنوع من الانزياح، أفضى الأمر إلى احتلال القوى ما بعد اليسراوية هذا الفضاء المتروك وأصبحت التعبير السياسي شبه الوحيد لليسار الراديكالي. وقد تضاعف هذا الانطباع بعد 2014 وتكوّنت كتلة برلمانية تنسب إلى نفسها هذا الانتماء مدعومة في ذلك بذاكرة مقاومة الدكتاتورية ثمّ كحركة دفعت شهيدين ثمنا، وهو ما جعلها محطّ آمال كبيرة سرعان ما تبدّدت بعد أن أخطأت الجبهة الشعبية موعدها مع دخول عالم السّياسة (داخل المؤسسات) الخاضعة إلى منطق غير متطابق تماما مع منطق النّضال الصرف.
لقد فاجأ هول الكارثة الجميع رغم أنّ الفشل كان مبرمجا. ولعلّ أوّل المسائل المطلوب الانكباب عليها هو الطريقة التي جرّت بها القيادات (التي نصّبت نفسها في مقام زعامة اليسار) مناضليها في تلك المغامرة الخاسرة والمهينة.
فانتخابات 2019 كانت بمثابة لحظة الحقيقة والدّليل القاطع على عجز جيل بأكمله على تمثيل اليسار.
يبقى أنّ السؤال هو: لماذا هذا القصور على إدراك المعنى من الحركات الاجتماعية الجديدة والعجز على مرافقتها؟
ولماذا هذا القصور على تجديد الأفكار ومواكبة مستجدّات الأوضاع؟ وما الّذي يشدّ إلى الوراء والإبقاء على عدد من المسلمات العقائدية الجامدة والقوالب الستالينية المحنّطة؟
هذه بعض من الأسئلة وغيرها كثير، سنحاول التطرّق إليها وتفكيكها في هذا اللّقاء الأوّلي، وقد دعونا للغرض وجوه ثلاث من الجيل الجديد لليسار – سمر التليلي ومالك الصغيري ومحمد سليم بن يوسف – ليقدّم كل رؤيته للجيل السابق، ولماذا سلك سبلا أخرى غير تلك سلكها السلف
وستكون لنا لقاءات أخري ندعو لها أسماء أخرى من كل الحساسيات من مختلف الأجيال.