تغطية مهرجان كان 2016

AFFICHE-PORTRAIT-2016-ART

بقلم الطاهر الشيخاوي

ملاحظات أولية

 

تحت وابل من الإعلانات والأخبار المتفرقة -وابل بدأ قبل افتتاح المهرجان بكثير- لست أدري كيف يمكن للنقاد أن يميّـزوا بين الغثّ و السّمين ولا حتى أن يجدوا الوقت للإطلاع على تفاصيل فعاليات الدورة.

أعتقد أن أصحاب القرار يدركون جيدا مدى الإرباك الذي يضعون فيه المُـتابعَ فالمسألة ليست أو لم تعد مسألة تمييز أو نقد (في معناه العربي) فبغض النظر على عدد الجمهور وتعدد حاجياته، ومهما يكن موقعك (المهني والفكري) من المهرجان فأنت بالضرورة متلق لخبرٍ ما، أحببتَ أم كرهتَ.

لستُ حالة يقاسُ عليها ولكن لم أفهم ما حصل لي :

تقدمت لشباك الإستقبال كغيري من الوافدين بعد اِنتظار غير معهود بسبب المراقبة الأمنية  وتحصلتُ على الوثائق المعتادة، ثمّ توجهت مباشرة إلى الفضاء المخصص للصحافة. فتّـشتُ في الحقيبة التي سُلِّمت لي فوجدت كالعادة الكاتالوغ الرسمي وهو بمثابة الدليل يعـرّف بفعاليات الدورة وخصوصياتها والبرنامج الرسمي الذي يحمل قائمة الأفلام المدرجة في الأقسام الرسمية أي المسابقة الرسمية ونظرة ما وقسم العروض الخاصة، وجدتُ أيضا ملحق جريدة لوموند الخاصة بكان الذي أصبح عرفا، ولكن لم أجد البرنامج المفصّل للعروض فتعجبت من أمري حتى أني توجهت لمصلحة الصحافة طالبا منهم نسخة وكانوا متفهمين لدهشتي فمدوني بذلك والرأفة باديةٌ على وجوههم.

وابل من الإعلانات والأخبار المتفرقة أربكتني، وما زاد في ارباكي هو الخلط بين التفاصيل التجارية والدعائية من ناحية وتلك التي تتعلق بمحتوى المهرجان…

لنذهب للمسائل الأساسية ولنبدأ بعدد الأفلام وتوزيعها على مختف الأقسام :

21 شريطا طويلا في المسابقة الرسمية

18 شريطا طويلا في « نظرة ما »

16 شريطا طويلا خارج المسابقة بين حصص ليلية وحصص خاصة وأخرى وهي في الواقع 17 إذا أضفنا فيلم وودي آلن الفاتح للمهرجان

10أشرطة قصيرة في المسابقة الرسمية

16 مشروعا موجهين للمهنيين في قسم سينيفنداسيون و18 فلما قصيرا لخرجي عدد من المدارس السينمائية

39 شريطا طويلا من الأعمال المشهورة في قسم سيني كلاسيكس

و10 أفلام طويلة في قسم سينما الشاطئ تعرض في الهواء الطلق وهي مختارة من بين أعمال مشهورة وشعبية

 

هذا في ما يخصّ البرنامج الرسمي للمهرجان،

ولكن من المعلوم أن هناك أقسام موازية للبرمجة الرسمية لا تقل أهمية على ما ذكرناه ومن أهمها خمسة عشرة يوما للمخرجين « لاكانزان دي رياليزاتور » وأسبوع النقد، ويحتوي قسم « لاكنزان » على :

18 شريطا طويلا

و11 شريطا قصيرا

أما « أسبوع النقد » فيحتوي على :

15شريطا طويلا منها 7 في المسابقة والبقية تعرض في حصص خاصة

و10 أشرطة قصيرة

كما يمكن بل يجب ذكر برمجة « لاسيد » أي جمعية السينما المستقله من أجل توزيعها وهي

 

9 أشرطة طويلة

أي أن العدد الجملي يتجاوز 260 شريطا ما يدل على ضخامة التظاهرة

هذا في ما يخص الأفلام المبرمجة في مجمل الأقسام أمّا إذا احتسبنا عدد الأفلام المعروضة في السوق والذي يتجاوز الألف فنفهم معنى الوابل المُـربك لمن يتابع مهرجان كانْ. فلا يسعك إلا أن تختار وأن تحُدَّ في الإختيار. فاخترت أساسا المسابقة الرسمية ونظرة ما وبعض الأفلام الأخرى من هنا وهناك.

 

 

لم نتعرض إلى الآن إلاّ إلى الجانب الكمي فماذا عن بالكيف ؟

من المخاطرة الحكمُ على البرمجة والحال أن المهرجان لم يبدأ بعدُ، ولكن هذا لا يمنعنا من إبداء بعض الملاحظات الأولية في ما يتعلق بالأقسام الرسمية. فلا بد من الإشارة أولا إلى عدد السينمائيين المشهورين ذوي القيمة والصيت، هناك ألمودوفار (إسبانيا) والأخوان داردان (بلجيكا) و جيم جارموش (أمريكا) وكان لوتش (بريطانيا) وبريانتي ماندوزا (فيليبين) وكرستيان مونجيو (رومانيا) وشين بان (الولايات المتحدة) وروني دومون (فرنسا) وكزافيي دولان (كندا) وهؤلاء كلهم مجتمعون في المسابقة الرسمية. إنه من النادر وجود هذا الكم من السينمائيين من الحجم الثقيل في دورة واحدة من مهرجان واحد. حتى لو افترضنا أن الصدفة لعبت دورا في هذا الإكتظاظ فلا يمكن أن يكون ذلك إلا جزئيا، فالأمر يتعلق بطبيعة المهرجان الذي مافتئَ يطوّر بعدَه الثقافي-التّجاري إذ أنه يحتوي على أكبر سوق سينمائية مقارنة بالمهراجانات الأخرى، هذا لا يعني أن الأفلام المبرمجة تجارية بحتة ولكنها تستجيب للإتجاه الثقافي (بمعنى مزج السياسة بالفن) الذي أسّس له المهرجان وتتطابق تماما مع روح كانْ فلا مبالغة في القول إن مهرجان كانْ أصبح مَصنعا لنوع من الشهرة تميزه ومُنتجا لطابع خاص به.

