ورقات من كتاب كِيـبْرُوكُو لفتحي بن الحاج يحيى جزء 1
نحاول منذ مدّة غير قصيرة أن نعيد إلى الوجود موقع « نشاز ».
كنت في الأثناء كتبت بعض ورقات من باب الترويح على النّفس ودڤّْني الْمَوْلَى فقرأتها لأصدقائي في نشاز وهي لم تكتمل بعد.
اليوم يطالبونني، وخاصة منهم هشام، بأن أنشرها تباعا على الموقع بمناسبة إعادة فتحه على بعد أشهر من فتح الممرّ الجديد لقنال السّويس.
الحقيقة أنّ حمار الشيخ وقف في العقبة فيما يخصّ إنهاء ما كتبت (لا أعرف كيف أصنّفه!).
ولأنّ واجب الصّداقة عندي أغلى من الحلم بنشر كتاب كان سيدرّ عليّ دون شكّ سيلاً من الدّولارات والجوائز العالمية، وربّما وابلا من الشتائم والغضب، فقد نزلت عند رغبة الجماعة في تحويله إلى كتاب مسلسل عسى أن أجد إلى نهايته سبيلا.
ثم وقف حمار الشيخ في العقبة ثانية لأن الكتاب سينشر قريبا (تعليق ناشزمن « أدمين » نشاز)
« من كانت فيه دُعابة فقد بَرِئَ من الْكِبَرْ » أبو عثمان بن بحر الجاحظ
هذا النص شرعتُ كتابته مع نهاية 2014 ثمّ تركته جانبا لأسباب أجهلها قبل أن أعود إليه بين الحين والآخر لتدوين بعض الأسطر أو الفقرات حسب ما تجود به القريحة وما يتكثّف في داخلي من ملاحظات ومتابعات عن تصاعد وتيرة السريالية في بلدي وسريان العبثية في مفاصل الحياة السياسية يمينا وشمالا ووسطا.
لا يهمّ هنا تسلسل الأحداث أو منطق الأشياء إذ لست في باب التوثيق لحقبة من تاريخنا المباشر وإنّما هي رؤية ذاتية بحتة لحركات أشخاص أو لشخوص متحرّكة لها حضورها في الصفّ الأوّل للمشهد السياسي، والتقاط لبعض أقوال وتصريحات تلقفتها على نحو عشوائي لأصنع منها ما شئت أن أصنع في محاولة يائسة للسيطرة على المعنى والوقوف على المناطق التي تتحدّد فيها قوانين اللّعبة والتي تختلف عن المناطق التي تعلن فيها اللّعبة وتتجسّد.
الكرم في 02/ 05 /2016
الذي يعرف ماذا يريد، والباحث عن شيء ما، والسّائر في الاتجاه العكسي
حطّت الطائرة القادمة من برلين في مطار تونس قرطاج بتأخير ناهز الساعتين. كانت الساعة تشير إلى الثالثة وعشرين دقيقة بعد منتصف الليل. خرج المسافرون يجرّون حقائبهم بعد انتظار مملّ أمام السجاد المتحرّك، ولم تسجّل دوائر المطار يومها شكاوى في سرقة ما تيسّر من المتاع لأسباب ظلت مجهولة لدى شرطة الحدود وحرس الجمارك الذين رفعوا ليلتها تقريرا مطوّلا لمن يهمّه الأمر أفضى إلى فتح تحقيق استثنائي في الموضوع.
في البهو الكبير أين يُمنع التدخين منعا باتّا بتعليمات صارمة من وزراء النّقل والسياحة والصناعات التقليدية والبيئة السليمة، وقف ثلاثة رجال ملتحين على مسافة بعيدة من بعضهم البعض. أخرج الأوّل غليونه الهولندي واستهلك عددا من الثّقاب قبل أن ينفث دخانه الكثيف العطر. كان كثيف الشعر، أشعث اللحية، قويّ البنية. أجال بصره في أرجاء القاعة الفسيحة باحثا عن باب الخروج في حركة بطيئة متّزنة تدلّ على أنّ دماغه يشتغل بمنطق عقلاني إذ سرعان ما اهتدى إلى الباب بمجرّد عملية ذهنية بسيطة : بما أنّ مهبط الطائرة ورائي فباب الخروج أمامي إذ لا يعقل أن أعود أدراجي لأخرج من حيث دخلت.
مرّ من أمامه عون أمن بزيّه النظامي غير مكترث بهذا السائح الألماني -حسب ما استنتجه من قدوم الطائرة من برلين في سفرة شارتر- ولم يجرؤ، أو ربّما لم يفكّر، في تنبيهه إلى الكفّ عن التّدخين إذ كان على عجل ليلتحق بالمقهى قبل أن تحترق السيجارة التي كان يخفيها في يده بدليل الدّخان المنبعث من زيّه النّظامي.
