سقوط الأسد من منظور تونسي: عودة الأدلجة؟ بقلم خير الدين باشا

مصدر النص: legal-agenda.com


أعاد سقوط النظام السوري كمحور للنقاش العام في تونس، جانبا من الحديث “عن السياسة” بعد حالة من الارتباك أو الانعزال التي سادت الطيف المدني والسياسي على إثر الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وربّما كان تنوع الآراء من الحدث السوري عودة لبعض الفاعلين كبوابة لتسجيل مواقف مستجدة، أو لتحيين أخرى سابقة، خصوصا وأن الموقف من الثورة السورية قد عُدّ في كثير من الأحيان بمثابة “ساحة النزال” التي ما انبرت بعض القوى السياسية تحشد لها في برامجها الانتخابية. بل أصبحت هذه المسألة كذلك محدّدا للمواقف الحزبية من بعض القضايا الدولية في زمن الانتقال الديمقراطي بين سنتي 2011 و 2021.

وبعيدا عن حسابات الهياكل المؤطرة سياسيا أو مدنيا ورهاناتها أو ارتباطاتها كذلك، كان الحدث السوريّ مناسبةً لمشاركة عددٍ من الناشطين والمدوّنين التونسيين، ومعظمهم من الفئة الشبابية، ذكرياتهم عن الحراك السوري في أشهره الأولى، وقمع النظام السوري السابق الشرس للمظاهرات في حواضر الثورة الرئيسية كدرعا وحمص. جزء كبير من هؤلاء الشباب كان من بين من تأثروا بالدفق الثوري في مراحله الأولى أساسا، أو من بين المنتمين تنظيميا أو فكريا لبعض الحركات الإسلامية، حيث رأى عدد منهم في انهيار هذا النظام شكلا من عدالة التاريخ الذي أنصف متأخرا عذابات الثائرين السوريين وآلامهم. ولم يُخفِ العديد من الناشطين في تدويناتهم عميق الأثر الذي أحدثتْه الثورة السوريّة في تكوينهم الشخصي وفي تمثلهم لمفاهيم الثورة والكرامة والعدالة، عبر استحضار عدد من رموز هذه الثورة، على غرار الطفل حمزة الخطيب و عبد الباسط الساروت.

وفي المجمل كان الحدث السوري نافذة للتنفيس عن المواقف في سياق سياسيّ ينذر بمزيد من الانغلاق والتضييق، وفرصة لإعادة تداول عدد من المفاهيم التي أثثت المشهد السياسي في السياق الديمقراطي، فضلا عن استعادة جزء من الجدال الإيديولوجي الذي طبع المجال السياسي والاجتماعي في مرحلة ما قبل 2021 ولو بشكل وسياق جديدين.

الموقف الرسمي التونسي: ارتباك وقصور في فهم الأحداث

أثار البيان الذي أصدرته وزارة الشؤون الخارجية التونسية يوم الرابع من ديسمبر  الكثير من الجدل إعلاميا وسياسيا لانحيازه الواضح لرؤية النظام حينذاك ووصفه العملية العسكرية لعدد من فصائل المعارضة السورية ب”الهجمات الإرهابية التي استهدفت شمال سوريا”. جاء هذا البيان في مرحلة مفصلية من الأحداث، بعد سقوط مدينة حلب في يد عدد من الفصائل المعارضة وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، وأثناء توجه جانب من هذه القوات إلى مدينة حماة جنوبا. وكانت لهجة البيان متماهية تماما مع رؤية النظام، مع دعوة المجموعة الدولية لمساندة “الجمهورية العربية السورية”، “حتى تحافظ على سيادتها وأمن شعبها واستقرارها ووحدة أراضيها”.

وبالرغم من هذا الانحياز الجلي الذي أبان عنه ُهذا البيان، في وقت أحجمت فيه عديد الدول القريبة من النظام السوري السابق إقليميا أو دوليا عن المُساندة المطلقة له، إلا أن الاتجاه الذي أخذه لا يُعدّ سوى نوع من التكثيف لمسارٍ كامل من التحوّلات السياسية التي ألقت بثقلها على الموقف الديبلوماسي التونسي ليتخذ الشكل الذي عليه الآن.

