انتخابات 2019 – أي دولة ؟ لأي مجتمع ؟

 هي فوضى !

 عندما يكفّ بلد على أن يكون محطّ آمال شبابه، وحاضنة لأحلامه وآماله، وتبحث أجيالنا الصاعدة على الاستثمار في الأمل خارج الوطن، سواء بالمراهنة بحياتها في البحر لأجل ذلك، أو بعرض كفاءاتها المهنية والعلمية في سوق العمل خارج الحدود بتلك الأعداد المهولة، فإنّ في الأمر عطل في الاقتصاد، وفي المنوال التنموي، وفي الانتقال الديمقراطي، وعطل في المعنويات والانتظارات والتّطلعات.

وعندما يتحوّل البرلمان إلى موضوع تندّر ويفقد هيبته في عيون التونسيين، وتحوم حول عدد من أعضائه أكثر من شبهة حول بيع وشراء الأصوات، والسياحة الحزبية، وتقلب المواقف، ونسب غياب تتجاوز بكثير نسب الحضور الخ، فإنّ ذلك يولّد لدى التونسيين الحديثي العهد بالديمقراطية إحباطا وعدم إيمان بمنافع الديمقراطية، ويفتح الباب أمام قوّة الحجة لدى الأطراف التي أفقدتها الثورة بعضا من مصالحها ومناطق نفوذها.

وحتى الوفاق العامّ المصطنع الذي رافق جنازة الرئيس الرّاحل الباجي قايد السبسي لا يمكنه التغطية على أعراض هذا المشهد السياسي المتحلّل.

لنبدأ ببعض المعاينات البديهية:

انفراط التحالفات القديمة

يتميّز المشهدِ بتفكُّكِ الرّكب الذي كان سندا للحكومة. فعلاوة على الإخفاق في السيطرة على الصّعوبات الاقتصادية، والفشل في الاستجابة إلى الانتظارات الاجتماعية، أصبحنا نشاهد، عشية هذه الانتخابات، نزوعا حقيقيا إلى « إخلاء البيت المحترق » والتّهافت على مناصب أضحت بعيدة المنال على البعض بقدر ما حرّكت، فجأة، أطماع آخرين.

ففي حين ما فتئت « العائلة اللّبرالية » تنشر خلافاتها وتتقدّم بحوالي عشرة مرشحين من صلبها، سرت العدوى إلى التّشكيلة الإسلامية التي طالها بدورها التصدّع وبات خيار مرشّح من صلبها الحل الأوحد لدرء شقاق يلوح في الأفق. هكذا دخل الإسلام السياسي في أزمة بعد أن تمكّن إلى حدّ الآن من أن يظهر بمظهر القوّة الهادئة وسط حلبة سياسية متقلّبة. ولئن سبق لتقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة الكشف عن حدود التحيين السياسي والفكري للنهضة، فإنّ صعود الشعبويات الجديدة المستهدفة للقطاعات الرّخوة من ناخبيها، يبدو أنّه أرعب، إلى حدّ كبير، القيادة الحالية التي لم تعد قادرة على لجم التوجّهات الانشقاقية والمتمرّدة صلب الحركة.

يسار بلغ نهاية المضمار؟

إنّ قَدَرَ اليسار أن يكون أقليّا على الدّوام لأسباب أنتروبولوجية واضحة، إلاّ أنّنا كنّا ننتظر من يسارنا أن « ينتعش » ولو بقدر في ظلّ الأزمة السياسية للقوى اليمينية الحاكمة أسوة بما يحدث للعديد من حركات اليسار في العالم. لكن لم يحدث شيء من ذلك، إذ ظلّ اليسار التونسي عاجزا على تقديم عرض فكري وسياسي بديل بل ابتلعته الرّمال المتحرّكة للانقسامات ومعارك الأناوات…

لكنّنا نراهن أيضا على أنّ في الأمر ربّ تجديد للقيادات والأفكار في انتظار إعادة الانتشار الاجتماعي ليسار شعبي نحن، وبلادنا، في أشدّ الحاجة إليه.

القروي أو مسخ المنظومة

إن جمهورية « المرحلة الانتقالية » أشبه بالجهاز الذي يشتغل بأقصى طاقته لكنه يدور في الفراغ.

في هذا السياق تتنزّل ظاهرة نبيل القروي كنتاج لإخفاقات الحكّام وعجز المعارضين. فالقروي الذي يطرح نفسه بديلا عن المنظومة القائمة هو التعبير الأفظع عنها. ويرى بعض المحلّلين خيطا رابطا أو إمكانية وضع القروي في تصنيف واحد جنب عبير موسي تحت يافطة  » الحنين إلى الماضي » الذي لئن يأخذ عند الثانية تعبيرا سياسيا بدائيا واضحا، فهو يتجسّد عند القروي في اختراقه فئات اجتماعية أرهقها الفقر والفاقة والتهميش وإهمال الدّولة، وجعلها في وضعية تحنّ فيها إلى الدّولة « المانحة » وتثير فيها ثقافة صندوق التضامن 26-26 لشدّة ما بلغتها أوضاعها من تردّ.