الملاحظة الثانية تتعلق بالأفلام الفرنسية فعددُها لا يقلّ على الأربع (أتحدث دائما عن المسابقة الرسمية فقط) ويمكن للمتابع للمهرجان أن يلاحظ تزايدَ هذا الحضور في السنوات الأخيرة.

أما الملاحظة الثالثة فهي مرتبطة بالملاحظة السابقة وهو أن الحضور الأمريكي في تراجع مستمر وكأني بإدارة المهرجان أعادت التوازن في صالح البعد الفرنسي والاروبي بالأساس وقد يرجع ذلك للضغوط المتعددة والانتقادات المستمرة التي يتعرض لها تياري فريمو المندوب العام للتظاهرة.

الملاحظة الرابعة تهمنا بصفة أخص وتتمثل في ضعف تواجد السينما العربية والإفريقية فالأمر معهود والأكيد أنه راجع أيضا إلى النقص في الإنتاج في هذة البلدان ولكن رأيي أن المسألة لا تخلو أيضا من أبعاد سياسية ثقافية

حتى أننا نصرخ فرحا كلما وجدنا فلما أو فلمين من بلادنا وإن كانت في الأقسام الثانوية كما نغرق في التخمينات السياسية والأخلاقوية حول من أسعفهم الحظ في عرض أعمالهم في كانْ فيشوب صمعتَهم نوع من الريبة بفعل حسد الزملاء.

طبعا لن أعلق على ما جاء – أو بالأحرى ما لم يجئ – في الندوة الصحفية الرسمية للمهرجان في باريس وعدم ذكر تونس من بين الدول الممثلة في حين أن هناك على الأقل فلم قصير في المسابقة الرسمية وهو « علوش » للمخرج لطفي عاشور

ولنا عودة طبعا إلى هذا الموضوع في الأيام القادمة وإلى حضور السينما العربية هذه السنة.

 

 

 

وودي آلن يفتتح المهرجان

برشاقة الماهرين

woody allen

 

كان يمكن لتياري فريمو أن يفتتح الدورة بفلم أمريكي من الطراز الثقيل تجاريا ولكن يبدو أنه تخلى عن هذه العادة منذ مدة.

وودي ألين مخرج أمريكي ولكن أبناء وطنه يعيبون عليه تأثره بالثقافة الأوروبية والواقع أنه يتبع أسلوبا أقرب لسينمائي القارة العجوز : الحميمية في الحكاية والمسافة في السرد وخفة نمط الإنتاج.

سياسيا يحمل إختيار فريمو من الدّهاء ما يقلّل من أذى النقاد، والحقيقة هي أن « كافي صوصايتي » لا يمكن بحال اعتباره تنازلا عن المستوي الفني المطلوب في مهرجان كانْ، ثم إننا أمام عمل في غاية من الحرفية والنضج. أعتقد أن « كافي صوصايتي » يحتل مكانة محترمة جدا في مسار وودي ألين، ربّما ينقصه العمق الفكري والمخاطرة التي نرغب أن يكون عليها…

اختار المخرج سياق الثلاثينات وهي مرحلة حاسمة في تاريخ الغرب، مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، كما اختار عالم السينما وهوليوود بالتحديد ولكن لم ينغلق فيه فدارت أحداث الشريط بين كاليفرنيا ونيويورك في وسط يهودي، فجمع بين العناصر المؤسسة لعالمه الخاص : بوبي دورفمان (جيس ايزنبيرغ رائع) شاب من عائلة يهودية متواضعة (سذاجة الأب والأم تقترب من البلاهة ولا تسقط فيها) يدفعُه ضيق الأفق إلى الرحيل إلى كاليفرنيا حيث يشتغل خالُـه في هوليود في أرقى اوساط نجوم السينما، فيكتشف بوبي عالما غريبا مُغريا يُدرك بسرعة بحكم عفويته سطحيتَه ويتعرف على فتاة (كريستين ستيوارت) تشتغل تحت إدارة خاله وهنا تأخد الحكاية منحى روائيا يتمكن من خلالها وودي آلن رسم لوحة عن عالم هوليود ومن خلاله عن أمريكا الثلاثينات، لوحة تذكرنا أناقتُها وعمق أبعادها بأشهر مخرجي الأربعينات والخمسينات أمثال بيلي وايلدير وجوزيف مانكيفيتش و ارنيست لوبيتش من خلال إيحاءات وإشارات رقيقة لسينما هوليوود الكلاسيكية : شريط شيق تحلو مشاهدته، خفيف رشيق، تنقصه في رأيي جرأة لا تكلفه شيئا ولكن ربما تلك هي حدوده.

 

 

 

من فرنسا إلى فلسطين

وجود، سياسة وأمور شخصية

rester vertical

كان يمكن مواصلة مشاهدة الأفلام كاملَ اليوم (الخميس) ولكن لزم التوقف قليلا للكتابة وبالمناسبة لاستيعاب الصور التي تراكمت في مخيلتي

أربعة أفلام إذا : اثنان في المسابقة الرسمية واثنان في قسم « نظرة ما » :