فعلى إثر المسار الثوري الذي نشأ منذ سنة 2011، لم تتردّد تونس في إغلاق سفارتها في دمشق زمن الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي كخطوة لمساندة الثورة السورية. وتزامنت هذه الخطوة مع تنظيم مؤتمر أصدقاء سوريا في تونس يوم 24 فيفري 2012 الذي اختتم بإعلان يدعو الحكومة السورية إلى إنهاء العنف ووقف إطلاق النار والسماح بدخول المساعدات الإنسانية. إلّا أنّ هذا التوجه لم يلبث أن انكفأ منذ سنة 2015 خاصة، بعد أن بدأ ميزان القوى يميل لصالح النظام على إثر الإسناد الروسي، وهو ما جعل خطاب النأي بالنفس وعدم التدخل في الشؤون الداخلية السورية سائدا في عديد من الأوساط التونسية. كما تم التعلل بأن الموقف التونسي السابق قد أدى إلى حرمان الجالية التونسية الموجودة في سوريا من الخدمات الإدارية، ليتم سنة 2015 فتح مكتب في دمشق لإدارة شؤون التونسيين في سوريا وتعيين قنصل عام هناك.

وقد شهدت فترة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي بعض الضغوط داخليا وخارجيا لإعادة العلاقات الرسمية، غير أن تطبيع العلاقات لم يحدث لعديد الأسباب، ومن أهمها الصدى الذي يُمكن أن يأخذه مثل هذا القرار لدى عدد من الدول العربية والغربية المُناهضة للنظام السوري والمؤثرة في الشأن التونسي، وكذلك لحماية توازنات الحكم الداخلية، مع وجود حركة النهضة كشريك رئيسي في “حكومة التوافق”، وهي التي غالبا ما اتخذت موقفا ممانعا من عودة تلك العلاقات.

ثم كانت نهاية مرحلة التردّد على إثر تولي الرئيس قيس سعيد للحكم، وتحديدا منذ سنة 2021. إذ شهد 24 سبتمبر من تلك السنة لقاء وزير الخارجية التونسي عثمان الجرندي بوزير خارجية النظام حينذاك فيصل المقداد، قبل أن يلتقي المقداد نفسه الرئيس سعيّد في 5 جويلية 2022 في العاصمة الجزائرية على هامش احتفالات الذكرى الستين لاستقلال الجزائر. وقد نقلت وزارة الخارجية السورية عن سعيد، تصريحا يُثني فيه على “الإنجازات التي حقّقتها سوريا” في إشارة إلى تحجيم مجال نفوذ الفصائل المعارضة، بل وتصوير ذلك بشكل متماهٍ مع “الخطوات التي حقّقها الشعب التونسي ضد قوى الظلام والتخلف” كما جاء في نصّ بيان وزارة الخارجية السورية. وينبغي التأكيد هنا بأن هذا التمشّي الرسمي التونسي كان مماثلا لبعض المواقف العربية الرسمية، على غرار الإمارات العربية المتحدة (أحد أبرز المساندين لانقلاب 25 جويلية) التي أعادت فتح سفارتها في دمشق سنة 2018، ثم وسّعت من علاقاتها مع النظام السوري سياسيا واقتصاديا في أعقاب ذلك، لتُصبح الدولة العربية الأولى التي توجّه إليها بشار الأسد منذ بداية الثورة السورية.

وكما كان متوقعا من مجرى الأحداث، تمّ في 12 أفريل 2023 إعادة فتح سفارة النظام السوري في تونس وإعادة فتح سفارة تونس في دمشق. وتلا ذلك لقاء بين الرئيس سعيد وبشار الأسد يوم 19 ماي من نفس السنة على هامش القمة العربية التي انعقدت في مدينة جدة السعودية. كما امتنعت تونس عن التصويت على قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة يقضي بإنشاء مؤسسة دولية مستقلّة لاستجلاء مصير المفقودين في سوريا وأماكن وجودهم وتقديم الدعم للضحايا وأسرهم في 29 جوان 2023. وهذا الموقف التونسي كان متماهيا مع مواقف معظم الدول العربية، باستثناء الكويت وقطر اللتين صوّتتا لصالح القرار الأممي.

لذلك لم يكن مستغربا من البيان الأول الذي أصدرته وزارة الخارجية أن يحمل جانبا من تصورات الرئيس سعيد نفسه كما تم التعبير عنها سابقا في بيان وزارة خارجية النظام السوري سنة 2021، وإن حاول الرئيس سعيد التنصّل في ما بعد من مثل هذا الموقف أثناء لقائه وزير الشؤون الخارجية محمد علي النفطي بتأكيده على وجوب استشراف وزارة الخارجية “لكل الأوضاع التي يُمكن أن تستجدّ في عالم يشهد تطورات متسارعة غير مسبوقة” على حدّ قوله. وبالتالي لا يمكن تحميل مسؤولية هذه القراءة الدبلوماسية الخاطئة إلى وزارة الشؤون الخارجية المباشرة فحسب، بل يعكس الموقف الرسمي في مجمله غياب الانسجام الواضح بين عدد من مؤسسات الدولة أساسا ومحاولة تحميل وزر هذا الارتباك إلى الجسم الديبلوماسي لوحده، إضافة إلى عدم الدقة (رسميا) في تقصّي تطورات المعادلة السورية وتنوع الأبعاد المتعلقة بالتشكيلات المعارضة للنظام السابق ودورها في الأحداث الجارية، والإصرار عوضا عن ذلك في التشبث بتبني سردية النظام إلى لحظاته الأخيرة . كما أن البيان الأول لوزارة الشؤون الخارجية يبدو متأثرا بشكل كبير ببيان صدر عن وزارة الخارجية الجزائرية يوم الثالث من ديسمبر، حيث وصف هو الآخر عمليات المعارضة العسكرية ب “التهديدات الإرهابية”.