من الناحية الأخرى، أسفل المدرج الآلي الذي يشتغل كدرج عادي نتيجة العطب المزمن الذي أصابه بعد مدّة قصيرة من تركيبه –أو لحكمة في التقشّف ؟- وقف الرجل الآخر الذي شارف بدوره السبعين من العمر، وقد بدا أنيقا في كسوته الأوروبية العتيقة وربطة عنقه المحكمة الوثاق، ونظّاراته المدوّرتين اللتان ترفعانه إلى مقام العلماء البحاثة الغارقين في فلسفة الوجود والذين أفنوا العمر في مطاردة أسرار الحياة وفكّ ألغاز الفناء. كانت لحيته البيضاء مرتّبة رتابة المجتهد في الاعتناء بها اعتناءه بمظهره ككلّ. أخرج بدوره سيجارا ضخما من النّوع الرّفيع أشعله من الوهلة الأولى بولاعته الأنيقة. والغريب أنّ الأوّل بقدر استهلاكه أكثر من ثقاب قبل أن يشعل غليونه، بدا هادئا في تصرّفه، واثق الخطوة وكأنّه يعرف طريقه مسبقا في أرض تطؤها قدماه لأوّل مرّة، فإنّ صاحب السيجار الواقف أسفل المدرج الآلي المعطوب والمطلوب تسلّقه كدرج عادي، بدا متوتّرا بعض الشيء، لا يعرف إلى أين يتّجه وكيف يبدأ رحلته في تونس ما بعد الثّورة. وطبعا مرّ أمامه عون الأمن غير السرّي الحامل سرّا لسيجارة في يده اليمنى ولم يطلب منه الامتثال لأوامر الوزراء الثلاث، ربّما لأنّه لا واحد منهم وزير سيادة أو لأسباب أخرى ليست سياسية بالضرورة.
الشيخ الثالث الذي قدم معهم في الطائرة، ولا هم يعرفونه ولا هو يعرفهم، بدا شيخا بأتمّ معنى الكلمة : لحية كثّة بيضاء تماما، ظَهْرٌ مُنحنٍ تحت وطأة العمر، نظّارات واسعة أقرب إلى نظارات الفقهاء منها إلى نظارات العلماء بالتعريف الغربي للكلمة وليس العربي، أمّا السّمة الأهمّ فهي الْكَلْبَاكْ الذي كان يضعه على رأسه بما لا يدع مجالا للشكّ أنّه فقيه مسلم غير عربي كأن تقول قادم من باكستان أو أندونسيا أو أفارستان أو ما شابه ذلك من بلاد آسيا الإسلامية. والحقيقة أنّنا أتينا به من الهند وتحديدا من مدينة جيلي بورا الواقعة في ولاية حيدر آباد في الهند. صاحبنا هذا لا يدخّن. ليس احتراما للقانون أو خوفا من البوليس الذي يحترم كثيرا السوّاح الألمان بل لأنّه لا يدخّن أصلا… وإنّما يفعل أشياء أخرى. كان شيخنا الهندواي يهمّ بالصّعود إلى الدّرج ولم يكن يحمل من المتاع سوى مصحف كبير وبعض كتب في كيس من البلاستيك الألماني المقوّى الذي تمنحه شركة لوفتانزا للخطوط الجوية كلّما اقتنى حريف شيئا من المشروبات الكحولية أو غيرها من السلع المعفاة من الضرائب (الأوف شور). واضح أنّه لم يشتر شيئا وقد يكون طلب الكيس لوجه اللّه تعالى من المضيفة الألمانية الحسناء التي ربّما أجارته من باب صلة الرّحم رغم جهلها المدقع بالسّيرة النبوية والأحاديث الصحيحة. لم يكن يعلم صاحبنا القادم من تورا بورا أو بالأحرى من جيلي بورا أنّ المصعد يؤدّي إلى باب الرّحيل للعودة من حيث أتى. كان يتحامل على نفسه ليتخطّى العتبة فالأخرى وهو يتمتم بتوسّلات إلى الخالق وبعض آيات شريفة شحنا للعزيمة ومغالبة للوهن. في النهاية وصل إلى الأعلى ليجد نفسه وجها لوجه مع رقيب باب الرّحيل الذي أفهمه بعربية مكسورة الخواطر والنحو والصّرف أنّه يسير في الاتجاه المعاكس لمنطق الأشياء، وعليه أن يعود أدراجه مولّيا وجهه إلى حيث المخرج في الطابق الأرضي. أخذه برفق من ذراعه ليوجّهه الوجهة المعقولة بعد أن حدس فيه قامة من القامات الكبيرة المبشّرة بيوم الساعة وعرف منه أنّه قادم من بلاد الهند والسّند، والشيخ يُسرف له في دعوات الخير وسداد الخطى، والعون يردّد « رُدّْ بَالِكْ لاَ تَعْثِرْ يَا بَابَا ».
