مش أحسن من سوريا و العراق

 

بقلم يارا شاهين

 

كانت السينما وصناعتها هي الهم الشاغل والبطل الحاضر في فيلمي لمين عامر خوجة « بلا سينما » وزياد كلثوم « الرقيب الخالد ».فبينما يتسائل خوجة في فيلمه لماذا توقف أهل الجزائر عن دخول السينما، يصور كلثوم فيلمه أثناء تصوير فيلم للمخرج السوري الشهير محمد ملص  في شوارع دمشق. في كلا الفيلمين تظهر دور السينما المقفرة من الخارج وأحيانا في لقطات داخل الدور نفسها..

 

اختارا المخرجان السينما وكأنها شريكهما الثاني في صناعة فيلميهما عن مدينتين متباعدتين ولكن لا يخفي التشابه بينهما عن أحد : دمشق والجزائر العاصمة. فتلك مدينة كانت تعيش حرب أهلية، أما الأخري فلاتزال تعيش الكابوس السوداوي الذي لا ينتهي. ستتذكر بالطبع بمجرد مشاهدتك الفيلم السوري الجملة التي أصبحت نكتة وتهديدا وابتذلت حتي النهاية  » مش أحسن ما نبقي زي سوريا و العراق » وإذ بها تخرج لك حية من أفواه أهل الجزائر العاصمة الذين رغم شكواهم المتعددة من صعوبات الحياة، يتذكرون إنه « برضو أحسن ما نكون مثل سوريا و العراق ».

 

علي مدى عشرة أيام استطاع خوجة أن يخرج بفريق التصوير إلي إحدى ساحات الجزائر العاصمة ويفتح كاميرته ويحكي مع الناس العابرين…يسمع ساعات من الإدعاء والسخرية والقهر و لحظات كثيرة من الصدق …بينما لا يمتلك كلثوم تلك الرفاهية في دمشق في عام ٢٠١٢ حين كان مضطرا أن يكون مجندا إجباريا..فيستخدم كاميرا الهاتف المحمول. تبدو اللقطات مسروقة كما هي كل الحياة في دمشق، لحظات أيضا مسروقة. يظهر خوجة في فيلمه أحيانا قليلة ربما ليعكس علاقته المرتبكة بوطنين، فهو الذي تربي و نشأ في الجزائر و يعيش في فرنسا، حالة مستمرة من الدخول والخروح،من الحضور والغياب، بينما يظهر زياد بكاميرا هاتفه المحمولة الخفية كظل علي الطريق كشبح في مدينة يمشي أهلها فيها كالموتي الأحياء.

 

يشغلني دائما في الأفلام التسجيلية (سينما الحقيقة) كيف يسمح الناس لهذا القادم الغريب بأن يقتحم حياتهم، بأن تتحول لقطات من ذواتهم لشريط يراه الجميع ويتفاعل معاه…يتحول الحدث الفردي لمشاع يقتحم الخصوصية. يقرر البشر أحيانا أن يقدموا عرضا أمام الكاميرا وأحيانا أخري يقرروا أن يشاركوا أدق المشاعر مع العالم و الكون. أهل ساحة الجزائر العاصمة يقررون أحيانا أن يتكلموا طويلا أمام الكاميرا،ترك لهم المخرج المساحة ليلعبوا كافة الألعاب الاستعراضية انتظارا للحظة الصدق الكبري أو الكذب الكبري. وفي أحيان كثيرة لا يظهر شيء سوي الصمت والحياد، لكن كلثوم في دمشق يقتحم حياة الناس بقسوة ويدفعهم ربما ليجيبوا عن أسئلته هو الداخلية، يتحدث أهل دمشق عن القتل والتعذيب والسجن والخوف والموت بلا تورية ولا رمزية فهو شريكهم الحاضر كل يوم.

 

الجنون حاضر في الفيلمين رغم الفروق بين المدينتين…العيون الزائغة أحيانا والاعترافات بالجنون صراحة أحيانا أخري. هناك السيدة في الجزائر التي تصر إنها ملبوسة من الجان والرجل السكران الذي يصر أيضا أنه ليس سكرانا وهناك في دمشق الأب المكلوم الذي فقد ابنه في الحرب الأهلية والجالس بالورود أمام دار سينما يهذي وكذلك إعترافات فريق عمل فيلم ملص أنهم يسكرون أو يتعاطون المخدرات ليستطيعوا أن يستمروا وكيف تظل واعيا وحيا وسط هذا الكابوس .

 

وكما أن الجنون حاضر في الفيلمين فإن السياسة أيضا حاضرة في كليهما. تسأل إحدي السيدات خوجة هل تريدنا أن نتحدث عن بوتفليقة؟ يرفض وإن كان يسمع الكثيرين يتحدثون عن أزمة السكن و الفساد بينما بالطبع لا يمكن تجنب الحديث عن بشار الأسد في فيلم كلثوم سواء من كارهيه أو محبيه فالمعادلة في سوريا ببساطة كانت منذ بدء الثورة و ربما لا تزال  » إما بشار أو لا شيء آخر » بينما لا يعلم أحد هل بتوفليقة حي أم ميت  فهو زومبي آخر وإن كان علي رأس الدولة.

 

في المشهد الأخير البديع في الفيلم الجزائري ندخل أخيرا لدار السينما التي هجرها أهل الجزائر من قبل الحرب الأهلية لنكتشف أن الدار تحولت لمسرح مخزي به رحلة مدرسية ويقوم الأطفال بالتحدث عن السيادة الوطنية واللغة العربية وبلد المليون شهيد بلغة عربية ركيكة وفي مشهد يعكس بؤس المشهد السياسي في الجزائر وتحجره وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظة الستينتية.  بينما اختار زياد كلثوم أن يصاحب كلام الناس عن الجيش السوري الذي يخوض حرب ضد « المخربين » والحديث عن الصمود والبطولة وسوريا الأسد لقطات من داخل سينما معلق علي جدرانها بوسترات لأفلام إباحية و كأنه يدين خطاب البعث الستيناتي المتحجر هو الأخر، ذلك الخطاب السياسي المتحجر و الكاذب والمجرم هو العهر الحقيقي.

 

أراد زياد كلثوم أن يكون فيلمه بيانا و إعلانا رفضه لتلك الحرب الأهلية المميتة وأنه لن يكون جزءا منه إذ يهرب من التجنيد الإجباري وسوريا بأكملها ويترك هذا الخراب ولكن يوثقه ويطلقه للعالم في فيلمه البديع والمؤلم. رغم أن خوجة لم يكتب بيانه الإبرائي علي الشاشة كما أعلن كلثوم فكان فيلمه الذي وجد فيه السينما المفقودة في دور العرض هناك في قلب الشارع هو بيانه أيضا عن علاقة ملتبسة بوطن مشوش.

 

بعد مرور أكثر من خمسة عشر عاما علي إنتهاء حرب العشرية السوداء في الجزائر، لا أعلم هل الحياة بالفعل هناك « أحسن من سوريا و العراق »؟

 

 

Afficher plus
Bouton retour en haut de la page