وبعد البيان الثاني لوزارة الشؤون الخارجية يوم 8 ديسمبر الذي أتى مُشابها من حيث المضمون للبيان الأول مع إشارة غامضة ل “تطلعات الشعب السوري”، صدر بيان ثالث عن الأحداث في سوريا يوم 11 ديسمبر. إلا أنه ارتكز هذه المرة على إدانة العدوان الإسرائيلي على سوريا، والسيطرة الإسرائيلية على جزء من المنطقة العازلة في الجولان المحتل، مع إعادة تبني تسمية  “الجمهورية العربية السورية” ووصف التحوّل السياسيّ ب “المرحلة الاستثنائية” من دون تقديم موقف واضح عن التوجهات إزاء السلطة الجديدة في سوريا. ويُشار في هذا السياق إلى أنه تم رفع علم الثورة السورية في سفارة سوريا بتونس منذ يوم التاسع من ديسمبر.

مواقف الأحزاب والمنظمات: مرآة تعكس الانتماءات

على عكس بعض المنعرجات السابقة من الأحداث في سوريا، لم يصدر الكثير من البيانات من قبل المنظمات أو الأحزاب السياسية في تونس. رُبما يمكن تفسير ذلك بالتخوّف من ردّة فعل قد يُبديها جانب هام من المزاج الاجتماعي في تونس حاليا، وهو مزاج يُصرّعلى ربط التحول السياسي في سوريا ببقية عناصر المعادلة السياسية في الشرق الأوسط والصراع مع إسرائيل تحديدا، أو كذلك لتجنب ردة فعل سلبية من السلطة التي توضح موقفها الداعم للنظام السابق في سوريا. وهو ما أفضى في المجمل إلى نوع من الريبة والارتباك في المواقف، خصوصا وأن المسألة السورية كانت في صلب التجاذبات والتوظيفات السياسية على غرار قضية التسفير.

ظهرتْ أبرز المواقف المُساندة لسقوط نظام بشار الأسد تونسيا في بيان جبهة الخلاص الذي هنأت فيه الشعب السوري “وقواه الحيّة انتصارها على الاستبداد وتوجهها نحو بناء مستقبل زاهر لسوريا قوامه الحرية وسيادة القانون والعدل”، مع تأكيده على عدم استفادة النظام السابق من اتفاقات آستانة سنة 2017 لإقامة حوار مع معارضيه لإجراء الإصلاحات السياسية التي يقتضيها الحفاظ على السلم الأهلي ومحاولة الإبقاء على حالة الجمود قصد “التمدد واستعادة سيطرة شرايين الحياة”، وهو بيان يتضمّن عديد الرسائل الضمنية تجاه السلطة السياسية في تونس عبر التذكير بمصير الأنظمة التي لا تنفتح على الحوار السياسي والاجتماعي. في حين عبر حزب البعث العربي الاشتراكي في تونس، وهو حزب ينتمي فكريا للشق العراقي من حركة البعث عن موقف مؤيد لسقوط نظام الأسد، لبواعث إيديولوجية ترتبط بالموروث التاريخي من الخلاف بين شقي الحركة البعثية السوري والعراقي.

وفي نفس السياق، توجهت بعض الشخصيات السياسية التونسية بتصريحات مُهنئة للشعب السوري. فقد أكد القيادي في حركة النهضة “عماد الخميري” في حسابه على منصة فايسبوك عن مساندته لسقوط الرئيس السوري السابق بشار الأسد مع تأكيده على التحدّيات القادمة أمام سوريا على غرار إعادة بناء الدولة السورية على أسس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. في حين ركز الوجه السياسي عبد الوهاب الهاني على أداء الدبلوماسية التونسية الباهت من الأحداث في سوريا.

