كيف نقوى على المقاومة بعد غيبتك مالك؟
ماهر حنين
يقتلنا الموت المفاجئ مرتين. مرة لأنّه الموت، ومرة لأنه لا يمهل مقلة العين لتبكي على مهل هول فاجعة لا نملك ردّها،
كلّ نفس ذائقة الموت ولكن لماذا قبل الأوان؟ لماذا تجيء الميتة قبل أن تستوفي الحياة ما استطاعت من طاقاتها؟ لماذا قبل الحصاد المنتظر لزرع الحقول وقد بدأت السنابل ترفع هاماتها؟ لماذا تتركنا وترحل مالك بمثل هذا الصمت؟ لماذا ونحن نتهيأ للقاء قريب لتدبر مسارات ممكنة للثورة بالطريقة التي كنت تريد وتسميها البديل العملي.
مالك، يا قلب الجيل الجديد الذي ظلّ ينبض. يا أجيج الغضب منذ الصّبا. يا عقلا لا يهدأ للمسلمات. يا جريئا، ويا صلبا حتى العناد. لماذا ترحل ونحن لم نكمل مع الرفاق والرفيقات الذين تحبهم وتحبّهنّ كلّ قصص بطولات تالة الثائرة التي لم تفارق انفعالك الجميل؟ لماذا ترحل ونحن لم نقرأ بعد كلّ خفايا انتفاضة حيّ الشيخ جرّاح الأخيرة ولم نكتب فصلا تجريبيا آخر لمقاوماتنا المشتركة؟
تباعدنا ولم نفترق ابدا. كنت أبحث عنك في زحام جانفي، فاتحة الثورة، وكلّ شهر من جانفي منذ عشرة أعوام. كنت أبحث عنك في شرنقة الروح الأبية لـ »مانيش مسامح » وفي جموع المعتصمين والمتظاهرين بلا كلل توقا للكرامة. كنت أبحث عنك في حُلمك الحزبي الصادق والشريف « التيار الديمقراطي ». كنت أحبّ أن أراك تتحدث للناس وتشرح فكرتك الأولي عن الثورة وتبعث في كلّ أرجاء المكان بقوة قناعاتك. كيف أكفّ عن البحث عنك وصدى صوتك يصدع عاليا »حريات، حريات لا رئاسة مدي الحياة ». ردّدتها قبل الثورة رفقة شبيبة ديمقراطية تقدمية آمنت بالحق وزادها صدق العزائم ألقا في زمن عزّ فيه صدى الصوت المدوي من أجل الحرية.
ترحالك بين الفكرة والفكرة، وبين الحرف والساحة العامة، بين الحزب والحملة والنقابة، ترحال الباحث عن الجسور التي تصل هذا بذاك. أحببناك يا مالك في المنتدى وفي نشاز وفي الجسور اليانعة بينهما. فكيف لا نحبّك وأنت الذي تركتنا صحبة رفاق ورفيقات من جيلك على قيد الوجود. كنت تتفطّن للنهايات قبل موعدها وللبدايات قبل موعدها، وكنت ترفض إلى حدّ الغضب إنكار حقوق الفقراء وأدوارهم في التاريخ وفي الراّهن الحيوي لثورة تونس المجيدة.
كنت أحيانا أخشى من نفسي على نفسي حين يأخذها التعب ويؤلمها تكررّ محطّات الفشل. وكنتَ دوما تردّد »سننتصر يوما يا رفيق » الثورة. لم تمت. لم ينته أمرنا بعد. فنحن الفكرة الصلبة. ونحن شعاع الضوء في وحشة الغروب الدّاكن. ونحن القبلة الأولى لثورة الشرق غير المنتظرة.
على قدر امتداد البصر أبحث عنك فلا اراك. عفوا كيف لا أراك. أنا أراك مرة بين النجوم ومرة بين النخيل. مرة في سماء الفكرة والحلم. ومرة رغم عسر الطريق تمشي على الجمر سكوتا.
كيف نقوى على المقاومة في غيبتك مالك؟ سنجهد النفس حتى لا يقتلنا اليأس في بلد المناجل فيها صدأة والمطارق ثقيلة لا تجد أذرعا لتحملها، والشعراء لا يسمعهم الا نفر قليل من الناس.
لا حقّ لنا في ألا نقاوم بعدك. سنقاوم وسيقاوم آخر الأحياء فينا صونا للأمانة. رحمك الله مالك ولروحك كلّ السلام.