بين الأنترناسيول وأفريكا
قلنا أنّ الرّجل الأوّل يعرف ماذايريد. استقلّ تاكسي وطلب من السائق أن يقلّه إلى نزل « الأنترناسيونال ». كان قبل قدومه قد قلّب بعض المنشورات عن بلد الياسمين فأعجبته تسمية الفندق فاختاره دون تردّد ودون توقّف عند موقعه، وعدد نجومه، وتعريفة أسعاره. وطبعا لم يشغّل صاحب التاكسي العدّاد لحدس عنده بأنّ الحريف ضائع في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية رغم صرامة التعليمات وحرص الدّولة على تطبيق القانون على جميع التونسيين الذين أصبحوا مواطنين جدد بعد الثورة الذي أذهلت العالم.
عندما دوّن صاحبنا بطاقة الإرشادات في مكتب استقبال النّزل، أخذها الموظّف منه وظلّ يحدّق فيها وقد أصابه من الذّهول ما لم يصبه يوم فرّ الطاغية بجلده يوم 14 جانفي –حسب الرواية الرسمية المؤقتة-. ظلّ يجول ببصره بين الورقة ووجه الحريف وكأنّه يعرفه من زمن طويل، وفجأة انفكّت عقدة لسانه ليسمع صدى صوته وهو يقول : كَارِلْ مَارْكس !… إنتِ هُوَ كارل ماركس… يا خُويَا ! … مَرْحْبَا بيك في الأنترناسيونال !
من تضافر الصُّدف أن الولد كان نصيرا للجبهة الشعبية ويحبّ حمّة حبّا جمّا إذ هو أصيل بوعرادة من ولاية سليانة وحمّة أيضا، إضافة إلى تقاسم المبادئ الكونية الأخرى… طبعا.
أدغال أفريكا
الشيخ الوسيم الثاني، مثله مثل صاحبنا الأوّل، عقلاني، مؤمن بالعلم إلى حدّ النّخاع وإن بمواصفات أخرى ومقاربات مغايرة تماما إضافة إلى اشتغاله، من ضمن شواغله، على إيحاءات الأسماء وتداعي الكلمات وما قد يترتّب عنها من فونتازمات، فأصابت كلمة « أفريكا » هواه فاختارها نزلا يحلّ به وأثارت فيه من المخيال ما لا يستطيع العقل كبحه. كان له ذلك بعد أن دفع بدوره لصاحب التاكسي الآخر، الحريص على الفضيلة بدليل المذياع الذي يبثّ ترتيلا حسنا بصوت الشيخ السّديس، ثمنا لا يبعد كثيرا عن ثمن تذكرة الشارتر وهو لا يفهم سرّ تساوى كلفتي السيارة والطيارة في بلادنا. والحقيقة أنّه لم يحاول أن يفهم إذ كان ذهنه مشغولا بأمور أخرى.
ليلتها لم يسعفه الحظّ الذي نال نظيره كارل ماركس، فعون الاستقبال لم يكن من أنصار رجاء، لذلك لم ينتبه إلى قيمة الاسم المدوّن على بطاقة الإرشادات. قرأ بعجالة : سيغموند فرويد، وكلّ ما أوحى له هذا الاسم هو أن قال في سرّه : » هَاذَا نَحْلِفْ عْلِيهْ يْهُودِي ! « .. ثمّ ناوله المفتاح ونسي الحكاية.