لنبدأ بالمخرج الفرنسي آلِن غيرودي وفيلمه « ريستي فيرتيكال » ويمكن تعريبه ب « البقاء عموديا ». كان غيرودي حاضرا منذ سنتين في قسم « نظرة ما » بعمل -« رجل البحيرة »- لقي قُـبولا حسنا لدى النقاد. ولا غرابة في أن يكون الأمرُ كذلك أيضا هذه السنة، ف« البقاء عموديا » يختلف اختلافا كبيرا عن السينما الفرنسية المعهودة التي عرفت بطغيان الحميمية والسيكولوجية. تدور أحداث الشريط في غرب فرنسا بين منطقة بريطانيا ولوزير أغلبها في محيط ريفي. ليو شاب يشتغل في السينما، يتنقل في أنحاء ريف فرنسا القريبة من مدينة بريست بحثا عن شخصية يرتكز عليها في كتابة سيناريو، ولكن في يتقاطع البحث المهني بالرغبة الشخصية ويأخد بحثه منحى وجوديا يبعده عن مقتضيات المهنة فيغرق في مغامرة  إنسانية عميقة، يرتبط بفتاة راعية ينجب منها طفلا ويتعرف على شخصيات أخرى ريفية (شاب وكهل وشيخ) حتى ينتهي به الأمر إلى المكوث في الريف لرعاية الأغنام وحمايتها من الذئاب. الطرافة في مغامرات الشاب تتمثل في طبيعة علاقاته مع الشخصيات البدوية والطبيعة المحيطة بها، فهي مزيج من التجربة الإجتماعية والبحث الإنساني بعيدا كل البعد عن الإعتبارات السيكولوجية، هي غوص مادي وفج في عالم الحواس والجنس. عالم يطغى عليه البعد الوجودي كان هامشُ الغموض فيه فضاءً للإستكشاف السينمائي.

 

الفلم الثاني لكان لوتش المخرج البريطاني المشهور وهو من  « زبائن » المهرجان، لم يفاجئ الجمهور. « أنا دانيال بالك » شريط إجتماعي بامتياز يحمل هواجس المخرج المعتادة :  اِنتقاده للحيف الإجتماعي وسخطه على قساوة النظام الرأسمالي وتعاطفه مع الفئات الفقيرة في المجتمع.

كان لوتش قد أعلن أنه سيتوقف على النشاط السينمائي ولكنه عدَل عن قراره إثر الحملات التي شنّها اليمين في الصحافة البريطانية ضدّ العاطلين على العمل من أنهم يستغلون صناديق التظامن الإجتماعي، فرجع للمهرجان بقصّة مؤثرة للغاية تروي صعوبات كهل نجّار أجبرته حالته الصحية على التوقف عن الشغل، يصطدم بتعقيدات الإدارة وعدم تفهّمها للمواطنين وخاصّة منهم من لا يحسن تقنيات المعاملات عن طريق الأنترنيت.

كعادته لم يقتصر كان لوتش على استعراض تفاصيل العراقيل الإدارية استعراضا مُدهشا بل ساقها في قالب روائي محكم مبني على التعاطف المطلق مع المظلومين لم يترك فيه للمتفرج مجالا للإفلات من التماهي الكامل مع شخصية دانيال بلاك، وقد يعاب على كان لوتش متاجرته بمشاعر ذنب المتلقي وإن كان ذلك ببلاغة لا تخلو من الرّقـة.

الفلم الثالث فلم مصري لمحمد ذياب صاحب « نساء الباص 678 » المشهور. فيلم ملتصق أيضا بمشاكل مصر اليوم.

« اشتباك » عمل سياسي تدور أحداثه بعد المظاهرات التي أطاحت بالرئيس مرسي وافتكاك الجيش لمقاليد الحكم. يختار محمد ذياب سيارة ترحيلات أمنية كفضاء أساسي  وهو أهم جانب في العمل لما يمثله ضيق المكان من صعوبة في الإخراج السينمائي.

مجموعة من الشخصيات ترمي بها قوات الأمن داخل السيارة، تنتمي إلى تيّارات سياسية مختلفة، يسارية وإخوانية وليبرالية.

تجمعهم السيارة وتفرقهم السياسة فتراهم يتنازعون في تفاعل مستمر مع المواجهات العنيفة التي تدور بين المتظاهرين وقوات الأمن ولكنهم أيضا يجدون أنفسهم مضطرين أحيانا إلى التفاهم والتقارب، فأهمية العمل تتمثل في المراوحة بين السياسي والإنساني مراوحة تخلق مسافة مع التشنج الأيديولوحي لتتغلب في آخر الأمر الأبعاد الإنسانية على الإعتبرات السياسية.

ولكن أهم ما جاء في الفيلم هو أداء التصوير فالكتابة السينمائية لا تحتمل بسهولة ضيق المكان خاصة في حالة الإكتضاض ولا بد من الإقرار بقدرة المخرج على تجاوز الصعوبة خاصة أن عدد الشخصيات لا ييسر الأمر

ولكن في نفس الوقت لم يتخلص الفيلم من فخ الرمزية التي انغلق فيها إلى حد انسداد آفاق الموضوع.

أما الفيلم الرابع فهو من إخراج السينمائية الفلسطينية مهاء حاج وهو يروي حكايات بسيطة  لأجيال مختلفة. قراءة دقيقة وطريفة لمايشوب العلاقات الزوجية من عطف وسوء تفاهم، « أمور شخصية » يرسم بلطف ملامح جزء من المجتمع الفلسطيني القريب من المخرجة، لا « يعالج » قضايا الشعب بقدر ما يرصد تفاصيل من الحياة اليومية لعائلة بذاتها، تفاصيل وجزئيات تكمن أهميتها في طرافة نظرة المخرجة، وتعاطفها الدافئ الذي لا يخلو من دعابة وسخرية خفيفة تنم عن دقة وعمق في الإهتمام بالذات البشرية، ولكن يصعب الغفول عما يحمله الشريط من روح سينما ايليا سليمان فالأسلوب قريب جدا من أسلوب مخرج « الزمن الباقي »، أمر لم تخفه مهاء حاج التي تنهي الشريط بتحيات خاصة لسليمان.

 

 

 

 

« مالوت » لبرونو دومون

مزج استكشافي في كوميديا مجنونة

Maloute

يعتبر برونو دومون من أهم المخرجين الفرنسيين، فمنذ انطلاقته سنة 1997 مع شريط « حياة يسوع » حصل على شهرة أكدتها أعماله اللاحقة، « الإنسانية » 1999 و « فلاندر » 2006 و « هادويش » 2009 و« خارج الشيطان » 2011 و « كامي كلوديكل »2013 » و »كن كن الصغير » 2014  التي عرضت كلُّها في مهرجانات عالمية مثل البندقية و برلين وتورنتو وتحصلت على العديد من الجوائز. تميز باستقلالية عالية وإيمان قوي بقدرة الصورة على التعبير. عُرف بقتامة نظرته ولكنه فاجأ الجميع سنة 2014 لما أنجز سلسلة كوميدية بعنوان « كن كن الصغير » لقناة ارتي لقيت نجاحا كبيرا

فمن الطبيعي أن يكون فيلمه الأخير محل اتنظار النقاد والمهتمين بالسينما خاصة أنه يواصل مسلك الكوميديا.

