وثائق هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات بتونس

وثائق هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات بتونس

الوثيقة 1: البيان التأسيسي لهيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات بتونس

الوثيقة 2: هيئة 18 أكتوبر بباريس من أجل الحقوق و الحرّيّات في تونس

الوثيقة 3: إعلان هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات حول حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين

الوثيقة 4: هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات : إعلان مشترك حول العلاقة بين الدولة والدين

الوثيقة 5: حول انحراف داخل اليسار أو عندما يضلّ رفاق الطريق

الوثيقة 6: العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين: تجربة 18 أكتوبر في تونس بقلم نجيب الشابّي

الوثيقة 1
البيان التأسيسي لهيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات بتونس
I
ان خمسين عاما من حكم النظام القائم قد أكدت عجزه عن تحقيق تنمية شاملة ومندمجة تستجيب لمقتضيات النهوض بالبلاد وتضمن مقوّمات العيش الكريم للشعب، فتفاقمت التبعيّة وهدرت الثروات العمومية وتفشّى الفساد والإثراء غير المشروع وتعمقت الاختلالات الاجتماعية بين الفئات والجهات، وانتشرت البطالة بما في ذلك في أوساط أصحاب الشهادات العليا وتدهور مستوى العيش.
كما أكدت فشل الحزب الحاكم في تحديث النظام السياسي وتنكره لتضحيات الشعب التونسي وطموحات الحركة الوطنية. هذا الحزب الذي أرسى، رغم كل الطّلاء العصري، نظاما استبداديا قائما على الحكم الفردي المطلق، وإلغاء دور المؤسسات وطغيان جهاز الأمن والمخابرات على الحياة العامة وفق أسلوب استثنائي قائم على “التعليمات” عوضا عن القانون رغم علاته. وقد أقامت السلطة المنبثقة عن هذا النظام علاقتها بالمجتمع على أساس الإخضاع وفرض الوصاية على كل تعبيراته المدنية والسياسية وألغت جميع الحرّيات وجرّمت ممارستها، وأحالت الآلاف من المواطنات والمواطنين من مختلف التيارات السياسية والفكرية ومن النقابيين والحقوقيين على المحاكم وزجت بهم في السجون، كما زيفت على مدى نصف قرن الإرادة الشعبية ومنعت حصول أي تداول على السلطة وجعلت من الرئاسة مدى الحياة قاعدة للحكم. وبقدر تفاقم أزمة شرعية نظام الحكم نتيجة ذلك، ازداد ارتهانه بالخارج والاستقواء به على الشعب وقواه الديمقراطية المطالبة بالتغيير.
II
لقد شهدت أوضاع البلاد في الآونة الأخيرة تدهورا خطيرا للحقوق والحريات تجسد في الاعتداء على المحامين وعلى هياكلهم الممثلة والسطو على جمعية القضاة ومنع انعقاد مؤتمري الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ونقابة الصحافيين التونسيين وشلّ نشاطهما ومعاقبة الجامعيين اثر إضرابهم الإداري وتشديد الحصار على أنشطة الأحزاب والتيارات السياسية المستقلة القانونية وغير القانونية وقمع التحركات المناهضة لدعوة شارون لزيارة تونس وتصعيد الاعتداءات الجسدية على رموز المجتمع المدني والسياسي.
في هذا الظرف العصيب مثّل تحرك “18 أكتوبر” من أجل الحقوق والحريات محطة متميزة في سياق النّضالات التي خاضتها القوى الديمقراطية خلال السنوات الأخيرة، بما كرسه من روح ميدانية مكنت المعارضة من استعادة المبادرة السياسية، ومن روح وحدوية شملت جل أطرافها التي تجمعت حول مطالب حرية التعبير والصحافة وحرية التنظّم الحزبي والجمعياتي وإطلاق سراح المساجين السياسيين وسن العفو التشريعي العام، وهي مطالب تمثل الحد الأدنى المتفق عليه والمعبر الضروري لوضع أسس الانتقال الديمقراطي المنشود الذي يهدف إلى القضاء على الاستبداد وبناء مؤسسات الدولة على قاعدة الشرعية الديمقراطية القائمة على احترام مبادئ المواطنة وسيادة الشعب المتحرر من كل وصاية والتداول الديمقراطي على الحكم والتعددية الفكرية والسياسية وصيانة حقوق الإنسان. كما يهدف إلى بناء مجتمع مدني قوي قادر على التصدي لكل محاولات النيل من أسس النظام الديمقراطي والتراجع عنها.
III
إن وحدة العمل حول الحد الأدنى المذكور من الحريات الذي قام عليه تحرك “18 أكتوبر” يمليها ما أدى إليه احتكار السلطة السياسية من قمع منهجي للحريات العامة والفردية، ويضع المعارضة التونسية أمام حالة حادة من الانغلاق السياسي تفرض عليها بشكل مباشر وملح مهمة تحرير الحياة السياسية وفك القيود المضروبة عليها باتباع نهج المقاومة المدنية والسياسية وهي مهمة لا تعني الأحزاب والتيارات السياسية فحسب وإنما كل مكونات المجتمع المدني.
ولا تمثل وحدة العمل هذه مدخلا سياسيا ضروريا لفك الخناق المضروب على المجتمع فحسب بل هي أيضا كفيلة بتوفير مناخ ملائم لإجراء حوار وطني، علني وشفاف يفضي إلى بلورة عهد ديمقراطي يكفل لكل المواطنين والمواطنات المساواة والحريات والحقوق الأساسية غير القابلة للتصرف أو الاستنقاص ويشكل قاعدة للمشاركة السياسية والتداول على الحكم على أساس تناظر وتنافس البرامج والرؤى وهو عهد من شأنه أن يرتقي بمستوى وحدة العمل إلى إرساء أسس التغيير الديمقراطي. وقد عهدت “هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات” بإنجاز هذه المهمة إلى “منتدى 18 أكتوبر”.
IV
إن المعركة من اجل الحريات والديمقراطية لا تتخذ بعدها الحاسم إلا إذا تحولت إلى معركة للشعب التونسي بأسره. وهي بالأساس معركة ضد كل وصاية، سواء كان مصدرها الاستبداد المحلي أو التدخل الخارجي، يخوضها الشعب بذاته ولذاته لان حرية المواطن من حرية الوطن وحرية الوطن في حرية مواطنيه.
وكما كان للشعب التونسي منذ الكفاح الوطني أنصار وأصدقاء في كافة أنحاء العالم يدعمونه، فله اليوم في القوى الديمقراطية والتقدمية عبر أرجاء العالم سند قوي في نضاله ضد الاستبداد ومن أجل الحرية والديمقراطية، وهي حليفه في الضغط على حكومات البلدان التي تدعم الاستبداد في بلادنا حتى تحترم إرادة الشعب التونسي وتوقه إلى الحرية …
V
إن هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات، وهي تكرس وحدة العمل حول الحد الأدنى من الحريات وتفتح حوارا حول مقتضيات الوفاق الديمقراطي تبقى مفتوحة على كافة القوى المعنية بمعركة الحريات والتغيير وتؤكد احترامها لاستقلالية كل الأطراف المتشاركة وقبولها للاختلاف ولا تلزم هذه الأطراف إلا بالاتفاقات والمواثيق المشتركة.
الوثيقة 2
هيئة 18 أكتوبر بباريس من أجل الحقوق و الحرّيّات في تونس
بيان
نعلن اليوم للعموم صدور الأرضيّة السّياسيّة المؤسّسة في باريس لإطار عمل مشترك هو “هيئة 18 أكتوبر للحقوق و الحرّيّات في تونس”. إنّ هدف هذا الإطار هو المساهمة في توفير شروط التّغيير الدّيمقراطي في تونس بارتباط مع “هيئة 18 أكتوبر” في تونس و مع اللّجان الجّهويّة و كلّ المبادرات المعبّرة عن تطلّعات شبيهة.
