فان غوغ في حضرة صاحب الجبل

في هذا الزّمن المتعِب والأجواء المترعة قحطا، ليس أجمل من رؤية زهرة تينع في بلد كادت تبور تربته. ربّما تكفي طلعة، ولو قصيرة، إلى ذلك المكان الذي يجهد أهله على كسر حلقة سيزيف العبثية بأن يصنعوا من موطن لهم ما يستحقّ العيش على أرضه في كنف الكرامة، رغم قساوة الطبيعة، وبُعد المسافة، وكفاف العيش، للوقوف على حقيقة أنّ الأفق أرحب، والهواء أنقى، والحلم أحلى كلّما ارتقينا درجة في تضاريس الجغرافيا، وابتعدنا خطوة عن صخب المجتمع السياسي ومعارك الأنا.

يُروى أنّ الرسّام الإنجليزي جوزيف تورنر صعد، سنة 1841، على سفينة من إحدى الموانئ القريبة من لندن، وما إن أقلعت هذه الأخيرة حتى فاجأتها عاصفة ثلجية هوجاء، وطوّقتها أمواج عاتية، فارتبك البحّارة وسادهم الخوف. وإذا بتورنر يطلب منهم شدّ وثاقه إلى صاري السفينة حتى يتمكّن من مشاهدة تلك الظّاهرة المناخية المهيبة ويتمعّن فيها ليكون شاهدا عليها لاحقا. وهو ما تمّ بعد سنة من ذلك عندما عرض لوحته الشهيرة في الأكاديمية الملكية تحت عنوان « عاصفة ثلجية ».

بعد حوالي تسعين سنة من ذلك، كتب برنارد شو يقول: « إنّ الأشياء موجودة لأنّنا نراها. أمّا ما نراه وكيف ننظر إليه فهو مرتبط بالفنون التي أثّرت فينا. فأن ترى شيئا ما وأن تنظر إليه أمران مختلفان. نحن لا ننظر إلى الشيء إلاّ عندما نرى ما يحتويه من جمال. وقتها فقط يطفح إلى الوجود. والآن يرى النّاس الضّباب، لا لأنّ هناك ضباب بل لأنّ شعراء ورسّامين علّموهم وقع الجمال في النّفوس (…) قبل جوزيف تورنر لم يكن هناك ضباب في لندن ».

جبل سمّامة لم يكن موجودا هو الآخر. ظلّ لأزمنة طويلة محنّطا في كتب الجغرافيا على اعتباره « سابع أعلى مرتفع في تونس. تبلغ قمته 1314م. يقع في الوسط الغربي التونسي وهو مغطى بغابة من الصنوبر الجبلي، ويوجد بولاية القصرين » . وجب انتظار ما بعد 17 ديسمبر/14 جانفي ليخرج إلى الوجود إثر حدثين مصيريين. الأوّل تراجيدي، يوم سكنته مجموعات الإرهاب وسقط على ترابه عدد من شهداء الجيش، وانفجر أكثر من لغم على نساء ورجال يعيشون من عطاء الجبل. والثّاني احتفالي مفعم حياة وأملا مذ عاد إليه أحد أبنائه ليحوّله إلى ترنيمة ولحن يتجاوز صداهما الجبل، وإلى لوحة تُرسَم بأصابع أهاليه، نساء ورجالا وشبّانا، وتُؤسِّس للجبل موقعا عاطفيا في وجدان الوطن.

كان لا بدّ للفنّ أن يتدخّل في صناعة القَدَر. ولأنّ لِلْفنّ أسراره وغرائبيّته وسحره فقد حمل الهوى ذات ليلة إلى صاحب الجبل فكرة استضافة الرسّام الهولندي فان غوغ إلى سمّامة، فجمع النساء اللاّتي يطوّعن بأناملهنّ أعتى نباتات الجبل وأشدّها قسوة فيصنعن من الحلفاء ألف بدعة وبدعة، وحكى لهنّ حكاية الظلّ والضّياء، وتماوج طيف الألوان، واستشفاف النّور الكامن في الطبيعة وفي ذات الأشياء… وإذا بفان غوغ يتحوّل من ضيف عليهنّ إلى مستوطن في كيانهنّ وساكن في أحاسيسهنّ ومشاعرهنّ، وإذا بالحلفاء تُزهر ألوانا في سطوع الشّمس وضياء القمر، وأصباغا في خضرة الإكليل والتين الشّوكي، وتشكيلات في رمادية التّراب والحجر وفي كلّ ما تحفل به الطبيعة المحيطة من ألوان وأنوار.