كان أول عرض للفيلم صباح هذا اليوم في أهم قاعة في المهرجان « المسرح الكبير لوميير » وكان لابد من القدوم مبكرا لضمان مكان. وفعلا لم يخيب برونو دومون ظن المتفرجين وجلهم من الصحافيين على الأقل هذا ما خيّل إلي.

« مالوت » فيلم كوميدي من نوع خاص جدا لا تنازل للفكر فيه. تدور أحداثه في شمال فرنسا، جهة دومون المحبذة ويعود تاريخها إلى بداية القرن أي 100 سنة خلت.

في إختيار الزمن هناك طبعا معنى لأن الفترة شهرت بتطور السينما الهزلية والإحالات واضحة خاصة لماكس ليندر وبصورة أعم للبورليسك ولكن الرجوع لسينما بداية القرن لا يقلل تماما من الإيحالات لقضايا اليوم فهناك تقابل قوي بين فئتين من المجتمع متناقضتين تماما، من ناحية عائلة أرسطقراطية منغلقة فكريا انغلاقا لامحدودا ومن ناحية أخرى عائلة صيادين فقراء لا يبتعدون كثيرا عن آكلي لحم البشر لكن القاء بينهما لا علاقة له بالصراع الطبقي كما يمكن أن يظهر في أفلام كان لوش. هنا تبدو من جديد نظرة المخرج القاتمة، لا حلّ للإختلاف حتى بالمعنى الجدلي فعلاقة الحب بين الشاب الفقير مالوت وبيلي الفتاة الأرسطقراطية تبوء بالفشل الذريع, قصة حب كان يمكن أن تشكل رمزيا رابطا إنسانيا كما هو الشأن في الخرافات والقصص القديمة لكن يقف الأمر هنا والسبب في الحكاية هو أن مالوت يكتشف لُبسا في هوية بيلي الجنسية.

عالم دومون ليس واقعيا وحركة المجتمع ليست جدلية بالمعنى الهيجيلي أو الماركسي للكلمة فغموض البشر يحيل إلى أبعاد ماورائية يظهر في الفيلم من خلال الإحالات الدينية من استرفاع في السماء وهبوط في عمق اعماق الغرائز الإنسانية.

هذا التقاطع بين الأضداد يظهر أيضا في نمط الإخراج نفسه فجمع دومون في فريق الممثليين نجوما كفابريس لوكيني وجوليات بينوش وفاليري تيديسكي وممثلين غير محترفين كما مزج بين أجناس سينمائية متنوعة جدا كالفلم البوليسى والفلم التاريخي والفلم الحميمي إلخ، مزجٌ فيه الكثير من المخاطرة ونوع من التجريبية الإستكشافية جعلت من دومون أجرء أو من أجرء السينمائيين الفرنسيين.

 

 

 

 

« سيارا نيفادا » للمخرج الروماني كرستي بويو

رومانيا بدون مونطاج

sieranevada

يُعدّ كريستي بويو من رموز « الموجة الجديدة » للسينما الرومانية وشُهر بفيلمه « دانتي لازارسكو » الذي تحصل سنة 2005 على جائزة قسم نظرة ما وأكثر من أربعين جائزة في مهرجانات عالمية أخرى.

يعود بويو إلى كانْ ليشارك هذه السنة في المسابقة الرسمية ب « سيارا نيفادا » وهو بمثابة درامة عائلية تدور أحداثها أساسا في فضاء شقّة ضيقة. يلتقي كافة أعضاء العائلة وهم كثر للاحتفال بذكرى وفاة الأب، والطقس يتمثل في مأدبة عشاء يشرف عليها الكاهن الأرثوذوكسي، لكن يتأخر الكاهن فنعيش طوالَ الإنتظار وضعيات مختلفة من حياة أفراد العائلة تختزل عددا من مشاكل المجتمع الروماني. طرافة الشريط تتمثل في طريقة التصوير : لقطات طويلة تكاد تكون خالية من التقطيع وكامرا ثابتة في غالب الأحيان كما لو كان الراوي عاجزا عن تتبع الشخصيات أو ممتنعا عن التماهي معها فتجد نفسك متأخرا دوما عن مجرى الأحداث.

إقتصاد في التصوير يضع المشاهد أمام الواقع الفج بدون تزويق ولا تزييف، واقع رومانيا ما بعد شاوشسكو زمن الأزمة الرأسمالية والفقر الفكري والإنساني،

درسٌ حقا في كيفية تصوير واقع بلدان أروبا الشرقية بعد سنوات من المعانات تحت الدكتاتورية ولكن الخطاب ينأى عن الاستعراض الأيديولوجي السطحي ليرصد ببرودة درجة البؤس الإجتماعي. وأكبر دليل عاى ذلك المشهد الأول وهو لقطة-مشهد تدور أحداثها في الشارع، لا نفهم إلاّ البعض منها لأنه يكفي أن تخرج الشخصية من الحقل حتى تغيب على أنظار المتفرج. السبب طبعا اقتصادي لكنه يصبح مبدأ في المونطاج كما هو الشأن في الواقعية الجديدة الإيطالية فيعطي للمشاهد هامشا من حرية القراءة.

 

 

 

في المسابقة الرسمية « توني ايدرمان »

القناع والتجرّد

toni erdmann

قليلة هي الأفلام الألمانية في مهرجان كان.

ولكن سوف يبقى « توني إيدرمان » بلا أدنى شك من أهم أفلام الدورة 69

الصعوبة في السينما (وحتى في الفنون أخرى) تتمثل في تجنب الكليشيهات وما يشبه ذلك من أغراض وطرق في الإخراج تجذّرت في التاريخ وأعيد إنتاجها مرات ومرات لا لشيء إلا لأنها « نجحت » في جلب عطف الجمهور واهتمام المنتجيين. الصعوبة تكمن في مقاومة التبعية ونزعة مسايرة الآخريين وبالأخص في القدرة على الإبتكار.

