بين المقطع والمروى
الهوايدية، مجموعة دوواير متناثرة على سفح جبل من سلسلة جبال خمير المسجّلة على خارطة التّساقطات كأفضل المناطق التونسية إمطارا. هذا ما تقوله إحصائيات المعهد الوطني للرّصد الجوّي.
وأهالي المنطقة، سواء في الهوايدية أو على امتداد منطقة النّاظور، ربّما يشاهدون التلفاز ولا يدركون أنّ المذيعة تتحدّث عنهم لسبب بسيط، وهو أنّه « يَابَا فوتو » كما يقول الفرنسيس، أي لا علاقة لشنّ بطبقة في هذه الحال.
في أعلى الجبل حفرة هائلة تمتدّ فُوَّهَتُها على عشرات الأمتار وكأنّنا نشرف على بركان ساكن انطفأت نيرانه منذ أزمنة غابرة في التاريخ.
غير أنّنا ندرك عند مدخل القرية أن لا شيء انطفأ من نيران الغضب، وأنّ التعلّق بالحياة يأخذ هنا صورة قطرة ماء.
قد لا يصدّق المرء أنّنا في حواشي جبال خمير المدرارة. لا شيء في الصّورة، التي تَمْثُل أمام أعين القادم إلى الهوايدة عن طريق طبرقة، يوحي بأنّنا في قرية تونسية من الشّمال. المشهد أقرب إلى قرية جبلية في إحدى مرتفعات البيرو أو بوليفيا حيث لقي تشي غيفارا مصرعه. وليس في الأمر استنباط نابع من مخيّلة يساري قديم ارتدّ به العمر إلى زمن الأحلام الشبابية، فتحوّلت عنده شعلة الصبا إلى خرف الشيخوخة. إنّها الحقيقة. غيفارا تسلّل إلى هنا، فعلا. يكفي النّظر إلى صورة البناية الصغيرة المشيدة حول منبع العين الشحيحة لتظهر صورة الثائر ملء العين، ونساء القرية يمرّون أمامها يوميّا، في حين يجلس بعض شيوخٍ لحراسة النسوة وهم متكئون إلى الحائط الذي رُسم عليه وجه الشهيد، غير آبهين بأنّهم في حضرة شخص هزّت حكايته العالم بأسره في زمن ما، ومازالت بقايا الأسطورة تسري في الأذهان حتى بعد أن استولت عليها سوق التجارة العالمية.
سألتُ شيخا كان قابعا إلى ظلّ الجدار عن هويّة هذا الرّجل الذي تشرف صورته على المنبع، أو بالأحرى الغرافيتي الذي رسمت ملامحه باللّون الأسود، ويستقبل كلّ سالك لطريق الجبل، قال: « وِينْ نِدْري عليه ! ».
وأجاب آخر بأنّها صورة المنصف الهوايدي الذي رسم نفسه تحدّيا للسّلط.
لا أحد إذن من كبار السنّ هنا يُدرك من يكون هذا الرّجل الملتحي على غير هيئة أصحاب العمائم واللّحى عندنا، لكن الجميع يعرف تماما من يكون الملتحي الآخر صاحب الشَّعر الكثّ، والنّاطق بكلام هو إلى الشِّعر أقرب، لأنّه حمل قضيتهم، وأوقد فيهم شعلة الأمل، وعرف كيف يجمع حوله الشّباب، ويحتضن الصّغار في سانيته المفتوحة للجميع، ويجمع شمل قرية بكبارها وصغارها، ونسائها ورجالها.
بدأت الحكاية منذ أواخر التّسعينات عندما لم تكن في قمّة الجبل حفرة باتّساع فوّهة بركان. يومها جاء أحد النّافذين في المنطقة بحفّاراته وجرّارته وشاحناته العملاقة ليحوّل وجه الطبيعة ويَثْكُل القرية والدواوير المجاورة في أعزّ ما تملك. صاحبنا تجاوز جميع التراتيب والمعايير المشترطة في استغلال مقطع حجارة، فإذا بالعين الجارية تُصاب في صفاء مياهها، ويشحّ تدفّقها وتصير في لون الطين المخلوط بأشياء أخرى.
فكانت حكاية الخيام التي نصبها الأهالي عند مدخل الجبل لغلق المسلك أمام آليات صاحب المقطع، وبدأت قصّة تضامن وتآزر بين الأهالي تجاوز صداها المنطقة، وطرأت تقلبات عدّة في قضية نُشرت أمام المحاكم، وإيقافات بين الشباب المعتصم، وشعور باسترداد الكرامة وعدم الخضوع لسلطة الأقوى. لكن الأجمل في كلّ هذا، وما سوف يبقى في الذّاكرة ليتحوّل إلى حجر زاوية تُبنى عليه التضامنات المقبلة من أجل معركة لم تنته، هو ما أسرّ لي به المنصف الذي لم يُخف يوما يساريته، تلك اليسارية التي أخذت من الأرض، التي ينبشها بأظافره، طعمها، ومن وجوه الأهالي الموسومة بقساوة الطبيعة، لونها.
يومها دنا منّي المنصف، وكان يتحدّث إلى شابّ في مقتبل العمر ليكلّفه باقتناء بعض الأشياء. سكت برهة في انتظار أن يبتعد محدّثه، وقال: « أرأيت ذاك الولد؟ أخوه الأكبر بحّار سُجن معي. كان من أقرب النّاس إلى قلبي. عندما كنّا معتصمين وطالت علينا الأيّام، وشحّت الموارد، كان يذهب لتسلّق شجر الصّنوبر وجني البندق لبيعه وشراء سجائر لنا. ذات يوم صعد شجرة كانت تمرّ عبر أغصانها أسلاك كهربائية. لم ينتبه إليها صاحبي. صعقه القدر… أو الأسلاك… أو الحظّ العاثر… رحل… اسمه رفيق !