أما على الطرف الآخر، فقد أصدر التيار الشعبي المعروف بعلاقته القويّة بالنظام السوري السابق أحد أكثر البيانات السياسيّة راديكالية في معاداة التحول السياسيّ في سوريا. حيث يصف فيه نهاية نظام الأسد ب “سقوط سوريا بيد غرفة الحرب الأمريكية الإسرائيلية التركية”، وبأنه “ضربة قوية لمشروع المقاومة”. مثل هذا الموقف غير مستغرب من التيار الشعبي الذي قاد سابقا حملة لإعادة العلاقات مع نظام الأسد. كما شاركت مباركة البراهمي، النائبة السابقة عنه في زيارة إلى دمشق للقاء بشار الأسد رفقة عدد من البرلمانيين التونسيين الآخرين (من كتلة الجبهة الشعبية والكتلة الحرة وكتلة نداء تونس) سنة 2017 ومحاولة التنسيق مع النظام السوري حينها في بعض الملفات على غرار قضية التسفير.

وفي حين لم تُبدِ العديد من المنظّمات التونسيّة وعلى رأسها الاتّحاد العامّ التونسي للشغل موقفا واضحا من التحوّلات السياسية في سوريا (حيث سبق لوفد منه زيارة دمشق سنة 2017)، فقد أصدرت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بيانا “حول أحداث سوريا” كما ورد في عنوانه. هذا البيان أثار عديد الانتقادات على الساحة الحقوقية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث وصف ما حصل ب “العدوان على سوريا” الذي يندرج في إطار “مشروع استعماري قائم على توطين قوى موغلة في الرجعية من أجل توسع الكيان الصهيوني وتقسيم سوريا وإعادة تشكيل المنطقة” واعتباره “حلقة في مسار تصفية المقاومة الفلسطينية واللبنانية”. وكانت الانتقادات لهذا البيان من محيط الرابطة نفسها قبل أن تكون خارجها. ومن أبرزها ما صدر عن لطفي الحاجي عضو الهيئة المديرة للرابطة سابقا بين 2011 و2016، وغيره من الأصوات الحقوقية التي نددت بعدم احتواء البيان على إدانة للجرائم التي قام بها النظام السابق. وقد حاول رئيس الرابطة في تدوينة له التذكير “ببعض مواقف الرابطة” سابقا حول الانتهاكات التي قام بها نظام بشار الأسد وتهنئة الشعب السوري برحيل رأس السلطة كنوع من التدارك، إلا أن ذلك لم يحجب مدى التقييم الإيديولوجي الذي بُنيت عليه لغة البيان. وحتى المواقف السابقة التي أشار إليها رئيس الرابطة، ومن بينها بعض البيانات، لا تحمل إدانة كاملة وحاسمة للنظام حول الانتهاكات التي يقوم بها بقدر ما تساويه بانتهاكات تقوم بها أطراف أخرى، وهو ما تعتبره عديد الأصوات الحقوقية علامة على توجه قيادة الرابطة الإيديولوجي الذي تحاول إسقاطه من خلال بياناتها. ويعزّز هذه الرؤية أن الرابطة نفسها كانت من بين المنظمات التي دعتْ إلى إعادة علاقات الدولة التونسية مع النظام السوري السابق، بل وعبرت عن أسفها في بيان لها يوم 24 جويلية 2017 عن سقوط لائحة برلمانية في هذا الخصوص ودعتْ رئيس الجمهورية حينها للتدخل.

يمكن اعتبار بيان الرابطة على أنه أكثر التعبيرات وضوحا عن مدى تأثير البواعث الإيديولوجيّة في شأن كان ينبغي التطرق إليه من البوابة الحقوقية. إلا أنه يفيد من ناحية أخرى في فهم مدى تأثر مقاربة الشأن السوري محليا بعديد المؤثرات التي تبعده عن القراءة الموضوعية المبنية على فهم عميق لمختلف الفاعلين على الساحة السورية. ومن بين أهم هذه المؤثّرات، رواسب التموقع السياسي المتمثل في تصوّر متأصّل لدى بعض التيّارات اليسارية والقومية في أولوية المسألة الوطنية على المسألة القومية. هذا التصور السياسي الذي لم يخضع إلى مراجعات رصينة ألقى بثقله على المواقف الرسمية وجزء من مواقف المنظمات والأحزاب. يُضاف إلى ذلك عدم إدراك قسط هام من النخبة السياسية والحقوقية والإعلامية لتعقيدات المشهد السوري والإحجام عن قراءة مختلف مكوّناتها بشكل دقيق، وتفضيل الاتكاء على الأطروحات الإيديولوجية الاختزالية كبديل عن ذلك. كما لم تخلُ معظم المواقف تجاه الثورة السورية محليّا من إسقاطات عن سيرورة التجربة التونسية التي سبق لها أن ألهمت السوريين في مارس 2011 بإمكانية التحرر من أغلال الاستبداد.

Afficher plus
Bouton retour en haut de la page