وإن كان للمخرجة الألمانية مارن آد ميزة لا بد من ذكرها فهي بلا منازع ميزة الجرأة. جرأة ابتكار وضعيات سريالية تنتج غالبا عن تصرفات توني. الموضوع بسيط : رجل متقدم نسبيا في السن يقرر الذهاب لبوخاريست لزيارة إبنته إيناس التي تشتغل كمستشارة في مؤسسة، نوعية جديدة من المهن المرتبطة بالأعمال ولم يكن دافعُه سوى حرصه على سعادة إبنته.

توني شخصية طريفة جدّا ذو ميزاج مرح يميل للمزح وتسلية الأطفال مستخدما جميع أنواع أساليب التنكر من بروتيز و نظارات وجمّة وماكياج. وما يزيد في طرافة السيناريو أن إبنته لم تكن في اِنتظاره بل لا تتمنى قدومه، يدخل تومي عالم إبنته دون اِعتبار النواميس والقواعد التي تحكم علاقاتها مع الحرفاء والشخصيات الرسمية. قد يعتقد البعض أن تصرفات الأب لا تتجاوز بعض الكليشيهات التلفزيونية ولكن قيمة الفيلم تكمن في طبيعة الاِصطدام بين فنتازيا الأب ومدى حريته من ناحية وتصنع البنت واغترابها تماما في نمط من التصرف لا يخضع إلا لقانون الأعمال والمصلحية الرأسمالية.

تستعمل المخرجة فانتازيا الأب وتصرفاته غير المنتظرة كماكينة لهدم الأساليب الجديدة في عالم الأموال.

يقوم مبدأ الفيلم على مسألة التنكر للذات والإعتزاز بها فقدوم توني في مناسبات عديدة غير منتظرة يدفع ايناس إلى مراجعة ذاتها والإقرار ضمنيا على الأقل بعبث بعض التصرفات المعمول بها، حتى ينتهي بها الأمر في آخر الفيلم إلى الإحتفال بعيد ميلادها حيث تظطر إلى نزع ثيابها تماما وكمالا كما لو أنها أقرت بحقيقة أمرها وتخلت رمزيا على شكليات فارغة . « توني إيدرمان » فيلم جدير بدون شك بجائزة ما…

 

 

 

بين براعة بارك شان ووك وصدق أندريا أرنو

وجدوى هذا وذاك

Mademoiselle

بارك شان ووك مخرج كوري ذاع صيته منذ شريط « أولد بوي » فكان مستوى إنتظارنا مرتفعا نسبيا لما أتانا خبرُ مشاركته في المسابقة الرسمية. « آنسة » مقتبس من رواية للكاتبة البريطانية صارا واترز، تجري أحداثُـها في الفترة الفكتورية. قصّة مشوقة تدور أطوارها أساسا بين ثلاث شخصيات، رجل وامرأتين، رئيس عصابة داهية ومحتال  يُخطط للاستلاء على ثروة هيديكو فتاة ارستقراطية تعيش مع عمها. يلتجئ المحتال إلى سوكي فتاة فقيرة متمرّسة على الغش ويتدخل لدى العم لتشغيلها كمعاونة لهيدكو. يتمثل المخطط بالنسبة إلى سوكي في إقناع الست الأرستقراطية بعد الحصول على ثقتها بالزواج من الشاب المحتال، ولكن الأمور لن تسيير كما أشتهاها هذا الأخير. تجري الأحداث في اتجاه نحسب أنه الصحيح ثم يُـعيد المخرج سرد الحكاية في الجزء الثاني فنكتشف أنها سارت في اتجاه معاكس وكذلك الأمر في الجزء الثالث. تنقلب في كل مرة وجهةُ النظر ونُدرك مدهوشين (حسب مخطط الراوي) أن الساذجة تبينت أخبث من الخبيث إلخ. مراوغات سردية كنا اكتشفناها مع أُرسن ويلز ثم كوروزاوا وتكررت في تاريخ السينما مع تارنتينو وغيره. إلاّ أن بارك شان ووك يضيف للحكاية بعدا اروتيكيا يظهر في علاقة الفتاتين ببعضهما بعضا وعناصر أخرى مثيرة. لا يمكن أن ننكر جمال الصورة وحنكة المخرج في التلاعب بتقنيات السرد ولكن مع الأسف لا يتجاوز الأمر تلك الحدود : مخرج بارع ولكن براعته تكاد تتوقف على عرضها.

 

أما في ما يخص أندريا أرنو المخرجة البريطانية فالأمر يختلف إلى حدٍّ.

تحصلت مرتين على جائزة لجنة التحكيم سنة 2006 وسنة 2009 وبقي « فيش تانك » عالقا في أذهان المتابعين للشأن السينمائي لما يحمله من إلتزام ينمُّ عن وعي حادّ بقضية الفتياة ضعيفات الحال منها بالخصوص.

رجعت اندريا ارنو لمهرجان كان بشريط « اميريكان هوني » وبولعها بموضوع المراهِقة المهمَّشة وان اشترك شريطها مع « آنسة » في الطول (تقارب مدّتُه ثلاث ساعات) فإنه يختلف عنه في عمقه ومعالجته السينمائية. هو أول تجربة للمخرجة في الولايات المتحدة الأمريكية. تواكب أندريا أرنو ستار فتاةً في الثامنة عشر من العمر في تنقلها عبر غرب أمريكا بمعية مجموعة من الشباب. يشتغلون كلهم في  بيع الإشتراكات لمجلات متعددة. يعيشون في حالة تنقل مستمر على هامش المجتمع، يمرحون ويغنون ويرقصون تهزُّهم حيويةٌ فائقة ورغبةٌ جامحة في الحرية متجاوزين القواعد الإجتماعية القائمة في تحدٍّ للقيم المحافظة.

