من آخر إصدارات نشاز لسنة 2019: الديمقراطية الآن، قراءة في ظاهرة قيس سعيد

لقد ودّعنا منذ أيام سنة 2019، لكن، للأسف، لم نودّع معها الأزمة. فالصعوبات الاقتصادية ما زالت قائمة ولعلّها تفاقمت على نحو غير مسبوق. ضمن هذا السياق المحمّل بجميع المخاطر بقدر ما هو محمّل ببعض الوعود، تسعى نشاز في اصداراتها للفهم، للتحليل.

من آخر إصدارات نشاز لسنة 2019 : الديمقراطية الآن، قراءة في ظاهرة قيس سعيد

اخترنا لقرائنا مقتطف من الكتاب :


مفهوم مختلف للسياسة

لم يتغير رغم الثورة، في ظلّ الانتقال الديمقراطي، مفهوم السياسة عمّا كان عليه مع بن على وبورقيبة، بل ما تغيّر هو تمثّلُ الناس للسياسة. فسابقا كان عامة الناس يتعاملون مع السياسة بحذر كبير وخوف دائم من بطش النظام الذي مثّل لدى الناس نوعا من «البانوبتيكون» (panopticon). ونادرا ما كُنت تجد أناسا يناقشون الشأن السياسي في الأماكن العامّة عدا في الفضاء الجامعي ومقرات الأحزاب والمنظمات، قليلة كانت عمليات تحرير الفضاء العام من قبضة النظام. وكانت هذه المحاولات عنيفة في أغلب الأحيان ودموية أحيانا أخرى (أحداث 1978، انتفاضة الخبز 1984، انتفاضة الحوض المنجمي 2008). أمّا بعد الثورة فتحوّل هذا التمثّل إلى مزيج من التمثّلات التي يغلب عليها التجاهل، واللامبالاة، والرّفض، وعدم الثقة في الطبقة السياسية برمتها، سلطة ومعارضة. وأصبح الناس يمارسون السياسة بطريقتهم ولكنهم في نفس الوقت يضعون عبر مطالبهم وتعبيراتهم وفنّهم مفهوما مختلفا. ومن جهة أخرى ارتبط العمل السياسي الحزبي قبل الثورة أساسا بالمطالبة بالحريات باعتبارها الوسيلة التي ستُمكّن من التحام النخب السياسية بالجماهير. كما ارتبط مفهوم السياسة بمسألة السلطة وكيفيّة الوصول إليها أو افتكاكها. وقد كانت هذه الرؤية قاسما مشتركا بين جميع الأحزاب السياسية بيمينها ويسارها.

هذا المفهوم الضيق للسياسة وجد نفسه في أزمة إبان الثورة وبعدها. فأولاّ، كانت المطالب مرتبطة بسقف أعلى من الحريات حيث أنها طرحت الملف الاجتماعي بقوة. لقد طالب المنتفضون بالتشغيل، والعدالة الجهويّة، والعدالة الاجتماعية. كما أنّ الثورة تنظّمت بشكل مختلف عن الأشكال الحزبية فلم يكن لها رأس ولا قيادة ولم تتجه على غرار عديد التجارب الثورية الأخرى إلى القصور الرئاسيّة أو أعلنت عن البيان رقم 1.

يلخص آلان باديو (Alain Badiou) في كتابه مدح السياسة (Eloge de la politique) هذين المفهومين/المقاربتين للسياسة في قوله: «أرى في الواقع تعريفين محتملين للسياسة. يركّز الأول حول مسألة الاستيلاء وممارسة السلطة داخل الدولة. فتكون السياسة بذلك إدارة واقعيّة لضروريّات السلطة. أمّا التعريف الثاني، والذي نشأ في وقت مبكر جدا وخاصة مع أفلاطون، فيعتبر أن المسألة الأساسية تكمن في العدالة. أنخرط، فيما يخصني، في الاتجاه الثاني وأعرّف السياسية على أنها جملة الإجراءات التي تؤدي إلى تنظيم مجتمع عادل.».

إنّ مشروع البناء الجديد يتبني بالفعل هذا المفهوم الثاني للسياسة من جانبين. الأول هو أنّ الهدف من العمل السياسي ليس الوصول إلى السلطة بل إعادة السلطة لأصحابها الحقيقيين. والثاني هو أولوية مسألة العدالة على مسألة السلطة.