تضمّ الهيئة أهمّ أحزاب المعارضة التّونسيّة الممثّلة في باريس ( المؤتمر من أجل الجّمهوريّة ؛ حركة النّهضة ؛ حزب العمّال الشّيوعي التّونسي ؛ التّكتّل الدّيمقراطي من أجل العمل و الحرّيّات ؛ الوحدويّون النّاصريّون) و أهمّ الجّمعيّات المدافعة عن حقوق الإنسان في تونس (جمعيّة عائلات و أقرباء السّجناء السّياسيّين ؛ لجنة الدّفاع عن الحرّيّات و حقوق الإنسان في تونس ؛ التّضامن التّونسي ؛ المجلس الوطني للحرّيّات في تونس ؛ صوت حرّ ) بالإضافة لعدد من الوجوه المستقلّة النّاشطة داخل الجالية المهاجرة و المهجّرة التّونسيّة.
تحدّد الأرضيّة النّقاط المشتركة الّتي تلتزم بها مكوّنات الهيئة، و هي منظّمات و أفراد يحملون توجّهات فكريّة و حساسيّات سياسيّة مختلفة بل متضاربة أحيانا (إشتراكيّة ديمقراطيّة ؛ يسار شيوعي ؛ إسلام سياسي ؛ قوميّة عربيّة…). هكذا ترسم المعالم المبدئيّة الّتي تسمح بالتقاء مكوّنات الهيئة حول مقاومة الدّيكتاتوريّة و توفير شروط الإنتقال الدّيمقراطي.
إنّ تأسيس الهيئة و صياغة أرضيّتها و تحديد محاور برنامجها النّضالي هي نتاجا لحوار متواصل منذ بضعة أشهر بشكل شفّاف و ديمقراطيّ، و يبقى الإطار مفتوحا لكلّ من تبنّى مبادئ أرضيّتها من أفراد و منظّمات.
الوثائق المضافة
الوثيقة المضافة رقم 1 – أرضيّة العمل المشترك و آليّات العمل و أوّل الممضين باللّغة العربيّة
الوثيقة المضافة رقم 3 – أعضاء هيئة التّنسيق باللّغة العربيّة
يوم الإثنين 13 فيفري 2006-
دفاعا عن حقوق المجتمع…
أرضيّة للعمل السّياسي المشترك
هيئة 18 أكتوبر بباريس للحقوق و الحرّيّات في تونس
-1-
إننا نفهم الحركية التي انطلقت في 18 أكتوبر 2005 كتواصل لمعارك شعبنا في تونس من اجل العدالة والحرية المتتالية خلال العشريات الماضية. ونساندها على أنّها مرحلة من مراحل النضالات الديمقراطية والاجتماعية والنقابية والسياسية والجمعوية التي خاضتها الحركة العمالية والطلابية والتلمذية والنسائية وحركات المساجين السياسيين وعائلاتهم والمعطلين عن العمل والفنانين والمثقفين والهيئات المهنية (من محامين وقضاة وصحافيين) ونضالات المدافعين عن حقوق الإنسان وحركات الجاليات المهاجرة والمهجّرة .
وبهذا المعنى فان مبادرة 18 أكتوبر والحراك الذي احتضنها وتلاها هي، دون أي إقصاء أو أسبقية، ملك لكل التونسيات والتونسيين المؤمنين بضرورة القطع مع الوضع الحالي باتجاه انتقال ديمقراطي فعلي، و السّاعين لتوفير شروطه.
-2-
نرى أهمية مبادرة 18 أكتوبر في اتّفاق ثلّة من ممثلي الأحزاب السّياسية والجمعيات من مختلف الاتجاهات وعدد من الأفراد ذوي الحساسيات المتباينة على ضرورة القطع الديمقراطي الفعلي مع الدكتاتورية. و في إبداء عزمهم، بناءا على تلك الضّرورة، على تجميع قواهم حول مطالب مشتركة في عمل نضاليّ من شأنه أن يؤثر على ميزان القوى السّياسي لكي يفرض أهدافه.
تكمن أهمّيّة المبادرة كذلك في مدى المساندة الّتي حضيت بها و الّتي بلغت كل الجهات في تونس وفي مواطن الهجرة التونسيّة، إضافة لامتداد صداها لكافةالأوساط السياسية والنقابية والجمعويّة، بل لتجاوزه تلك الأوساط نافذا لما هو أوسع من دوائرالمناضالين.
وتكمن في كون توجهها التّجميعي الواسع يرافقه همّ الوضوح و الشّفافية في تبيان مبادئ وضوابط نشاطها وأسس العلاقات السياسية الّتي تسعى لإرساءها، ذلك إضافة لمطالبها الثّلاث الأوّلية.
-3-
إن المطالب المرفوعة من قبل المضربين عن الطعام هي أهداف لازمة لا غنى عنها تشكل إجماعا صُلب القوى المعارضة للدكتاتورية :
– ضمان حرية التنظم الحزبي والجمعوي.
– ضمان حرية التعبير والإعلام.
– إطلاق سراح المساجين السياسيين وسن قانون العفو التشريعي العام.
الإضافة النوعية لمبادرة 18 أكتوبر هي في سعيها لتجاوز التّنديد والاحتجاج نحو إعداد القدرة السياسية الفعلية على فرض هذه الأهداف.
حتّى يتسنّى حشد هذه القدرة السّياسية، يجب على العمل النضالي أن يوفر شروط تجذره الشعبي. وحتى يكون كاسب للمصداقية اللازمة يتوجب عليه أن يعرض بوضوح قواعد عمله ومبادئه و عناصر الإجماع في صلبه.
-4-
إن المطالب التي تم طرحها خلال إضراب 18 اكتوبر عن الطعام تعدّ ضمن ألحّ الضرورات، و تحقيقها من أحوج المهام المطلوبة منّا. حتّى نكون في مستوى ذات روح المبادرة علينا أن نتقدم بالمزيد من الخطوات.
لذا، فإنّا ننوي وضع ضمن أولويّاتنا إطلاق الأنشطة و النقاشات على أوسع نطاق من أجل بلورة الإطار اسياسي و الفكري و البرنامجي للإلتقاء في سبيل مقاومة الدكتاتورية والدفاع عن حقوق المجتمع .
الأهداف التالية تمثل جزءا من المستحقات الدنيا للخروج من النّهج الإستبدادي، هي منذ الحين موضع اتفاق بيننا، نضيفها إلى المطالب الثلاثة الأولى .
– ضمان حق عودة اللاجئين السياسيين والمهجرين
– مكافحة الفساد ومقاضاة الأشخاص والهيئات المتورطة فيه.
– ضمان استقلالية القضاء وحياد الإدارة .
– ضمان احترام حقوق كافة السّجناء و ممارسة مراقبة فعليّة على ظروف الإعتقال في السجون التونسية، إلغاء كل أشكال التعذيب وسوء المعاملة وملاحقة المسئولين عن الانتهاكات .
-5-
إضافة للأهداف التي تتبناها فان وحدة عمل سياسي تحتاج إلى تامين اللحمة والثقة بين مكوناتها، هذا يقتضي منها الإلتزام الواضح بحد أدنى من المبادئ الأساسية. هذا من باب آخر، لازم لضمان مصداقية التقاء يجمع مكوّنات ذات الإتجاهات و البرامج المختلفة بل المتناقضة أحيانا.
المبادئ الثلاثة التالية هي ما يظبط الإطار الأوّلي لنشاطنا :
– مبدأ المساواة. المساواة الفعلية والتامة بين جميع المواطنين دون تمييز على أساس الأصل الاجتماعي أو الجنسي أو التوجه الثقافي أو الوجودي.
– مبدأ الاستقلال الوطني. سيادة البلاد الوطنية لا تنفصل عن حرية وكرامة مواطنيها، و يمر الانفتاح الضروري على العالم والتعاون المتكافئ مع سائر الدول و الشعوب عبر رفض إخضاع خيارات الشعب لأي شكل من أشكال الإجبار أو لضغوط قوى خارجية. بشكل أخص، فان رفض كل أشكال الهيمنة الاستعمارية والاعتداء والاحتلال، وإقرار حق الشعوب في تقرير مصيرها و في مقاومة الاحتلال هما شرطان غيابهما يجعل كل خطاب وادّعاء ديمقراطي لاغ.