الْـهْدَا يا بِنْ عْرُوسْ
العلاّمة الهندي مَشَى على نفس خُطى الأوّلين ولكن بمنطق آخر. سَرَتْ به التاكسي ليلا من المطار إلى حيث أراد أن يحطّ الرّحال. أوّل ما طلب من السّائق، بعد السّلام عليكم الجافّة التي لم تعد تحتمل تأويلا آخر لا يخرج عندنا عن بئر بن خليفة أو الشعانبي أو السلوم أو أشياء من هذا القبيل، أن يقوده إلى الجامع المعمور ليعتكف فيه حتى طلوع الفجر وقيام الصّلاة. أفهمه السائق بعد جهاد مرير مع لغة الضّاد بأنّ الجامع يغلق أبوابه بين الصّلاة والأخرى، فاستغفر الشيخ مولاه، وعادت إلى ذهنه قولة أحد الشيوخ من مريديه بأنّ المشي في شوارع تونس ينقض الوضوء. ظلّ يزمجر ويتوعّد البلد وأهل البلد بعقاب شديد وزلزال مهيب وبعض ما ورد في الآيات القصار من قارعة ونار موقدة وطير أبابيل وحجارة من سجيل. وصاحب التاكسي يهدّئ من روعه وهو يردّد « الْهْدَا يا بِنْ عْرُوسْ، الْهدَا يا بن عروس ». كان يردّد هذه العبارة كغيرها من العبارات التي نتوارثها وتضيع حكايتها ومنشؤها مع الزّمن. لم يكن يدري أنّ تونس الحاضرة عرفت في فترة معينة من حكم الحفصيين حالة من الفوضى والفتن والمجاعات وتدهور الأخلاق ممّا جعل سيدنا حمد بن عروس يصعد إلى مئذنة الجامع في نوبة غضب عارم ويبتهل الخالق بأن يرمي بهذا البلد وأهله في اليمّ، وإذا بالمدينة تغوص رويدا رويدا في البحر والهلع يصيب الأهالي فيستنجدون بسيدي محرز بن خلف الذي كان له حظوة واحترام لدى الوليّ الغاضب. أتى الأوّل هذا الأخير وانتصب واقفا تحت المئذنة وهو يردّد « الهدا يا بن عروس » إلى أن تراجعت نسبة الأدرينالين في خلايا الوليّ الصّالح نزولا عند طلب سلطان المدينة. من يومها سرت قولة « يِحْرِزْ مَحْرِزْ ياتونس وإلاّ كْلاَكْ الْبحَرْ ». هكذا تقول الأسطورة رغم أنف التّاريخ الجافّ الذي لا يُضِيع فرصة ليضَيِّع علينا حلاوة الخرافة ويعكّر أمزجتنا بادّعائه أنّ سيدي بن عروس ولد 1383 ميلادي بينما ولد سيدي محرز عام 951ميلادي أي قبله بأكثر من أربعمائة سنة ولم تسعفه الأقدار التّعرّف على الحفصيين.
مرّت العاصفة بسلام وعادت الدماء إلى مجاريها بقدرة قادر، فطلب شيخنا المعاصر من السائق أن يقوده إلى أقرب نزل من جامع الزيتونة شرط أن لا يبيع خمرا وأن يكون بعيدا عن المواخير التي أبلغه عنها بعضهم أنّها منتشرة في تونس. ومرّة أخرى أفهمه السائق بعد كدّ وعناء أنّ الشّرط الأوّل متوفّر داخل المدينة العتيقة بحكم التراتيب القانونية أمّا الثاني فـ »سَا دِيبُونْ ça dépend » وأردف : « بْعِيدَه قَدَّاشْ ؟ » وهو يحاول قيس المسافة في ذهنه بين سيدي علي عزّوز المحاذي لجامع الزيتونة وبين سيدي عبد اللّه قشّ الواقع على مرمى منجنيق منه. ثمّ أنزله أمام قوس باب البحر وأشار عليه بترك فكرة الفندق هذه الليلة إذ لم يبق من الوقت سوى قليله على طلوع الفجر وعليه أن يسلك نهج جامع الزّيتونة إلى منتهاه، وأضاف »امْشِ دَبَّه دبّه وكَانْ حْسَابي صْحِيحْ تَخْلِطْ إنتِ والأذانْ قَدّْ قَدّْ ».
أقبل البدر علينا
كان الأمر كذلك، فقد بلغ الجامع قبل بضع دقائق من قيام الآذان. بقي له ما يكفي من الوقت ليدخل الميضأة ويخرج منها بسلام قبل أن يلتحق بالمصلين ويحتلّ مكانه في الصفّ الثاني أو الثالث نظرا لبعض التّدافع بين المصلين قصد احتلال المناصب الأولى وراء الإمام المحتلّ بدوره للجامع والمحراب رغم أنف الحكومة ووزارتي الدّاخلية والشؤون الدينية.