تنفصل ستار عن عائلتها بمجرد لقائها بجاك أحد أفراد المجموعة، أعجبت به منذ اللحظة الأولى. اختارت اندريا ارنو ان تلتصق بستار طوال الفيلم تماما كما التصقت ستار بالشاب جاك في تماهي مطلق جعل الكامرا تتحرك في خفة وسرعة تحاكي خفة وسرعة الشخصية. والطريف في الحكاية هو قوة شخصية ستار التي مع اندماجها في المجموعة بقيت إلى حد كبير تتمتع بهامش من الحرية، فهي تتحرك على هامش الهامش، تدفعها رغبةٌ قويةٌ في الوجود الأمر الذي وضعها في صراع مع رئيسة الفريق كريستال. شريط مؤثر ولطيف ولكنه مع الأسف يشكو طولا أحيانا غير مبرر.

نشر في 15 ماي 2006

 

المسألة الإجتماعية

سياقا ومضمونا

 

يصعب التقييم الآن وإن كان أوّليا أو حتى الإدلاء بملاحظات عامة وإن كانت مؤقتة فالعروض لاتزال متواصلة أسبوعا كاملا ثمّ لم نطلع بعدُ على أعمال عدد لا يستهان به من كبار المخرجين أمثال بيدرو ألمودوفار والأخوان دردان وبريانتي ماندوزا وكريستيان مونجو. ومهما يكن من أمر فإن التقييم كما يعلم الجميع مسألة جدُّ نسبية.

هذا لا يمنعنا من أن نسوق بعض الملاحظات التي قد ندعّمها أو نعيد النظر فيها بعد نهاية المهرجان.

 

من الواضح أن فتورا كبيرا يُخيم على المهرجان وذلك بشهادة أكثر المترددين إليه فلم نرَ في الماضي القريب تراجعا مماثلا في عدد المشاركين. قال لنا بعضُهم أن غرفا باتت شاغرة في نزل الكارلتون وهو أمر لم يحصل منذ سنين. ثمّة بالتأكيد حالة من الخوف تسود فرنسا منذ العمليات الإرهابية التي عرفتها باريس. وما طولُ الطوابير التي تظهر أحيانا إلا نتيجة لتكثيف المراقبة والتثتب عند دخول القاعات. ثم لا بد من الإقرار بصعوبة الظرف الإجتماعي والإقتصادي وما تشهده البلاد من غليان ومظاهرات واضرابات مانفكت تتزايد.

 

والطريف أن البرمجة جاءت عاكِسة لصدى السياق إذ تعددت الأعمال التي تعرضت للمسألة الإجتماعية. لم يتخلّ طبعا المهرجان عن طابعه الإحتفالي ولا عن بريقه اللاّمع ونجومه ونجماته الفاتنات ولا يمكن أن نتصور أنه يتخلّى عن ذلك أصلا ولكن جلّ الأفلام التي تمكنا من رؤيتها تحكي بطريقة أو بأخري الظروف المتأزمة لعديد المجتمعات المرتبطة أساسا بالنظام الإقتصادي المتزعزع.

إن وجود كان لوتش في المسابقة الرسمية لا يعني فقط أنه من الأصدقاء المقربين للمهرجان والأمرُ متأكد، فلَه أيضا دلالةٌ أخرى. وتكفي الإشارة إلى الحفاوة التي تقبل بها الجمهور شريطَه « أنا دانيال بلاك » الذي تناول مباشرة وبدون مراوغة وقاحة مؤسسات الدولة حتى الإجتماعية منها زمن الرأسمالية العالمية، كما نعتقد أن في اختيار شريط « أمريكان هوناي » ضمن المسابقة الرسمية أكثر من معنى. لما تنقلت أندريا أرنولد صاحبة الفيلم إلى أمريكا قادمة من بريطانيا لم تتخلّ عن هواجسها الإجتماعية ولم تدخل السينما الأمريكية من بابها الفرجوي التجاري ولكن من الهامش بل من هامش الهامش كما سبق أن أشرنا في سابق مقالنا. والأهم من ذلك كله أن الفلمين الأمريكيين المبرمجين في المسابقة الرسمية « باترسن » لجيم جارموش و« لافينغ » لجيف نيكولز ي يتناولان وان كان كلّ على طريقته مواضيع اجتماعية خطيرة. ف« لافينغ » ينبش في عمق المسألة العنصرية من خلال قصّة جميلة لعاشقين من وسط شعبي هو أبيض وهي سوداء في ولاية فرجينيا في الستينات وما تعرضا له من ضيم. أما جيم جارموش الذي يتطلب لوحده مقالا مطولا فقد اختار هو أيضا زوجين في الثلاثين من العمر، الرجل سائق اوتوبيس وامرأته لا شغل لها سوى عنايتها بحبيبها ومنزلها، يلتجئان إلى الحلم للتحرر من قتامة الحياة وقسوتها. وميزة الفيلمين تكمن في تجنبهما ضجيج الأعمال التجارية واختيار أسلوب دافئ رقيق في غاية من الرقة خاصة بالنسبة إلى جيم جارموش. وكذلك بالنسبة للفيلم الألماني « توني اردمان » الذ بُني كلُّـه على تقويض قيود المهن الجديدة وما تتسبب فيه من تديمير خبيث للقيم الإنسانية الأساسية. هذا في ما يخص الأفلام الغربية أما بالنسبة للأفلام القادمة من آسيا ومن افريقيا ومن العالم العربي فالقضيةُ محسومة سوف نرجع لها بإطناب في مقالاتنا القادمة…

 

 

« جولياتا » لبيدرو ألمودوفار و «الفتاة المجهولة »  للأخوين داردان

فخ اللعبة السينمائية والتباهي بنواميسها

julieta

مع الأسف لم نُسجل تحسّنا في البرمجة كما كنا نتمنّى بل انتابنا شعورٌ بالخيبة  منذ البارحة إثر خروجنا من « جولياتا » لبيدرو ألمودوفار، وتفاقم صباح اليوم بعد مشاهدة « الفتاة المجهولة » للأخوين داردان. كنا ننتظر عملا في مستوى ما عوّدنا عليه المخرجان البلجيكيان. الحقيقة أن انتظارنا لم يتبدد من اللحظة الأولى ولكن بعد نصف ساعة من بداية العرض تأكدنا من الأمر لما بات الفيلم يدور في حلقة جوفاء لا يتغذى فيها إلا بما تنتجه آليات الكتابة، تمامًا (المسألة جديرة بالدراسة) كما جاء في « جولياتا » : شخصيات تتحرك حسب ماكينة محكمة تدلّ في الحالتين على حنكة كبيرة ولقطات ومشاهد تتوالى طبق منظومة عهدناها لدى هذا وذاك.