– مبدأ رفض العنف كوسيلة لفض الخلافات السياسية والايديولجية ورفض عنف الدولة كوسيلة لفض النزاعات الاجتماعية والسياسية وضمان السلامة الجسدية للأفراد.
-6-
يعيش ما يقارب 10 في المائة من شعبنا خارج حدود الوطن. المهاجرون واللاجئون التونسيون، مهما كانت وضعياتهم الإدارية أو الاقتصادية، يساهمون بقسط هام في حياة البلاد و تطورها. هم جزء لا يتجزأ من المجتمع التونسي يمثّل نشاطه الاقتصادي مساهمة هامّة في الثروة الوطنية وتعدّ تعبيراتهم الثقافية والسياسية عناصر فاعلة في التطور السياسي والثقافي التونسي.
يجب الإقرار إذا بأن مساهمة المهاجرين و المهجّرين في مسار انعتاق المجتمع التونسي لا يندرج في باب المساندة والتضامن فحسب بل هو مشاركة كاملة و فعلية بما يفترضه ذلك من حقوق وواجبات.
.يجب كذلك الإقرار بأن المعانات التي يعيشها المهاجرون واللاجئون (مأساة المهاجرين السريين الذين يفرون من البؤس ويواجهون الأخطار و أشكال القمع و التعسف البوليسي، حالة المقيمين بالمهجر المعرضين للتمييز العنصري والمكافحين من اجل حقوقهم، التهجير القصرى للاجئين السياسيين وما تعانيه عائلاتهم من عقوبات جماعية) هي جزء من المأساة التونسية ولا يمكن لأي مسار تحرري أن يتجاهلها.
-7-
إنّ ما يجمعنا اليوم هو عزمنا على أن نكون في مستوى وعي يحمله العدد الأوسع من التّونسيّات و التّونسيّين، هو الوعي بأنّ الحال الّذي آل إليه النّظام القائم في البلاد قد تجاوز ما يمكن احتماله، و الوعي بالخطر الّذي يمثّله تواصل الدّكتاتوريّة و من ثمّة بضرورة الإسراع في القطع معها.
إنّ الهدف الّذي نطرحه على أنفسنا و الّذي نتعهّد بالعمل من أجله هو المساهمة في توفير شروط بروز قوى ديمقراطيّة و شعبيّة قادرة على فرض هذه القطيعة و على فتح إمكان تجاوزالوضع القائم نحو غد أفضل، عسى أن نفنّد نهائيا الطرح الزاعم بأن التطلع الديمقراطي يتناقض و الفضاء العربي الإسلامي الذي ينتمي له الشعب التونسي بوجه كامل.
-8-
إنّ ما يتوجّب علينا القطع معه هو نظام إستبدادي سماته —المشتدّة حدّة بمرور الزّمن— هي التّالية :
– الإستفراد بالسّلطة و خصخصة مؤسّساتها ؛
– مصادرة حقّ الشّعب في تحديد خياراته السّياسيّة و الإقتصاديّة و الإجتماعيّة و الثّقافيّة، و في تقرير التّوجّهات المحدّدة لمصيره ؛
– نكران حقّ الأفراد في التّمتّع بالمستلزمات الأساسيّة للعيش الكريم، و في التّعبير الحرّ عن قناعااتهم السّياسيّة و الفكريّة و في التّنظّم و النّشاط على أساسها ؛
– عسكرة كل الفضاءات العامّة و الخاصّة والجنوح إلى القمع والمحاكمات السياسية والسجن والعنف والتعذيب المادي والمعنوي كأسلوب منهجي في إدارة المجتمع ؛
– تعميم العلاقات الإقتصاديّة القائمة على النّهب و الفساد و الرّشوة و تفكيك الأملاك و الخدمات العامّة و التّفويت في القطاعات الأكثر ربحيّة في الإقتصاد الوطني.
-9-
إن ممثلي الأحزاب السياسية والجمعيات والأفراد الممضين أسفله يعلنون اليوم الخميس 2 فيفري 2006 عن تأسيس لجنة 18 أكتوبر كهيكل قار للعمل والتنسيق وهو مفتوح لكل التونسيات والتونسيين المقيمين بالمهجر و الموافقين على هذه المبادئ.
تتعهد الهيئة بمهمة تنظيم الأنشطة والنقاشات والاتصال والتنسيق للمبادرات في علاقة بالأهداف المحدَّدة في هذا النص.
الجلسة العامة هي الإطار التقريري المحدد للتوجهات والخيارات السياسية وهي مفتوحة لكل المنخرطين كما أنها تحدد الآليات العامة و ضوابط العمل .
يتموقع تجمعنا في امتداد مبادرة 18 أكتوبر 2005 وهو يقيم علاقة شراكة مع هيئة 18اكتوبر بتونس مع محافضته على استقلاليته وهو يهدف إلى أن يكون شريكا لكل المبادرات ولكل التحركات السياسية والاجتماعية والثقافية في فرنسا والخارج التي تتماشى والأهداف والمبادئ المبينة في هذه الأرضية.
——————————————————
الممضون على الأرضية :
1- أحمد عمري
2- ألفة لملوم
3- أمية الصديق
4- اياد الدهماني (الوحدويون الناصريون)
5- براهيم بن جيلاني
6- بشير عبيد
7- بشير الظاهري
8- جلال بوراوي
9- حسين الباردي
10- حسين الجزيري (حركة النهضة)
11- خميس قسيلة
12- رشيد الطرابلسي
13- رياض بالطيب
14- رياض حجلاوي
15- زهير العيساوي
16- سفيان المخلوفي
17- سليم بن حميدان
18- سيف بن سالم
19- شكري الحمروني (المؤتمر من أجل الجمهورية)
20- صالح التقاز (صوت حر)
21- صدري خياري
22- طارق بن هيبة
23- طاهر العبيدي
24- عادل ثابت (حزب العمال الشيوعي التونسي)
25- عادل عفلوق
26- عبد الرزاق كيتار
27- عبد الستار الباجي
28- عبد الكريم محجوبي
29- عبد الوهاب الهمامي
30- عدنان بن يوسف
31- عفيفة مخلوفي
32- علي التليلي
33- عماد الدايمي
34- عماري قناوي
35- فاطمة بوعميد
36- فتحي الناعس (التضامن التونسي)
37- فتحي بلحاج
38- فتحي عبد الباقي ( لجنة عائلات وأقارب المساجين السياسيين)
39- قيس الدغري
40- قيس الرياحي
41- كريم عزوز
42- كمال الجندوبي ( االلجنة من أجل احترام الحريات وحقوق الانسان بتونس)
43- كمال الفحل
44- لطفي الهمامي
45- مصطفى عمايدي
46- محسن بلطي
47- محسن الشابي
48- محمد بحر
49- محمد بن سالم
50- محمد بن سعيد
51- منجي خلفت
52- منصف قدوار
53- مهدي الشابي
54- ناجح الشعري
55- نور الدين بن تيشة (المجلس الوطني للحريات)
56- الهادي الجيلاني (التكتل الديموقراطي من أجل العمل والحريات بتونس)
57 – هادي يحمد
مبادئ تنظيمية عامة لهيئة 18 اكتوبر بباريس
إن هيئة 18 اكتوبر بباريس اطار نضالي من أجل الحريات والحقوق وفضاء للتفكير والحوار حول شروط الانتقال الديموقراطي في تونس. ان هذا الفضاء يجمع أحزابا سياسية وجمعيات و شخصيات مستقلة من توجهات فكرية وحساسيات متعددة يناضلون من أجل حرية التعبير والصحافة وحرية التنظم الحزبي والجمعوي ومن أجل اطلاق سراح المساجين السياسيين ومساجين الرأي ومن أجل سن قانون العفو التشريعي العام.