بعد انقضاء الصلاة، اقترب أحد المصلين الذي كان حذو شيخنا بطل الرواية، أو أحد أبطالها الثلاث تحديدا، وأومأ إلى الإمام ببعض كلمات قد تكون فيها إشارة إلى لكنة الشيخ الغريب، فتقدّم منه الإمام وحادثه بعض الوقت قبل أن يرفع يديه إلى السماء مهلّلا « اللّهُ أَكْبَرْ ! » ثلاث مرّات اقتداء بسنّة الرّسول. حلّق الخلق حول الرّجلين وسرت همهمة بين الجموع سرعان ما تحوّلت إنشادا غير موزون بسبب المفاجأة وغياب قائد للجوقة يعطي للإيقاع حقّ قدره. كان كلّ حلق يصدح على هواه « أقبل البدر علينا »، وهي عادة بدأنا نكتسبها في تونس منذ عودة أحد كبار المهاجرة من لندن وقد استقبله الأنصار بتلك الأهازيج التي كنّا نعتقد أنّها تخصّ الرسول وحده فإذا بها تدخل تحت طائلة الدّمقرطة لتشمل كلّ من ألبسه القوم شبهة المهدي المنتظر على المذهب السنّي. هكذا وجدت الجموع نفسها في حضرة الشيخ أبي الأعلى المودودي بعد أن عرّفهم بنفسه بعربية ثقيلة وهو يلوم عليهم بعض طقوس لم ترق له كثيرا على ما يبدو.
قُولو لْحَمّة رَاهُو مَارْكس جَا !
وبما أنّ مخابراتنا أفطن من أن يفوتها حدث من هذا الحجم الذي قلّ أن ينزل على بلد في يوم واحد وساعة واحدة، ونظرا لقدرة استعلاماتنا على حيازة المعلومة من مصادرها بعد أن يعلم بها الجميع، فقد اجتمعت خلية الأزمة لتراقب الأحداث عن كثب، وتتابعها لحظة بلحظة، وتتحفّز للتدخّل عند الاقتضاء في كنف احترام الحريات العامّة وحقوق الإنسان وبنود دستورنا الجديد.
غير أنّ الشعوب لها دائما من الشماتة والشقاوة ما يكدّر صفو حكّامها وبوليسها السياسي على وجه التّحديد. وبما أنّ لتونس أيضا شعب يعدّ رقما صعبا في هذا المضمار بالذّات، فقد سرى الخبر بين النّاس قبل أن تتلقّفه آذان الموكول لهم أمن البلاد واستقرارها ورخائها.
عندما توجّهت إحدى الفرق الخاصّة جدّا إلى « الأنترناسيونال » في صبيحة اليوم الموالي لقدومه، كان كارل ماركس قد غادره منذ نصف ساعة تقريبا أي حوالي منتصف النّهار.
والحكاية أنّ الرّفيق القائم بوظيفة الاستقبال اللّيلي قد قضّى ليلته حتى مطلع الفجر يخاطب كلّ من أسعفه الحظّ بأن يكون مسجّلا في هاتفه وفيه بصيص أمل أن يوصله إلى الرّفيق حمّة لإعلامه بالخبر الجلل. فهو لم يكن يملك الرقم المباشر لحمّة. كان كلّ ما أنهى مكالمة يقول : »الدِّنْيا لاَشْكُونْ تَعْطِي » إذ لا يفهم عدم توفّر خطّ مباشر بينه وبين حمّة خلافا لغيره من الرّفاق الذين لم يمنّ عليهم القدر الالتقاء وجها لوجه على المباشر مع الرّفيق كارل ماركس بعينه.
لم يقف عند هذا الحدّ بل كتب الآس آم آس التالي 9oulou il Hamma rahou Marx ja (قُولو لحمّة رَاهُو ماركس جَاءْ) وجعل يرسله مرارا وتكرارا إلى الأرقام التي بحوزته وأحيانا مرّات عديدة إلى الرقم الواحد ولكن لا من مجيب. ظلّ ينتظر ساعات طوال وهو لا يفهم أن لا تتحرّك الجبهة ولا سيّما مكوّناتها الماركسية في هبّة واحدة للردّ عليه. والحقيقة أنّ بعض الذين وصلتهم الإرسالية وهم في عزّ النّوم لم يفهموا بدورهم شيئا من فحواها ولا مغزاها. في الصباح جاءه الردّ من إحدى القياديين معاتبا إيّاه عن الشوشرة التي أحدثها بقوله:
– وَقْتُو تَوَّه الحديث عَ الكورة..وفي عْقَابْ اللّيالي يا رسول اللّه ؟ ما عَنْدُو مَا يَعْمِلْ حمّة.
ذهب في ذهنه أنّ صاحبنا أراد أن يزفّ إلى حمّة بشرى قدوم اللاّعب التشادي كارل ماركس الذي اشتراه رئيس النادي الإفريقي من دفاع الجديدة المغربي ليعزّر به هجوم الإفريقي في حربه الضّروس ضدّ النجم والتّرجّي ولعلمه بأنّ حمّة من أنصار الأحمر والأبيض.
فما كان من صاحبنا إلاّ أن أفهمه تفاصيل القصّة وهو يصيح فيه وينعته باللامسؤولية وعدم الارتقاء إلى مستوى الحدث مستمتعا في الأثناء بلحظة ثأر من قيادي شاءت الأقدار أن تضعه في ميزان قوى تكون فيه الغلبة لمجرّد نصير قاعدي.