 

 

 

 

أين المجتمع المدني من كلّ هذا؟

كنّا نعزّي النّفس بالاحتماء بالاتحاد العام التونسي للشغل بهدف التحكيم في أزماتنا وصدّ الهجمات المشتركة للـ »ظلامية » واللبرالية المتوحشة. أفليس الاتحاد العام التونسي للشّغل « البيت المشترك » للمجتمع المدني »، والسّاهر على حماية حقوقنا وحرياتنا؟ أمّا عن جمعيات المجتمع المدني التي شكلت إلى جانب الاتحاد العام التونسي للشغل سدّا منيعا أمام غزوة المشروع الإخواني-السلفي زمن الترويكا، فإن لم تنضب نضاليتها، إلاّ أنّ بعض الفتور أصابها اليوم لأسباب عدّة من بينها مأسسة جزء من الحركة الجمعياتية وتحوّلها إلى شبه احترافية، وتهميش جمعيات الشباب، وعدم توصّلها إلى إيجاد المعادلة بين انخراطها في الشأن السياسي من جهة، وحفاظها على كيانها وهويتها كجمعيات مواطنية مستقلّة عن الشأن الحزبي.

 

الخروج من المعاينة إلى التفكير  

  • في السنوات الأولى للثورة إلى حدود إعلان دستور 2014 طغى على المشهد العامّ المعطى القانوني وتصدّر الواجهة أهل القانون من أساتذة ومحامين لأسباب قد تبدو معقولة إذ كان موضوع الساعة الدّفاع عن مدنية الدّولة أمام محاولات أسلمتها، إلى درجة وقع الحديث معها على « ثورة دستورية »
  • ثمّ كان الهاجس الأمني مع تنامي ظاهرة الإرهاب، واستنزاف طاقات الدّولة في محاربته، فطلع إلى المشهد الإعلامي إطارات أمنية وكوادر من الجيش والحرس الوطني ليقدّموا التوضيحات ويطمئنوا الشعب عن سير العمليات، ويردّوا عن اتهامات السياسيين.
  • في الأثناء، كان المعطى الاقتصادي يفعل فعله في خفض جميع مقابل ارتفاع مؤشرات أخرى كالبطالة، والحرقة، والانقطاع المدرسي، ونموّ السوق السوداء، وتدهور النسيج الحضري (ارتفاع نسبة البناء الفوضوي وتوسّع الأحياء الشعبية الفاقدة لأبسط مقومات التهيئة العمرانية)، واستفحال مظاهر الاعتداء على البيئة، شحّ المياه، تدهور أهمّ المرافق العمومية من صحة وتعليم ونقل الخ.

هذه المرحلة فسحت المجال للاقتصاديين، والمحاسبين، و »الكفاءات » من التكنوقراط ليحتكروا الحقيقة، ويستأثروا بالكلمة.

  • الأطراف الوحيدة التي لم نشاهدها كثيرا في أجهزة الإعلام هي فئة المفكرين بالمعنى الواسع (علماء الاجتماع، وعلماء التحليل النفسي، والفلاسفة…) وكلّ ما من شأنه أن يساعد لا على المعاينة ووصف الظواهر فحسب بل حمل المجتمع على التفكير والتأمّل في أسبابها العميقة، والعود إلى جذورها، وتفكيكها، وبالتالي المساهمة في تعميق ثقافة المجتمع كبديل عن ثقافة الإدانة، والتموقع السياسي، وتأجيج الغضب، ومسايرة هوى الشعب من طرف المعارضة وأجهزة الإعلام الباحثة عن الإثارة وكسب نسب الاستماع أو التعنّت والانكفاء عن الذّات والتوحّد بالنسبة للحكام.

في هذا الإطار، أردنا من هذا اللّقاء، الذي يندرج ضمن أنشطة جمعية « نشاز »، إيجاد فسحة وسط هذه الزّحمة، أو الفوضى على معنى يوسف شاهين، لنستدرج ثلاث شخصيات قد تساعدنا على إيجاد إضاءات، أو مقاربات، أو زوايا جديدة في التطرّق إلى واقعنا المعقّد والمشظّى لجمع ما أمكن من شتات فكرنا، والوقوف على حيرتنا، وهيكلة ما يمكن هيكلته من كياننا السياسي… وغير السياسي:

أمّ الزّين بن شيخة المسكيني، أستاذة محاضرة في الفلسفة بجامعة تونس المنار. لها مؤلّفات نظرية وإبداعية متنوّعة، ومداخلات وكتابات في الشأن العام.

زياد كريشان، أحد أهمّ صحافيي الساحة الإعلامية، رئيس تحرير جريدة المغرب، والمعلّق الصحفي في عديد الإذاعات التونسية

وليد بسباس، أو Bourdieusien optimiste Le كما يعرّف نفسه على موقع « نواة ». مناضل شاب اختار أن يكتب من الضفّة الأخرى، كأن يتساءل عن « كيفية استرجاع اليسار بعد انهيار الجبهة الشعبية » أو يشتغل على تفكيك آليات الإعلام التونسي…

يدير اللّقاء فتحي بن الحاج يحيى.

Afficher plus
Bouton retour en haut de la page