إن الهيئة فضاء للالتقاء، يبقى مفتوحا لكل المناضلين ولكل المنظمات الحزبية والجمعوية التي تتبنى أرضيتها التأسيسية. إن الهيئة تعتمد في أسلوب عملها على الشفافية والعمل الجماعي والبحث عن الوفاق.
إن هيئة 18 اكتوبر بباريس تطمح لتطوير علاقات تنسيق و تكامل مع كل المبادرات المماثلة في المهجر وتسعى إلى بناء علاقات تعاون وثيقة مع هيئة 18 اكتوبر للحقوق والحريات بتونس ومع الهيئات الجهوية.
الجلسة العامة :
هي الاطار ذي المرجعية وساحة للحوار والالتزام مفتوحة لكل المناضلات والمناضلين. إن الجلسة العامة تتمتع بسلطة القرار والتوجيه وفي اطارها يتم صياغة ونقاش الخطوط العامة للبرامج والمبادرات الكبرى.
تجتمع الجلسة العامة كل ثلاثة أشهر وكلما اقتضت الضرورة ذلك.
هيئة التنسيق :
تنبثق عن الجلسة العامة وتتكون من أعضاء يمثلون مختلف الاتجاهات داخل الهيئة، ودورها تنفيذ القرارات وبلورة التوجهات العامة الصادرة عن الجلسة العامة .
إن هيئة التنسيق تدير عمليا النشاط وهي مدعوة لتجديد أعضاءها كل سنة ومكلفة بالتصرف في الشؤون المالية وتوفير حد أدنى من السكريتاريا الادارية.
إن هيئة التنسيق بامكانها تكليف أحد أعضائها بهمة منسق يكون دوره تنظيم العمل وضمان الاتصال مع الجلسة العامة وتتكلف بتحديد صلاحياته كما تأخذ على عاتقها تنشيط فضاء الحوار بالاعتماد على مجموعات عمل مفتوحة على اعضاء الجلسة العامة وغيرهم.
التمويل :
تتكون ميزانية الهيئة من مساهمات منتسبيها، والأحزاب والجمعيات المكونة لها. يساهم الأفراد بمعلوم أقله 5 يورو يتم جمعه مع انعقاد الجلسة العامة. الهيئة تقبل التبرعات طالما كان ذلك في اطار الشفافية وبما لا يمس استقلاليتها.
—————————————————————
هيئة 18 اكتوبر بباريس
للحقوق والحريات في تونس
أعضاء هيئة التنسيق (حسب الترتيب الأبجدي)
ممثلو الأحزاب السياسية :
إياد الدهماني (الوحدويون الناصريون) – حسين الجزيري (حركة النهضة) – شكري الحمروني (المؤتمر من أجل الجمهورية) – عادل ثابت (حزب العمال الشيوعي التونسي) – الهادي الجيلاني (التكتل من أجل العمل والحريات).
ممثلو الجمعيات :
صالح التقاز (صوت حر) – فتحي الناعس (التضامن التونسي) – فتحي عبد الباقي ( لجنة عائلات وأقارب المساجين السياسيين) – كمال الجندوبي ( االلجنة من أجل احترام الحريات وحقوق الانسان بتونس) – نور الدين بن تيشة (المجلس الوطني للحريات)
أعضاء بصفة شخصية :
أمية الصديق – خميس قسيلة – طارق بن هيبة – طاهر العبيدي – سفيان المخلوفي – عبد الوهاب الهاني – فاطمة بوعميد – لطفي الهمامي
الوثيقة 3
إعلان هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات حول حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين
حققت المرأة التونسية مكاسب هامة على طريق تحررها كإنسان ومشاركتها على قدم من المساواة مع الرجل في مختلف مجالات الحياة، وجاءت هذه المكاسب ثمرة لحركة الإصلاح التي حمل لواءها مفكرون ومصلحون كبار كان لهم شرف الدفاع عن تعليم المرأة وتحريرها والنهوض بأوضاعها كما جاءت ثمرة لنضال دؤوب خاضته حركات نسائية من مختف المشارب الفكرية عملت على مدى القرن الماضي على فك عقال المرأة وإخراجها إلى الحياة العامة.
ويأتي في مقدمة هذه المكاسب ما تضمنته مجلة الأحوال الشخصية من حقوق وإصلاحات ساهمت في الحد من مظاهر الحيف والتمييز ومن أسباب التوتر في العلاقات الأسرية من ذلك أن منعت مجلة الأحوال الشخصية تعدد الزوجات وأقرت التراضي أساسا لقيام عقد الزواج واعتبرت المرأة أهلا لتزويج نفسها دون ولاية من أحد وحددت سنا دنيا للزواج ووضعت بذلك حدا لتزويج القاصرات اللائي لم تتجاوزن سن المراهقة كما سنت المجلة حالة من التساوي بين المرأة والرجل وأخضعت الطلاق إلى مراقبة القاضي وشرّكت المرأة في إدارة شؤون الأسرة ووسعت من حالات إسناد المرأة الجنسية التونسية لأبنائها من أب أجنبي.
وفي مجال التربية والتعليم أقرّ القانون التونسي مبدأ التساوي بين البنين والبنات في حق التعليم وجعله إجباريا ووحد بين البرامج والخيارات المفتوحة أمام الطلاب وعمّت المدارس المختلطة للبينين والبنات وبذلك زالت مظاهر التمييز بين الجنسين في مستوى التعليم وتساوت نسب التمدرس بينهما وتطورت صورة المرأة لدى الناشئة.
وفي ميدان الشغل سوّى القانون بين النساء والرجال في حق العمل وفي الأجر وفي التغطية الاجتماعية وفي الرعاية الصحية وخصّ المرأة الحامل والمرضع بحماية تحفظ لها صحتها وأمومتها كما سوى بصفة عامة بين الجنسين في حق التقاعد وفي فرص الارتقاء وفي الضمانات عند الطرد وجاءت القوانين التونسية في مجال الشغل والتغطية الاجتماعية مطابقة لأغلب المعاهدات الدولية التي سنتها المنظمة العالمية للشغل وصادقت عليها البلاد التونسية. وبذلك فتح عالم الشغل أمام المرأة التي لم تترك مجالا من مجالات النشاط الاجتماعي إلا واقتحمته وتقلدت المرأة مختلف أنواع الخطط والمهن وأثبتت فيها كفاءة وجدارة ساهمت بشكل فعال في تطوير العقليات وتخليصها من التقاليد البائدة المحقرة للمرأة.
وفي مجال الحقوق المدنية والسياسية سوّت القوانين والمبادئ الدستورية أيضا بين المرأة والرجل من حيث الأهلية للقيام بالعقود المدنية والإجراءات القضائية ومن حيث الذاتية المالية للمرأة ومنحتها القوانين حق الانتخاب والترشح إلى مختلف الخطط واعترفت لها بحرية التنقل والسفر وفي تحمل المسؤوليات النيابية والحكومية وفي المشاركة في الحياة الجمعياتية وفي الأحزاب والمؤسسات السياسية المختلفة.
إن هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات إذ تتمسك بكل هذه المكاسب التي جاءت في سياق حركة إصلاحية اجتهادية تنويرية ومتفقة مع المواثيق الدولية حول حقوق المرأة والتي ساعدتها على تحقيق إنسانيتها وتخليصها من القيود الثقافية والاجتماعية لعصور الانحطاط وأسهمت بذلك في تحرير نصف المجتمع وتحديثه مع الحفاظ على مقومات هويته الحضارية الخصوصية، وإذ تؤكد عزمها الراسخ على الحفاظ على كل هذه المكاسب والدفاع عنها في وجه كل تهديد وعلى مواصلة الحوار بروح وطنية بناءة حول القضايا الخلافية العالقة مثل مسألة المساواة في الإرث أو الموقف من التحفظات التي أبدتها الدولة التونسية حيال بعض الاتفاقيات الدولية الخاصة بالمرأة فهي تعتبر أن وضعية المرأة ما زالت تتطلب الكثير من التطوير والتحسين حتى تتحقق المساواة الكاملة بين الجنسين نصّا وممارسة وينتفي كل تمييز بين المواطنين على أساس الجنس.