عند منتصف النّهار إلاّ عشرة دقائق بتوقيت تونس العاصمة وما جاورها ركب الرفيق كارل ماركس الحقيقي السيارة التي قدم فيها حمّة مرفوقا بالأمن الرئاسي الموكول له حراسته الشخصية تتبعه سيارة ثانية رباعية الدّفع من باب الاحتياط. ركب الرّفيق جنب الرّفيق. وبالأمام كانت تجلس امرأة في الأربعينيات من العمر وهي ملتفتة إليهما وتتحدّث معهما.
مدام سعاد، الورقة الرّابحة
لكن كيف نفسّر فراغ الساعتين والنّصف الفاصلتين بين تلقّي القيادي الخبر وبين قدوم الرّكب ؟ الحقيقة أنّها لحظات صعبة للغاية عاشها فصيل اليسار داخل الجبهة الشعبية، بعضها كان ضروريا لفهم الخبر وهضمه وتحليله، وأغلبها كانت رحلة بحث مضنية عن مناضل ماركسي يتقن اللّغة الألمانية لتأمين الوصل بين الرجلين. لم يكن الوقت كافيا لوضع الشروط والمقاييس المطلوبة في المترجم كأن يكون بالدّرجة الأولى ماركسيا ملتزما وعضوا بحزب العمال، وإن تعذّر ذلك فبحركة الوطنيين الديمقراطيين، أو بالجبهة على الأقلّ، وفي أدنى الأحوال نصيرا بل حتى غير مناوئ لها وذلك أضعف الإيمان. وبما أنّ الوقت لا يرحم كما هو معلوم فقد وقع الاكتفاء بمدام سعاد، وهي مدرّسة ألمانية لا تفهم في السياسة سوى مقدار ما تبثّه التلفزة ولكنّ ماركس بالنسبة لها أيقونة، وتراث، وأدب، ومعلم، ورمز، وعلامة من علامات الحضارة الألمانية المعاصرة التي درستها بتفان ومحبّة واحتفظت منها بأسماء أعلام دون ترتيب أو تقيّد بمجال اختصاص كقولك هيجل وبيتهوفن وكانط ولوثر وغوته وغيرهم. كانت في حالة من الفوران والإثارة ممّا دعا الأمر بأحد مستشاري الجبهة أن يناديها جانبا ليذكّرها قائلا :
– « آسمعي يا مَدَامْ سُعاد، عَيِّشْ أُخَوَّيْتِي، إللّي يْڤُولو حمّة ڤوليه بالألمان، واللّي يڤولو الرّفيق كارل ماركس (نطق الاسم بخشوع) ڤوليه بالعربي، لا تْزيدي لا تْنَقّصي.. يِفَضّْلِكْ ». أجابته على عجل وهي تكاد ترقص :
– « Oui, bien sûr، عَادْ هَذَاكَ اللِّي ما زال، تْهَنَّا، تهنّا، خُويا ».
هكذا غابت السيارتان وركابها وسط المدينة.
النّفق
في منتصف النّهار، على مسافة نصف ساعة مشيا على الأقدام من الأنترناسيونال، كان حيّ باب سويقة يعجّ بالخلق، والنّاس تتوافد لاستطلاع الخبر عن داعية جديد أتى البلد بعد أن انقطع دابر هذا الرّهط منذ زيارة المصيبة غنيم وبعض من أمثاله من الدّرجة الثانية وما أثاروه من جدل قارب الفتنة. فالجموع أبت إلاّ أن تقود ضيفها في زيارة للمدينة العتيقة سالكة مسار المساجد وأضرحة الأولياء الصّالحين. عند بلوغهم بطحاء الحلفاوين أبى الشيخ سوى أن يؤمّ صلاة الظهر في الهواء الطّلق لكثرة الخلق أمام جامع صاحب الطابع. وبما أنّ للشيخ سحر الشرق وهالة الأبوّة الرّوحية للإخوانية الإسلامية في زمن رابعة التي غذّاها سيسي مصر من حيث أراد أن يقاومها، فقد تعاظمت أفواج المصلين من كلّ حدب، وتوافدت جموع التاركين لصلاتهم ليتذكّرونها بالمناسبة، وفعل منطق الحشود فعله ليُخرج الفردَ من فردانيته ويحشُرَهُ في زمرة الجماعة المنتظمة في قافلة العودة إلى زمن لا عقاربَ للسّاعة فيه ولا تَتَالٍ للسّنين والعصور بل هو لحظة انصهار في أسطورة الأمّة وتماهٍ في عصر النبوّة والسّلف الصالح وزمن الصّفاء والنّقاوة. في الأثناء تعطّلت حركة السّير والحياة في الشوارع المجاورة وانسدّ نفق باب سويقة ليتحوّل إلى مسلك غير ذي منفذ، وفقدت شرطة المرور، والتّفتيشات، والمخابرات سيطرتها على مربّع التديّن المستلف مهجته من الشّرق البعيد.