أهل مكة أدرى بشعابها

اتُّهم قيس سعيّد ورفاقه، في أكثر من مناسبة، بالشعوبية وكانت الحجّة الرئيسية المقدّمة في كلّ مرّة هي غياب أي برنامج له. وإذا تجاهلنا فكرة أنّ هذا المشروع هو في حدّ ذاته برنامج سياسي، فإنّ المقصود بالبرنامج هو جملة الحلول والإجراءات التي سيقوم بتطبيقها المترشح إذا ما نجح في الانتخابات. ويكون السؤال بصفة عامة حول هذا البرنامج كالتالي: «ما هي وعودكم الانتخابية للشعب التونسي؟». لقد رفض قيس سعّيد عكس كلّ المترشحين معه وكلّ من ترشح في أي انتخابات سابقة منذ 2011، تقديم أي وعود انتخابية. ألم يكن قادرا على صياغة بضع ورقات يكتب فيهم بضعة أفكار عن مشاريع وبرامج ممكنة مثلما فعل باقي المترشحين؟ ألم يكن قادرا، وهو الذي زار الزوايا المظلمة للجهات التونسية على صياغة «برنامج انتخابي؟»

لقد رفض ذلك مبدئيا، وليس عجزا منه ومن فريقه. واحتمل التهم المتعلقة بالشعوبية وبالغموض لصالح المشروع الذي يعبّر عنه.

إنّ المشاكل التي تعيشها تونس متشعبة ومعقّدة ومتناثرة في كلّ الأرجاء. وليس هناك سوى طريقين لحلها.

الطريق الأول هو الذي تتبعه كلّ النخب السياسية دون استثناء، في الأطر الحزبية في معظم الأحيان، أي صياغة برنامج وطرحه في الانتخابات والسعي لتحقيقه إذا ما كسبت ثقة الناخبين. تحمل هذه الطريقة في العمل السياسي فلسفة ضمنية خطيرة نجدها عند الأحزاب الحداثية والإسلامية واليسارية وهي اعتبار أحزابهم وإيديولوجياتهم العقل المفكر الطلائعي والفاعل القادر على استنباط الحلول (le sujet)، مقابل الشعب الذي يصبح موضوع هذا الفعل ( l’objet). تتحول هذه البرامج إلى أضغاث وعود عندما تصطدم بالواقع الانتخابي، فالنظام السياسي الحالي لا يسمح لأي حزب سياسي بالفوز بالأغلبية المطلقة، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى اتباع سياسية التحالفات والتوافقات والتنازلات التي تكون على حساب تلك البرامج والوعود. ألم يعد الإسلاميون بالقطع مع رموز «النظام السابق» ولم يفعلوا؟ ووعد الحداثيون بالحكم دون الإسلاميين ولم يفعلوا؟ وكنّا نسمع في كلّ مرّة نفس الحجة: «لا يمكننا أن نحكم بمفردنا» بل أنّ هذه الأحزاب تحمّل الشعب، بكلّ وقاحة، تخلّيهم عن وعودهم الانتخابية بتعلّة أنّ هذا الشعب لم يمنحهم الثقة الكافية. لقد قُدّمت منذ انتخابات المجلس الوطني التأسيسي الآلاف من الوعود الانتخابية التي اختفت وتلاشت منذ إعلان النتائج وليس ما نعيشه اليوم في تونس سوى دليل على ذلك، وليست سياسة الأكاذيب هذه مرتبطة بالنخب السياسية بل أنّ هذه النخب نفسها هي نتاج للديمقراطية التمثيلية التي ترزح بجسمها الثقيل فوقنا.

أمّا الطريق الثانية والتي سلكناها رغم المخاطر في هذه الانتخابات، فتعيد مهمّة تسيير الشأن العام لأصحابها، لا يمكن لأي «أنتليجنسيا» بمفردها إيجاد الحلول المناسبة لما تعيشه البلاد كما لا يمكن لأي سلطة مركزية معرفة مشاكل أقصى العمادات والدشرات المنسية في أعماق تونس. فالأمر الوحيد القادر على إنقاذ البلاد هو فعل جماعي واسع يقوم به من هم، فعلا، تحت وقع هذه المشاكل. كيف لطبقة سياسية قادمة في معظمها من وراء البحار والمتمركزة في العاصمة أن تعرف مشاكل منطقة الكامور بتطاوين لولا الهبّة التي قام بها شبابها، وكيف لها أن تحلّ مشاكل عمادة أولاد حسن بمعتمدية جبنيانة بولاية صفاقس بالجنوب التونسي وهي التي قد تجهل وجودها أصلا؟

إنّ ما يطرحه هذا المشروع هو أكبر عملية عصف ذهني (Brainstorming) في تاريخ البلاد، ولا يجب أن ننسي أنّ العملية السياسية والتنموية كانت، من الحبيب بورقيبة إلى اليوم، عملية فوقية وقهرية بمعني أنّ المجتمع لم يشارك في بلورتها بل خضع لها. كان الشعار الذي رُفع في ردّ على تهمة الشعبويّة هو «فلنعطِ الثقة للشباب».

Afficher plus
Bouton retour en haut de la page