ففي مجال الأحوال الشخصية ودعما لسلامة الأسرة ودورها في المجتمع يتعين تعميق مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين الزوجين واعتبارهما شريكين متعاونين في إدارة شؤون العائلة ورعاية الأبناء واختيار محل الزوجية وإسناد الجنسية لأبنائهما وذلك بتخليص المجلة وسائر القوانين من رواسب التمييز المكرسة لدونية للمرأة، كما يتعين الرفع في السن القانونية الدنيا لزواج المرأة إلى ثمانية عشر عاما وهي السن القانونية التي تنتهي فيها فترة الطفولة.
وفي مجال التعليم وعلى الرغم من كل الخطوات المقطوعة لا تزال الأمية تنتشر في أوساط النساء ونسبتها تفوق نسبتها لدى الرجال بكثير. أمّا في ميدان الشغل فإن المساواة في القانون لم تقض عل مظاهر التمييز في الواقع إذ تعصف البطالة بالنساء حتى أنّ ثلاثة أرباعهن لا يُحتسبن من بين القوة العاملة للبلاد. وتحتل المرأة مواطن العمل الأكثر هشاشة وتعرضا لعدم الاستقرار والطرد، وترجع إليها المهن متدنية المهارة والأجر. ولا تتمتع النساء بالمساواة في الأجر حيث يقل معدل الأجر العام للنساء بنسبة 14 بالمائة عن أجور الرجال وترتفع هذه النسبة إلى 18 بالمائة في القطاع الخاص حسب آخر الإحصاءات المتوفرة. وتتعرض المرأة العاملة إلى التمييز بسبب حالتها المدنية وخاصة الزواج والحمل والرضاعة كما ترهقها ازدواجية المسؤوليات المهنية والأسرية وقل ما تحترم المؤسسات مقتضيات القانون من حيث توفير دور الحضانة وتندر المؤسسات التي تعينها على رعاية أطفالها مدة العمل. إلى ذلك تستشري ظاهرة العنف المسلط على النساء داخل الأسرة والمجتمع وتتفاقم مظاهر التحرش والاتجار بالمرأة.
أمّا في المجال السياسي فإن المرأة والرجل يتعرضان على حد سواء إلى الحرمان من الحقوق والحريات الأساسية ولكن المرأة تعاني في هذا المجال وبسبب مسؤولياتها الأسرية ورواسب النظرة الدونية من تمييز مضاعف يتجلى في ضعف حضورها في الهيئات التمثيلية والمؤسسات التنفيذية محليا ووطنيا وداخل المنظمات المهنية والثقافية والأحزاب السياسية.
إن هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات إذ تتمسك بما تحقق من مكاسب تحررية ترى أن القضاء على مظاهر التمييز ضد المرأة داخل الأسرة وفي الحياة العامة يتطلب من الحركات السياسية ومن المجتمع المدني بكل هيئاته ومنظماته وعموم الشعب مواصلة الجهد في إطار من التفاعل بين مقومات الحضارة العربية الإسلامية للمجتمع التونسي ومكتسبات البشرية في العصور الحديثة وذلك بالعمل على تحقيق المساواة الكاملة بين الجنسين في الاتجاهات التالية:
التنصيص على مبدأ المساواة بين الجنسين بصفة صريحة في الدستور وفي مختلف القوانين التونسية وتخليصها من كل لبس وتنقيح أو إلغاء كل القوانين التي تتضمّن أيّ شكل من أشكال التمييز ضد المرأة بما يحقق مساواتها الكاملة مع الرجل ويفتح في وجهها أوسع مجالات المشاركة في الحياة العامة وتقلد مختلف الخطط دون استثناء.
توفير الضمانات القانونية والآليات القضائية لتعقب التمييز ضد المرأة وفتح حق التقاضي في شأنه لكل المنظمات والهيئات ذات الصلة.
إلغاء المنشور عدد 108 بوصفه إجراء تعسفيا يعرّض النساء المتحجبات إلى التسلط والحرمان من الحقوق واعتبار مسألة الحجاب قضية تتعلق بالحرية الذاتية لا يحق لأي كان التدخل فيها بالمنع أو الإلزام عن طريق الإكراه.
تطوير العقليات وإصلاح البنى الثقافية وإيلاء دور هام للمدرسة ولوسائل الإعلام في بناء ثقافة جديدة تقضي على مظاهر التمييز ضد النساء وترسي ركائز أسرة متماسكة ومتضامنة.
تكثيف الجهد للقضاء على الأمّية ولا سيّما في أوساط النساء.
تعزيز الرعاية الصحية للمرأة والتسوية في عطلة الأمومة بين القطاعين العام والخاص وإقرار عطلة ما قبل الوضع.
دعم كل المبادرات واتخاذ الإجراءات التي من شأنها تدارك التفاوت بين المرأة والرجل في مختلف المجالات.
إقرار الحريات الفردية والعامة بما يضمن مشاركة كافة هيئات المجتمع في عملية الإصلاح الاجتماعي حتى لا تبقى قضية المرأة أداة للتوظيف الدعائي من قبل السلطة وحزبها والمنظمات الدائرة في فلكها.
تونس في 8 مارس 2007

الوثيقة 4
هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات : إعلان مشترك حول العلاقة بين الدولة والدين
إن هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات وبعد سلسلة من الندوات العامة والنقاشات الداخلية حول العلاقة بين الدين والدولة والهوية توصلت إلى جملة من القواسم المشتركة بين مكوناتها يمكن اعتمادها قاعدة دنيا للبناء الديمقراطي المنشودة الذي يراعي حقوق المواطنين وحرياتهم ومعتقداتهم وقناعاتهم.
لقد أبرز تحليل الرؤى والمواقف والتجربة السياسية التونسية المعاصرة حول العلاقة بين الدين والدولة وجود ثلاثة تحديات تواجه الشعب التونسي في تطلعه إلى إنجاز تغيير ديمقراطي حقيقي وتأسيس علاقة سليمة بين الدين والدولة، وتتمثل هذه التحديات في:
1- استبداد السلطة الذي من مظاهره إخضاع الدين الإسلامي للإرادة السياسية للنظام القائم وتوظيفه، وفي هذا السياق يندرج سعيه الدائم إلى فرض قراءة للدين على المجتمع بما يخدم مصالحه واحتكار الفضاءات الدينية بالتحكم في تعيين الأئمة وفقا لولائهم وتحديد مضامين خطبهم وانتهاك الحريات الشخصية للمواطنين والمواطنات بمختلف قناعاتهم الدينية والفكرية والسياسية.
2- الاستبداد باسم للدين الناجم عن قراءة أحادية، مغالية للإسلام والذي يؤدي إلى التدخل بالقوة في حياة المواطنين الخاصة وإلى النيل من حقوقهم وحرياتهم الأساسية ومن المبادئ الديمقراطية.
3- الاستبداد باسم الحداثة الذي يعمل على إلغاء الدين من الحياة العامة بوسائل قهرية من داخل أجهزة الدولة وخارجها ويدفع نحو التصادم بين الدولة والدين. وهو تصور لا يؤدي إلا إلى إدامة الاستبداد القائم ودعم انتهاك الحريات وحقوق الإنسان وتعطيل المشروع الديمقراطي.
وإزاء هذه التحديات تلتزم هيئة 18 أكتوبر بالدفاع عن رؤية للعلاقة بين الدولة والدين والهوية تنهل من التفاعل الخلاق بين مقومات حضارتنا العربية الإسلامية ومكتسبات الإنسانية الحديثة، وخاصة حقوق الإنسان والحريات الجماعية والفردية باعتبارها شرطا أساسيا من شروط التقدم والتنمية والكرامة.