رحلة البحث عن البروليتاريا
وزير الدّاخلية كان قابعا في مكتبه يتابع الأحداث لحظة بلحظة وهو يحاول أن يفهم حكاية ماركس ويطمئن النّفس بأنّ هذا الأخير « جَا وَحْدُو » ولم يصطحب معه رفيقه الحميم فريديرك أنجلز وإلاّ كانت الطامة أكبر.
كان يتحدّث في الهاتف إلى رئيس الحكومة :
– سَيِّدْ الوزيرْ، الوَضْعْ تحت السّيطرة. نْتَابْعو فيهم. مُتّجهينْ الآن نحو الطّريق السيّارة باتجاه سوسة. هوما في مستوى منعرج المرناقية… لحظة سيّد الرئيس… استخباراتنا تقول أنّو ماركس طلب من حمّة باش يِرافْقُو للحوض المنجمي. يحبّ يشوف البروليتاريا… قوى الإنتاج الحقيقية…
– يا سي ناجم… آنا قُوى إنتاج وآنا بروليتاريا… قُلُّو مسكّرة المناجم… ما ثمّة شيء. لا قوى إنتاج ولا إنتاج ولا هم يحزنون… الفسفاط قيّد فلسة.
– سيد الوزير، نْعَاوِدْلِكْ في اللّي تقول فيه مدام سعاد …المترجمة.
– آشكون قلت لي ؟… مادام سعاد ؟… لا باهية هذي… يعطيها الصحّة! حمّة ومدام سعاد وماركس في حماية الأمن الرئاسي ماشين يلوّجو ع البروليتاريا في الحوض المنجمي… très bien.
– لحظة سيد الوزيرْ، معلومات تتوافد علينا من باب سويقة. النَّفَقْ اِتْسَكِّرْ وحركة المرور شُلّت. أعداد مهولة من المواطنين رافعة شعار رابعة.
– آشنَوّه ؟ مْصَارْوَه هاذوما ؟
– لا سَيِّدْ الوزير، توانسة ..اجتمعوا للصّلاة بإمامة واحد يقولولو أبو الأعلى المودودي… نزل البارح في جامع الزّيتونة ثمّ انتقل عبر الأسواق مشيا على الأقدام وصولا إلى بطحاء الحلفاوين. آلو… آلو… عذرا سيد الوزير الرّيزو طايح…توّه نرجعلك.
– ارجعلي بعدما اِتْثَبِّتْ أُمورك… من فضلك.
في الأثناء ارتسمت في مخيّلة وزير الدّاخلية صورة مصباح كهربائي تضيء أسلاكه ولم تمسسها نار دلالة على فكرة عبقرية اخترقت خاطره. تذكّر أنّ لديه وزيرا حمل الماركسية دهرا ولم يقطع خيط الرباط معها وله رُبّ وزن قد يوفّر قارب نجاة. أخذ ورقة وقلما وهو يدندن في نغم أقرب إلى النشيد العسكري منه إلى فيروز « أنا عندي حنين، ما بَعْرِفْ لِمِينْ… ». ثمّ فرك يديه كطفل صغير وهو يردّد « يا كمال…يا كمال ».
باب سويقة… يا واللّه عَمْلَه !
في الأثناء أيضا، بادر أحد كوادر النّهضة الميدانيين من الحاضرين في المحفل بإعلام شيخه بما يجري. كان إلى التيار المتشدّد داخل الحركة أقرب منه إلى التوجّه السياسي الجديد، وفي نفسه غبطه بأنّه المبادر برفع تقرير سيسرّ القائد حتما لعودة الرّوح إلى الحراك الديني بعد وهن أصابه في الفترة الأخيرة.
– آلو، سِيدي الشّيخ.
– آلو، يا مَرْحَبَا، يا مَرْحَبا، ها الغْطَا السّعيد.
– عَنْدِي لِيكْ بُشْرَة سارّة. خَبَرٌ يُثْلِجُ القلوب.
– خَيْرٌ إنشاء اللّه
– أنا تَوَّه في باب سويقة، وَسْط الزّحمة. هاني نحاول باش نوصل للحلفاوين. الخاطر ياسر. باش نْصَلِّيوْ وراء شيخنا الأكبر.
– آش نُوّه.. باش تعملو كِيفْ على الشيخ مورو… تقبل اللّه وليدي.