بالنسبة لألمودوفار ومنذ ما جاء في جينيريك البداية من لعب على الألوان (وضع النقاط الصفراء على الأحرف الحمراء) فهِمنا أنه لا مَخرجَ لنا من ألعوبةٍ عهدناها : في الحكاية هناك طبعا كل أسرار (وما عادت بأسرار) طبخة ألمودوفار. صِدامٌ باروكي للألوان المُـشعّة أساسها الأحمر وما يوحي به من اشتعال للحواس والتهاب للمشاعر وتوالٍ لأحداث غايتُـها الإسراع في دوران سيناريو لا يخلو طبعا من تجانس ولكن غايته الوحيدة استمرارُ العملية. تستعد جولياتا لمغادرة مدريد لمرافقة قرينها الذي لم يُخف سعادتَه بالأمر. بمجرد أن تضع رجليها في الشارع تلتقي في صدفة غريبة بأقرب صديقة لابنتها أنتيا التي غابت عن انظارها منذ 13 سنة، فيتغيرُ منحى الأحداث رأسا على عقب. تَعدل جولياتا عن السفر وتقرر البقاء، فترجع بنا إلى الماضي من خلال تحرير رسالة لابنتها التي كانت تعتقد أنها خرجت تماما من حياتها. وتبدأ القصّة : لقاءها مع زوجها فانجاب البنت فسعادة العائلة إلى حدوث ما لا يحمد عقباه وسلسلة من الأحداث الدرامية التي تتناغم أصداءها حسب قانون ألمودوفاري لا أهمية له سوى أنه ألمودوفاري.

Dardenne

الأمر معتاد و في الحقيقة غير مفاجئ بالنسبة إلى المخرج الإسباني ولكنه مؤسف لدى الأخوين داردان بالنظر إلى جديتهم المعهودة. جيني طبيبة شابة وناجحة مهنيا كلّها ثقة بالنفس لا تؤمن بالمشاعر في ممارسة شغلها كما هو الشأن لدى جوليان معينها الطالب. في يوم ما يدقّ جرسُ العيادة لكنها تمتنعُ عن فتح الباب بالرغم من إلحاح جوليان، ولكنها تكتشف من الغد أن نتيجة امتناعها كان موت فتاة في مقتبل العمر، تُـدرك فجأة عمقَ المسألة الإنسانية وأهمية البعد الأخلاقي.. من الناحية القانونية لم ترتكب جيني أي خطء لأن الفتاة قدمت ساعةً بعد انتهاء الوقت القانوني ولكن شعورٌ بالذنب قويٌّ غمرها فاهتزّ كيانُها اهتزازا وانهار اعتزازُها بنفسها فانطلقت تبحث عن هوية الضحية لتبني لها قبرا بها يليق، معرّضة حياتها لأخطار جمّة. إلى هنا ينحى الشريط منحى جديرا بالإهتمام خاصة أن الضحية سوداء البشرة افريقية الأصول، كان يمكن أن يفتحَ دخولُها المفاجئ للحكاية بابَ الغيرية. ولكن العمل يتحول إلى شيء أقرب الى الفيلم البوليسي منه إلى الدرامة الإجتماعية. إنه من المبالغة التقليل من قيمة العمل ولكنّه انغلق في عملية تكاد تكون إعادة الشي لذاته فيدور الفيلم في حلقة تحمل ألوانا نعرفها بعيدا عما كنا نننظره من استكشاف للمجهول ويسقط الأخَوان في فخ الدراما البوليسية التي تفقد الأبعاد المسطرة لها في البداية.

 

 

 

 

« باكالوريا » لكريستيان مونجيو

السينما الرومانية من نجاح إلى نجاح

baccalauréat

وهو ثاني فيلم روماني في المسابقة الرسمية للمخرج صاحب الجوائز العديدة وواحد من أهم رموز السينما الرومانية الجديدة. سبق أن تحصل على السعفة الذهبية بشريطه  « أربعة أشهر و ثلاثة أسابيع ويومان » سنة 2007 وجائزة أفضل سيناريو سنة 2012 بشريطه « من وراء التلال ». « باكالوريا » عملٌ جديرٌ بالأهتمام خاصة أنه يشترك مع « الفتاة المجهولة » للأخوين داردان في موضوع الطبيب الذي يضطر لأسباب شخصية إلى البحث البوليسي ولكنه يختلف عنه في نتائجه السينمائية والفكرية. فبينما سقط « الفتاة المجهولة » في نوع من التجريد الواهي بلغ « باكالوريا » درجة من العمق تجعله يستحق جائزة.

روميو طبيب عُرف بنزاهته إلى حين اِقتراب اِمتحان الباكالوريا : قد لن تتحصلَ إبنتُـه إيليزا على النتيجة التي تسمح لها بالذهاب إلى انجلترا. حرصُه الشديد على تمكينها من مغادرة البلد دفعَه إلى الطلب من عدد من الشخصيات التدخلَ لتيسير أمرها بطريقة غير قانونية، فيرمي بنفسه في مساومات مريبة. في الوقت نفسه نكتشف أن له علاقة خارج إطار الزواج مع اِمرأة لم تعد تتحمل طويلا التخفي وما يزيد في تعقيد وضعه شعورُه بأنه محلّ  تتبع، ثم إبنته لا تشاطره تماما مساعيه لتمكينها من السفر. تتشابك الأمور وتضيق حالُه فينطلق في عملية بحث بوليسية إثرَ تعرض ابنته لمحاولة اغتصاب.