يوم وقفتُ أمام معلّقة عدنان الهلالي في رحاب المركز الثقافي الجبلي سمّامة، وأنا أقرأ ترجمته، أو ما خلتها كذلك، لرسالة بعث بها فان غوغ إلى أخيه تيو، نسيت تماما عنصر الزّمن واختلطت عليّ الأمور إلى حدّ الاشتباه، وذهب في ظنّي أنّ فان غوغ قد مرّ فعلا من هنا وأنا لست دارٍ لجهل فيَّ بسِيرة هذا الفنّان العلَم. وحتّى عندما تأكّدت لاحقا بأنّ ترحاله لم يتجاوز جنوب فرنسا، بقيت مصرّا على أنّه كان حاضرا في سمّامة لأنّ رُبّ استحضارٍ أصدق من ألف حضور.

لا أدري من أين يستقي هذا البربري الهلالي أو الهلالي البربريّ طاقته وقدرته على تحويل الأحلام إلى سينوغرافيا تُشاهَد بالعين المجرّدة لتأخذ تارة مظهر مهرجان هيب هوب في قلب جبل على تخوم الحدود، وطورا احتفالية بأغاني الرّعاة المنسيّة، ومرّة بتنظيم ندوة علمية عن نباتات الجبل الطبية مع ثلّة من أجمل الأخصائيات والأخصائيين الذين، لولا مهزلة في بلدي، لكانوا في طليعة البحث العلمي ومقاومة لوبيات الأدوية الكيمياوية المصنّعة؛ وأخرى بإنشاء مدرسة للسيرك للأطفال والشبان…

هذا البعض القليل من حكاية جبل سمّامة الذي يقف فيه شيخ الجبل، حسن الصبّاح، ومريديه على جهة، وصاحب الجبل، عدنان الهلالي، وأحلامه وذويه على الرّبوة المقابلة.

فتحي بن الحاج يحيى

06 جانفي 2022

فان غوغ يخطّ رسالة أولى إلى أخيه تيو من سمّامة

« عزيزي تيو، يصلك مكتوب آخر منّي قبل أن أتلقّى منك ردّا.

هذا الضّوء الحجري لطالما حاولتُ رسمه، ولمّا اكتمل شكله في مُخيّلة فرشاتي وجدتني منشغلا عن أصباغه بالحلفاء على هذا المرتفع الصّخري الخرافي.

عندما فكّرت في الذّهاب إلى بلاد الشّمس المشرقة لم أكن أحسب أنّ ثمّة شيء على الأرض أسطع من ضياء سماء اليابان وأروع. تمنّيتك هنا لترى هذا النّور الحريري يُغطّي أجسادا لطيفة فيُتمّم رسالة صوف الأغنام الذي كسا الرّعاة.

ذكرت مرّة ما قاله العمّ كور عندما حدّثني في آرل عن « كسب العيش ». استفزّني كلامه فلم أتمالك حدّتي. أعلم أنّ كلامي أزعجه ولو كان هذا لراجع قوله وهو يرى الخلاء عامرا بأرواح جميلة حدّ الشّراسة تنحت حياة صاخبة.

إنّهم فنّانون ينحتون فعلهم في صمت، يعيشون ويستميتون بعيدا عن ضوضاء المعارض الكبرى.

أنسى هنا سوء حظّي لأنّي وجدت من هم أكثر منّي ألما لكنّهم أغزر احتفالا وأغدق ابتساما.

هذا الفجر، اقتلعوا الحلفاء لتجفيفها. لقد قرّروا أن ينحتوا، حسب رؤيتهم، النّجوم التي رأيت ذات ليلة من غرفتي في مصحّة سان ريمي.

نجوم الحلفاء أمر رائع لو يتحقّق. أنا هنا بحثا عن هذا الضّوء الدّفين. سنابل الحلفاء تتلألأ قبل اقتلاعها. هي منيرة أصلا. وهذا العرق الذي يدبغها عند التحامها بأيادي العمّال يُخزّن فيها روح البشر. تمنّيت حضور بول غوغان معي يشاركني هذا الطّرب السّاحر. في الحقيقة نحن لم نتناقض وكنّا نرسم الموضوع نفسه كلّ حسب طقوسه. الخيال الذي يميل إليه بول انبثق منه هيامي برسم الطبيعة. حرمتني اضطراباتي متعة مواصلة المغامرة مع بول. كنّا نرنّم الأغنية نفسها بلغتين مختلفين وخُيّل لنا أنّنا تناقضنا.

ها أنّني أتداوي هنا، وأتشوّق لرؤية نجوم الحلفاء ساطعة. لا أعلّمُهُمْ لأنّهم متعلّمون. فقط جلستُ معهم حول كأس شاي خاثر وأريتهم لوحتي وحدّثتهم عن أمنيتي. »

عدنان الهلالي

Show More
Close