– لا يا شيخ، راهو أبو الأعلى المودودي وما أنْدراك…هاو جاء… العباد باش تهبل.
– آشنوّة ؟.. المودودي ؟.. وفي باب سويقة زاده ؟.. تي ما صَدَّقْنَا لرَبّي نْسِيناها الحكاية… ما لقى من أرض اللّه الواسعة كان باب سويقة… وَقْتُو توّة… يا واللّه مصيبة.
لم يفقه الكادر الوسط ردّة فعل شيخه لعلاقة بين المقدّس والمدنّس تفوق مداركه بأربعة عشر قرنا. ظلّ يبحث عن كلماته لكنّ الزّعيم علّق السمّاعة. لم يكن له متّسع من الوقت لإفهام المناضل المندفع فنّ السياسة وإستراتيجية المراحل وفق السلم التطوّري بداية من مرحلة التعريف بالفكرة واختيار طلائع الجماعة، فمرحلة تكوين هيكل تنظيمي قوي وإعداد الكوادر وتعبئة الموارد، وصولا إلى مرحلة التمكّن ومنها يبدأ الجهاد وبسط أستاذية الإسلام على العالم. والحقيقة أنّ صاحبنا الكادر قرأ هذه التعليمات لكنّه لم يكن يعرف في أيّ المراحل يوجد تحديدا.
الضّرب في حومتك.. يا فتّاح
يرنّ الهاتف في مكتب محام من مشاهير وجوه السياسة.
– آلو، يا سيدي مرحبا… أَشْرَقَتِ الأنوار. ما تْقُلِّيشْ المدام عملت كسكسي بالعلّوش وتحبّ تستدعاني. الحاصيلو وحدك يا شيخ.
– واللّه نعملك زردة يا عبد الفتّاح لو كان تْسَلِّكْها ها المرّة.. البيعة مَاسْطه يَاسِرْ.. مِنَّا تَحْرَقْ ومِنَّا تِشْوِي.
– يا لَطِيفْ !ما هو لا باس.
– باب سويقة … يا عبد الفتّاح… باب سويقة.
– آهَـاهْ… ما تقوليش عَاوِدُْتو عْمَلْتُوها… بالَّذِي لا إله إلاّ هو المرّة هاذي لا حَلِّتْ ولا رَبْطِتْ.
– لا يا عبد الفتّاح. المرّة هذي… أبو الأعلى المودودي.
– طَيَّحْتْلِي رْكَايْبِي اللّه يسَامْحِكْ.. إيه وين المشكل. تْحِبّْ نَعْملو عليه محاضرة.
– تي هو بيدو جاء باش يعمل محاضرة واللّه أعلم آش معاها آخر…. و آهَوْكَا تَوَّه في حُومْتِكْ.
خِتْمِتْ يَا بن عروس
الساعة الثانية بعد منتصف النّهار. قصر قرطاج. يرنّ الهاتف في جناح رئيس الجمهورية مرّات عديدة قبل أن تُرفع السمّاعة :
– آلو، آشْكون معايا ؟
– آلو، ع السّْلامة ياَلاَّ السيّدة.. معاك محسن.
– محسن مْتَاعْنَا ؟
– إيه يالاَّ السيدة..محسن متاعكم.. عَدّي لي سي الْباجي يِفضّْلِكْ.
– وُوه يا محسن.. ما تَعْرِفْشْ اللِّي ها الوُقَيِّت يَبْدا مْقَيِّلْ.
– نَعْرِفْ.. نعرف mais c’est urgent, très urgent
– أووه يا وليدي، ما قُلْتلي خير.. زعمة لازم نْفَيِّقُو ؟
– فَيِّقُو يا مدام… فيّقو..
بعد لحظات :
– آلو.. محسن.. مَاوْ لاََباسْ… كْلِيتُو بْعَضْكُم ؟
– لا يا سي الباجي، أمور أخرى كبيرة.. راهُم هْنَا.
– آشكونهم اللِّي هنا، اللّه مْعافينا.
– ماركس.. وأبو الأعلى المودودي.
– عاوِد، عاود .. آشكونْ قُلْتلي.
– Eh bein كيما قلتلك.
– هيا يِزِّيتْشْ مالضّْمَارْ، زيد قلّي هذوما زادَه… روافد النّداء… ناقصين أحنا.
تبع ذلك حوار طويل قبل أن يفهم الباجي الموضوع ويعلمه مُحْسِنُهُ أنّ ماركس في ضيافة حمّة، وأبا الأعلى يسيطر على الحلفاوين ودوائرها، فعلّق السماعة وهو يتمتم :
– خِتْمِتْ يا بن عروس.
يتبع…