خيوط درامية متعددة منها الإجتماعي والسياسي والعائلي كلُّها ترمي إلى تفكيك النظام السياسي الفاسد. إن اللافت للإنتباه هو تمشي مونجيو السينمائي : يصبح المخرج بدوره طبيبا يعاين مرضَ المجتمع الروماني فباختياره اللقطات الطويلة ومتابعته للشخصية متابعة لصيقة يتمكن من تسجيل كل جزئيات جسم البلد مع العلم أن روميو رجع إلى رومانيا بُعيد الثورة التي أطاحت بتشاوسسكو, فيصبح امتحان الباكالوريا امتحانا بالنسبة إليه. يخرج من نطاق مهنته الضيق ليدخل مغامرة يشاركه فيها المتفرج بفضل طريقة في الإخراج منفتحة على امكانيات سردية متعددة…

 

 

أربعة أفلام في المسابقة الرسمية

 

بين الرفض والجدل والإعجاب

 

 

فعلا لا شك أن البرمجة تحسنت هذة السنة بالمقارنة مع السنوات الأخيرة (أعني المسابقة الرسمية بالخصوص) ولكن لم نشاهد فيلما تجاوزَ المستوى العام بل تقاربت الأعمالُ إلى درجة أنه يصعب التنبؤ بالبالماريس. لكن حدث أن شاهدنا أفلاما هابطة جدّا ومنها فيلم شين بان. لا أحد يشك في قناعات شين بان السياسية وفي صدق مساندته للشعوب الإفريقية كما يمكن أيضا الإعتراف بقيمة أعماله السابقة، لكن « ذو لاست فاتيس » تعدى بكثير مستوى الرداءة المقبول. قصّةُ حب بين مناضلَين في الحقل الإنساني زمنَ الحرب الأهلية في ليليريا. لم يمتنع شين بان عن استعمال كل أساليب الإشهار المعمول بها في الأفلام التجارية المبتذلة من تكرار ممل وموسيقى ساذجة و إدارة للمثلين في غاية من السطحية. العبرة هي أن النوايا الطيبة ليست ضمانا للمستوى الفني.

 

لا يصحّ القول نفسه في خصوص « ذو نيون ديمون » لنيكولا ويندينغ ريفن فالمخرج الدنماركي حاول اِتّـباع أسلوب قريب من الفنون المعاصرة بعيدا عن العادات السردية المعهودة. الموضوع : فتاة جميلة تدخل عالمَ عارضات الأزياء في مدينة لوس انجلس فتتعرض لحسد زميلاتها. يلعب ويدين رفن على قوالب الموضة وجماليتها مُبحرا كعادته في المؤثرات المبنية على العنف، فيبدو العمل متفردا شكلا ولكنه لا يتجاوز في رأينا حدود الإثارة الجوفاء. في كل الحالات كان الفيلم محلّ جدل بين النقاد، فهناك من دافع عنه بشراسة باعتبار أنه يفتح آفاقا جديدة فى الفن السينمائي وهناك من رفضه رفضا مطلقا.

personnal shopper

 

ولكن هناك أيضا أفلاما لقت صدى إيجابيا لدى معظم النقاد منها « بيرسونال شوبير » للمخرج الفرنسي أوليفيي أساياس وهو من أبرز سينمائيي ما بعد الموجدة الجديدة. مورين (كريستين ستيوارت) شابة أمريكية تأتي إلى باريس لتشتغل عند نجمة مشهورة، مهمتها اقتناء ما يلزمها من ملابس. لكن مورين تمر بمرحلة صعبة منذ موت أخيها التوأم.

لا تتمكن من التخلص من ذكراه بل تنتظر منه علامة فتتصور أنه يلازمها كأنه يرغب في التعبير عن شيئ. ينحى الفيلم منحا فانتاستيكيا ولكنه لا ينغلق في هذا الجنس أو ذاك بل يمزج بين أجناس مختلفة وتتظافر فيه الواقعية والرومنسية والخيالية والإحالات السينمائية المتعددة والتقاطعات الفنية والأهم من ذلك كله مكانة الممثل، فكعادته يولي أساياس عناية فائقة بالأجساد الحية (والميتة) وفي قضية الحال جسد كريستين ستيوارت. ففي متابعته للشخصية يتمكن أساياس من مساءلة العصر مساءلة انتروبولوجية فلسفية تُضفي على الأشياء العادية بُـعدا رمزيا عميقا. فنرى مورين تتواصل باستمرار مع مجهول عبرَ رسائل قصيرة تجعلنا نتساءل باستمرار عن حدود واقعنا وعلاقته بعوالم أخرى نجهلها لا بالمعنى اللاهوتي المغلق للكلمة ولكن بالمعنى الوجودي الفلسفي التي ما فتئت الفنون البصرية تطرحه

elle

الشريط الثاني الذي نال إعجاب النقاد هو « آل » (هي) للمخرج بول فرهوفن ولكن مع إثارة نوع من الجدل حول معالجته لمسألة الإغتصاب. شريط مقتبس من رواية لفيليب دجيان. هنا أيضا يتعلق الأمر بشخصية امرأة في اتصال دائم بشخص لا تعرفه وهنا أيضا يولي المخرج أهمية قصوى للمثلة وهي إيزابيل هوبير الممثلة الفرنسية القديرة، ويجب الإقرار بأنها قدمت أداء رائعا. ميشال امرأة أعمال صاحبة شركة مختصّة في صنع الألعاب الإلكترونية، تتعرض إلى عملية اغتصاب عنيفة جدا تتكرر مرارا في الشريط وتتلقى العديد من الرسائل القصيرة على هاتفها الجوال. الغريب في المسألة هو أن ميشال تنتهي بمعرفة مرتكب العملية ولا تبلغ عنه الشرطة بل تسعى إلى الإلتقاء به. هنا يكمن سبب الجدل الحاصل : كيف يمكن أن يسمح المخرج لنفسه معالجة من هذا النوع ؟ كيف سمح لنفسه أن يُـبقي الأمر على هذا الغموض ؟ ولكن يبدو لي أن هذه القراءة لا تأخذ في الإعتبار أن الخطاب ليس مباشرا بل فيه من الإسراف ما يجعل إدراك الموضوع إدراكا رمزيا.

 

مجموعة من المقالات نشرت بجريدة أخبار الجمهورية وأعيدت صياغتها نوعا ما لتنشر على موقعنا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Afficher plus
Bouton retour en haut de la page