إن هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات بمختلف مكوناتها الفكرية والسياسية تؤكد:
1- إن الدولة الديمقراطية المنشودة لا يمكن أن تكون إلا دولة مدنية قائمة على مبادئ الجمهورية وحقوق الإنسان وتستمد مشروعيتها من إرادة الشعب الذي يتولى في إطار هذه المبادئ انتخاب مؤسسات الحكم بشكل دوري ومحاسبتها ويخضع فيها الحاكم والمحكوم للقوانين والقواعد التي تسنها المؤسسات الدستورية المنتخبة مع ضمان حق كل طرف في استلهام مقترحاته وبرامجه في كل المجالات من مرجعيته الفكرية الخاصة.
2- إن الممارسة السياسية هي اجتهاد بشري مهما كانت قناعات أصحابها ومعتقداتهم ممّا ينفي عنها أيّ شكل من أشكال القداسة ويجعل المجال السياسي فضاء حرا للحوار والتنافس بين رؤى وبرامج المكونات السياسية والمدنية على اختلاف مرجعياتها.
3- إن الدولة الديمقراطية المنشودة تقوم على مبادئ المواطنة والحرية والمساواة، وبناء على ذلك فهي تسهر على ضمان حرية المعتقد والتفكير، ومقاومة كل أشكال التمييز بين المواطنين على أساس العقيدة أو الرأي أو الجنس أو الانتماء الاجتماعي أو السياسي أو الجهوي، كما تضمن للمواطنين جميع الحريات والحقوق الأساسية التي تشكل أساس النظام الديمقراطي.
4- إن الدولة الديمقراطية المنشودة تلتزم نصا وممارسة بضمان الحرمة الجسدية للإنسان ومنع التعذيب وكل أنواع الانتهاكات البدنية والمعنوية المهينة للكرامة البشرية. وتتعهد هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات بكافة مكوناتها بأن تكون برامجها متطابقة مع تلك المبادئ الأساسية كما تلتزم بتطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لسنة 1984 الخاصة بمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاانسانية أو المهينة. وهي تتعهد بوضع الآليات الضرورية لاجتثاث ممارسة التعذيب في بلادنا.
5- إن من واجب الدولة الديمقراطية المنشودة إيلاء الإسلام منزلة خاصة باعتباره دين غالبية الشعب دون أيّ احتكار أو توظيف مع ضمان حق كافة المعتقدات والقناعات وحماية حرية أداء الشعائر الدينية.
6- إن هوية الشعب التونسي تشكلت عبر صيرورة تاريخية طويلة وهي تثرى وتتطور بالتفاعل الخلاق بين مقوماتها الحضارية العربية الإسلامية ومكتسبات الحداثة. وبناء على ذلك فان الدولة الديمقراطية المنشودة تلتزم:
أ- الدفاع عن اللغة العربية لغة وطنية في الإدارة والتعليم والثقافة وتجذيرها في المجتمع مع ضرورة التفتح على اللغات والثقافات الأخرى. ب ـ تجذير الشعب التونسي في حضارته العربية الإسلامية بكل ما فيها من رصيد ايجابي مع تطويرها لتستوعب مكتسبات الإنسانية الحديثة وتسهم في إثراء الحضارة الإنسانية في إطار من التفاعل البناء، مع مواجهة مشاريع الاستلاب والهيمنة التي تسعى إلى القضاء على تنوع الثقافات وفرض نمط ثقافي وقيمي أحادي. ج ـ ضمان تدريس مواد التربية الإسلامية خارج أي توظيف سياسي، في إطار منظومة تربوية تكفل حق التعليم ونشر قيم التفكير العلمي والنقد والاجتهاد بما يساهم في نحت شخصية تونسية متجذرة في هويتها الوطنية ومنفتحة على القيم العصرية.
7ـ إن الدولة الديمقراطية المنشودة تدافع عن القضايا العادلة للشعوب العربية والإسلامية وتدعم طموحها إلى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتعمل على توحيد جهودها في مواجهة الاستبداد الداخلي وكل أشكال الاستعمار والهيمنة الأجنبية من أجل تقرير مصيرها وبناء مستقبلها المشترك.
إن هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات بمختلف مكوناتها وهي تقرّ هذه المبادئ والاتفاقات وتعلن التزامها بالعمل على تجسيدها، تؤكد أن مضمون العلاقة بين الدولة والدين والهوية مثلما أثبتت تجارب الشعوب ليست وصفة جاهزة سلفا بل هي عقد اجتماعي يتفاعل مع التطور السياسي والثقافي والاقتصادي لكل مجتمع بما يحوله عبر الزمن إلى قيم وقواعد عمل تستبطنها الأجيال وتطورها حسب ظروفها وحاجتها المستمرة إلى التقدم وتكرسها شعبيا بشكل مباشر وعبر المؤسسات الدستورية الممثلة الملتزمة بمبادئ النظام الجمهوري وحقوق الإنسان واحترام الهوية الوطنية.
10 كانون الأول (ديسمبر) 2009
الوثيقة 5
حول انحراف داخل اليسار أو عندما يضلّ رفاق الطريق
تشهد المعارضة التونسية إعادة تشكّل لم تعرف له مثيلا على مدى تاريخها الحديث. وهي تقف اليوم أمام انقسام عميق يشقّ المشهد الديموقراطي إثر “التّحالف” –غير المعلن صراحة- الذي أقامه جزء كبير من المعارضة مع التيّار الإسلامي لحركة “النهضة”.
ونحن الممضون أسفله، لئن ليست لنا ولاءات حزبية وإنّما يجمعنا انتماؤنا المشترك إلى عائلة اليسار الدّيموقراطي التّونسي، والاعتقاد في ديمومة هذا اليسار كأرضية لتأصيل ثقافة ديموقراطية في تونسنا، يهمّنا التعبير عن رأينا إزاء المستجدّات الطّارئة داخل اليسار وفي أوساط جميع المنتميات والمنتمين إلى الدّيمقراطية واللائكية في بلادنا :
1- نودّ، بادئا، التّأكيد على أنّ التوجّه السّليم للمعارضة هو في بقائها حازمة، ودون لبس، أمام الطّابع الاستبدادي للنّظام والهيمنة الكليّة للحزب الحاكم ونزعة الخوصصة الزّاحفة للدّولة وجميع مظاهر الفساد.
ذلك هو الاختيار الأوحد للنّهوض بالبلاد وفرض احترام حقوق الإنسان وإرساء ديناميكية ديمقراطية حقيقية ووضع المجتمع التونسي على مسار العدالة الاجتماعيّة.
2- نؤكّد أن حريّة التّعبير والتجمّع، والعفو التشريعي العامّ، وإطلاق سراح جميع المساجين السياسيين تمثّل جميعها المطلب الثلاثي الأوجه والأساس غير القابل للمساومة لإرساء حياة ديموقراطية مستقبليّة في البلاد والتأسيس لمواطنة تونسية فعليّة. ففي هذا المطلب يكمن المعنى الحقيقي لكفاح شعبنا من أجل التحرّر الوطني الّذي تمّت مصادرته منذ الاستقلال من قبل النظام البورقيبي وورثائه.
3- إنّ المواطنة تعني، وفقا للشعار الرّائع الذي رفعته المنظمة التونسية لحقوق الإنسان، “تمتّع جميع التّونسيّات والتّونسيين بجميع الحقوق دون استثناء”. فالحقل الدّيمقراطي يجب أن يتّسع لجميع الحساسيّات طالما أنّها تقبل بقاعدة اللّعبة التّعدّديّة وتنبذ العنف والتّكفير. ومن هذا الاعتبار، فإنّ حركة النّهضة الإسلامية لها الحقّ بالتمتّع في الوجود وحرية التّعبير في إطار الشّرعيّة الدّيمقراطيّة، وبنفس المستوى وجميع مكوّنات المعارضة غير المعترف بها قانونيا والتي تحظى بشبه تسامح في وجودها. كما أنّ لها حقّ المشاركة في الحوار والصّراع الفكري الذي يمثّل جوهر الديمقراطية ذاتها.
4- الحوار الديموقراطي شيء والتّحالف، أيّا كان الثّمن، شيء آخر. فنحن غير مقتنعين بوجاهة وصواب الاختيار الذي ذهبت إليه “مجموعة 18 أكتوبر للحقوق والحريات” (والّذي تولّد عنها هيكل مماثل في باريس).
فأن تعلن حركة النّهضة قبولها بقاعدة التناوب الدّيمقراطي وإحجامها عن العنف، فذلك أمر لا يمكن أن يكون سوى مدعاة للارتياح، إلاّ أنّ حصول هذه الحركة على مكانتها ضمن العائلة الدّيمقراطيّة يستدعي تخلّيها عن مشروع الدّولة الإسلاميّة التي نعلم تمام العلم نتائجه الوخيمة على الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان. وعلى حدّ علمنا فإن حركة النهضة لم تتحوّل إلى شيء مغاير لحزب إسلامي.
ففي ذات الوقت الذّي تحتفل به حركة النّهضة بـ”الزّواج” مع “المعارضة الجادّة”، فهي تواصل، على لسان قلم أحد أبرز وجوهها النّاطقين باسمها، التّعريض بالدّيمقراطيّين و”العَلمانيين” وتتبجّح بتراجع هذه العلمانيّة البغيضة أمام الاكتساح الإسلاموي للعالم الإسلامي.
وفي نفس الوقت الذي تعلن فيه الحركة تبنّيها لفقه “وسط”، فهي لا تفوّت فرصة على نفسها لإعادة التّأكيد على ولائها للآباء المؤسّسين للأصولية في وجهها الأشدّ ظلاميّة.
وتزامنا مع تصريحها التّسليم بمبادئ التّسوية السّلميّة للخلافات السياسية، فهي لا تنكر على نفسها مساندة الأطراف المتسبّبة في الحروب الأهلية والأيادي التي تقف وراء اغتيال الدّيمقراطيين في العالم الإسلامي.
وهي تصرّح بمساندتها لقضيّة المرأة، وقبولها بمجلّة الأحوال الشخصية (مع تأكيدها على أنّ الأمر هو من باب الاجتهاد وليس بموجب القانون الوضعي)، فهي تواصل، في نفس الوقت، الترويج لدونيّة المرأة، والدّعوة بتعدّد الزّوجات في بلدان أخرى.
وخلاصة، فإنّ الإسلاميّين التونسيين بقدر ما يعلنون قبولهم بمثل الأفكار الآنفة الذّكر، فإنّهم بالمقابل، لا ينزاحون قيد أنملة عن منظموتهم الفكرية العقائدية.
و خلافا لما يعتقده البعض الّذين يؤاخذونهم على ازدواجيّة الخطاب لاعتباره من باب التكتيك، فإنّ الأمر يتعلّق، في الحقيقة، بسياسة مزدوجة يتبنّونها، بكلّ أريحية، في وجهيها المتناقضين: انتحال الديموقراطية وفق مقتضيات الظّرف من جهة، والوفاء للهويّة الأصوليّة للإسلام السياسي من جهة أخرى. وهي سياسة قد وقع التّنظير لها بالشكل اللائق على أنّها من باب “الضّرورة” التي تبيح المحرّم لاعتبار الطّغيان، قياسا، كالكوارث الطبيعيّة أو المجاعات، فيُأخذ التّحالف غير الطبيعي مع العلمانيين على أنّه تمشّ استثنائي لمجابهة وضع استثنائي، أمّا فيما عدا ذلك فتبقي الهويّة سليمة وبرنامج أسلمة الدّولة والمجتمع قائما بالكامل.
5- كيف يمكن إذن تفسير التسرّع الّذي أبدته عدد من التشكيلات السياسية والجمعياتية وبعض الوجوه المستقلّة التي عرفت بحرصها على اللاّئكية والدّيمقراطيّة، بتوقيعها على ما يجوز اعتباره بيان تحالف مع حركة راشد الغنّوشي ؟
وهل من مجال لغير اعتباره عرضا من أعراض عاهات حديثة أو وراثية لدى اليسار ؟
* وإذا ما تركنا جانبا الرّهان الجغرا-سياسي على مشاريع القوى “الوصيّة علينا” والتي تعتبر “الإسلام السياسي المعتدل” معطى لا يمكن القفز عليه، وهو ما يقرّ به، صراحة، بعض أعضاء التّحالف المذكور- مع الإشارة إلى أنّ ذلك لا يدعونا إلى اتّهامهم جميعا بذلك، كما لا يجيز لنا سبر نواياهم أو رميهم بـ”الاستنجاد بالقوى الخارجية” كما يذهب إليه البعض، للأسف.
* وقد يُعزى هذا التسرّع إلى سعيهم في تكوين كتلة لمجابهة هيمنة النّظام الحاكم وتجاوزاته المتواصلة. وهنا أيضا، نرى في هذا الأمر، وإن كان فيه ما قد يحرج بعض الأصدقاء لاستعمالنا لفظة “تحالف”، تمشّيا مَرَضِيّا طالما طبع اليسار، ألا وهو : ميولنا إلى السياسة دون خلفيّاتها الفكريّة، فنجنح إلى البحث عن تضخيم أعدادنا ولو كان في الأمر محوا للحدود الفاصلة بين الرؤية العلمانية للسياسة و التعصّب العقائدي، وبين الأفق الكوني والانغلاق باسم الهويّة، وبين الدين وسلطة رجال الدّين، وفي كلمة، بين الديموقراطية واللاديمقراطيّة.
* وتبعا لذلك، فإنّ هؤلا ء الدّيمقراطيون يعطون الانطباع بعدم القدرة على تطوير مشروع بديل
للسياسة التعسّفية للنّّظام وللمشروع الكلياني للإسلام السياسي : فيوم طغى الخوف من الإسلام السياسي اصطفّ هؤلاء وراء النّظام الحاكم وبلغ بهم الأمرّ غضّ الطّرف عن سياسته القمعيّة وتجاوزاتها غير المقبولة لحريّة الفرد، وهم اليوم يمدّون أياديهم نحو الإسلاميين أمام نظام لم يفقه من الأمر شيئا.
* وقد يجدر أيضا أن نرى في هذا الموقف مخلّفات ورواسب لعادات سيئة داخل اليسار كالهشاشة النّفسية وسهولة النّزوع إلى التّخاصم، وبقاء شيء من ثقافة لا ديمقراطية فينا في معالجة الاختلافات التي تطرأ داخل صفوفنا، ولا عيب في الاعتراف بذلك، وإلاّ كيف نفسّر ما نسمعه اليوم من وعود رنّانة بفتح حوار معمّق مع الإسلاميّين والحال أنّ نفس هذا الحوار يقع إرجائه في كلّ مرّة ، أو تغييبه، داخل اليسار ذاته وفي صلب الحركة الدّيمقراطيّة.
* ولعلّ أصل الدّاء هو في الطّريقة التي تحوّل بها اليسار إلى ثقافة “الديمقراطية”، وهو تحوّل اتّسم بكثير من التّلفيق الإيديولوجي وحجب الذّاكرة واحتقار المثقّفين الذي كان يُنظر إليهم، في أفضل الأحوال، كـ”سُذَّجٍ ينفع استعمالهم”، ومن القطيعة مع عالم الثّقافة بشكل عام… فالتّحالف السياسوي مع الإسلام السياسي لا يخرج، إلى حدّ ما، عن هذه الآفاق القصيرة المدى والتي بقي اليسار سجين إعادة إنتاجها.
6– هل يمكن الحوار مع الإسلاميين ؟ حتما نعم.
ولا يجوز أن يظلّ اليسار، إلى ما لانهاية له، في وضع دفاعي بل يتعيّن وضع حدّ نهائيّ لاتّهامه، غير المقبول، بالتصفويّة والموجّه للديمقراطيات والدّيمقراطيين ، هذا الاتّهام الّذي يردّده عدد من أصدقائنا الملتحقين بنغمة الإسلاميين.
ومعلوم أن أولى الهزائم تبدأ بالكلمات.
نعم للحوار إذن، لأنّ الإسلام هو غير الإسلام السياسي، ولأنّه يجب رفض التّوظيف الإيديولوجي والسياسي للعقيدة الدينية.
فالمواجهة بالحوار ليست مطلوبة فحسب بل هي ضرورية لإعادة إسباغ المعنى على الاختيار الدّيمقراطي، وإعادة الرّبط مع الأفكار والمشاريع المجتمعية التي يقوم عليها كلّ التزام لليسار. وهي السبيل، دون غيره، لتوليد ثقافة ديمقراطية لا زال مجتمعنا المدني التونسي يفتقر إليها.
والمؤسف أنّ الحوار الذي يعدنا به شركاء 18 أكتوبر، لا علاقة له بهذا المطلوب. إذ هو يسلّم مسبّقا بحصول الإجماع على النّقاش ويحدّد غائيّته بوضعنا على مسار “تحالف ديمقراطي”، لاندري عنه شيئا، مع الإسلام السياسي. وهو حوار قد بدأ مغلوطا منذ البداية بإقصائه المكوّنات “المتحفّظة” من المجتمع المدني، بدءا بالحركة النسائيّة.
هكذا سارت الأمور وكأنّ “للحوار” التّعاقدي مع الإسلاميين الأولوية على غيره من الإلحاحات الأخرى كالدّفاع عن المجتمع المدني ومكتسباته الكونية واللاّئكية، والحرص على وحدة العائلة الديوقراطية مع الحفاظ على تنوّعها وثرائها.
7- وليكن قولنا واضحا : فنحن قد شاركنا، بدرجات متفاوتة، في أحلام اليسار ومغامرته، وعشنا نكساته وصعوباته، ومن تعلّقنا به ينبع حرصنا عليه، وإليه تعود هذه التخوّفات التي أبديناها.
فيفري 2006
الوثيقة 6
العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين: تجربة 18 أكتوبر في تونس بقلم نجيب الشابّي
هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريّات تحالف سياسيّ قام سنة 2005 بين أحزاب وشخصيّات من اتجاهات إصلاحيّة وعلمانيّة وإسلاميّة بغاية الدفاع عن الحريّات العامّة والبحث عن أفق للانتقال إلى الديمقراطيّة في تونس. وتسبّب هذا الحدثُ في انقسام حادّ داخل الطبقة السياسيّة التونسيّة: بين فريق يرى أنّ الإسلاميين جزء من مكوّنات الحركة السياسيّة، لها موقعُها في عمليّة الانتقال إلى الديمقراطيّة؛ وفريق يرى أنّ حقّ الإسلاميين في الوجود السياسيّ لا تترتّب عنه بالضرورة إقامةُ تحالفٍ معهم لأنهم يمثلون استبدادًا أشدّ بأسًا بسبب طبيعته الشموليّة. ويمكن القول إنّ خطّ التباين هذا يمرّ بين القوى التي شاركتْ في إنشاء التحالف، وبين شخصيّات ومنظّمات يساريّة تجمّعتْ حول “حركة التجديد” التي نشأتْ من رحم الحزب الشيوعيّ التونسيّ أواسط التسعينيّات.
لم يكن هذا الانقسام ماثلاً عند نشأة الحركة الإسلاميّة التونسيّة التي برزتْ إلى الوجود مطلع السبعينيّات في شكل مجموعة دعويّة تعمل في أوساط الشباب التلمذيّ، قبل أن تتحول في جوان 1981 إلى حزب سياسيّ يحمل اسم “حركة الاتجاه الإسلاميّ.” جاء الإعلان عن تأسيس هذه الحركة في تفاعل مع إعلان الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة خلال المؤتمر التاسع لحزبه (أفريل 1981) “أنه لا يرى مانعًا من بروز تعدديّة حزبيّة في تونس.” وقدّمت الحركة الجديدة نفسها كحزب سياسيّ يسعى إلى العمل القانونيّ، وأقرّت بالديمقراطيّة وسيلةً للوصول إلى الحكم (تصريح الشيخ راشد الغنوشي لصحيفةالمجلة الكويتيّة لسنة 1981). غير أنّ ردّ الحكومة على تأسيس حزب إسلاميّ اتّخذ شكل حملة إيقافات ومحاكمات شملتْ قيادة الحركة وأنصارها. استنكرت الحركة السياسيّة العلمانيّة، الممثلة آنذاك في الاتجاه الليبراليّ المنشقّ عن الحزب الدستوريّ الحاكم، هذه الحملة وجعلتْ من إطلاق سراح المساجين الإسلاميين وسنّ قانون العفو العامّ واحدًا من أهم مطالب الحركة السياسيّة مطلع الثمانينيّات؛ ولم يخرج اليسار التونسي (ممثّلاً في الحزب الشيوعيّ والتجمع الاشتراكيّ التقدميّ) عن هذا السياق العامّ.
في العام 1985، إثر الاعتداء الإسرائيليّ على مدينة حمام الشاطئ، شكّلتْ أحزابُ المعارضة لجنةَ اتصالٍ في ما بينها، ضمّت حركة الديمقراطيين الاشتراكيين وحركة الوحدة الشعبيّة والحزب الشيوعيّ (وهي أحزاب قانونيّة)، إلى جانب حركة الاتجاه الإسلاميّ والتجمع الاشتراكيّ التقدميّ (غير المعترف بهما آنذاك). ومن بين المواقف التي ميّزتْ أعمالَ هذه الهيئة البيانُ المشترك الذي أصدرته في شهر افريل 1987 للتنديد بحملة الاعتقالات الثانية التي طالت الإسلاميين وانتهت إلى محاكمة المئات من كوادرهم وقيادات الصفّ الأول من قبل محكمة أمن الدولة التي أصدرتْ يوم 27/9/1987 أحكامًا قاسية في شأنهم بلغتْ حدّ الحكم بالإعدام على ثلاثة عناصر تورّطتْ في أعمال عنف وبالسجن المؤبّد على قيادات الحركة ــ وهي الأحكام التي أسرعتْ بعمليّة التغيير في رأس السلطة يوم 7/11/1987.
وفي أعقاب هذا التغيير عرفت العلاقة بين السلطة والحركة الإسلاميّة انفراجًا أشار إليه الرئيس بن علي في الحديث الذي أدلى به إلى صحيفة الحياة اللندنية بتاريخ 11/11/1993، وفيه أنّب الحركةَ الإسلاميّة معدِّدًا ما قدّمه إليها: “لقد أنقذنا حياتهم من المشنقة، وأفرجنا عنهم من السجون، ومنحناهم العفوَ العامّ، وربطنا الاتصال بهم، وشرّكناهم في صياغة الميثاق الوطنيّ، وشاركوا في الانتخابات، ومنحناهم صحيفة، وفتحنا في وجههم سبلَ المشاركة في الحياة العامة…” قبل أن يضيف: “إنّ العدالة قالت اليوم كلمتها في شأنهم، ولم يعد من سبيل للحوار معهم لأنهم يستغلّون العواطف الدينيّة لتقويض أسس الدولة.”
ألقت هذه الأزمة الجديدة بين الإسلاميين والحكم بظلالها على العلاقة بين الطرفين، وبين باقي مكوّنات الحركة السياسيّة التونسيّة. ويمكن أن نعزو هذا التأثر إلى ثلاثة عوامل أساسيّة:
– القوة التعبويّة التي أظهرها الإسلاميون خلال انتخابات عام 1989 وبرزوا خلالها في صورة المنتصر الأكبر على الرغم من عدم حصولهم على مقاعد برلمانيّة. فقد أسند الحكمُ إليهم 17 بالمائة من أصوات الناخبين برغم التزوير الواسع الذي شاب تلك الانتخابات التي دارت وفق نظام انتخابيّ يتيح للقائمةِ الأغلبيّةِ الظفرَ بكامل المقاعد المتنافَسِ عليها ــ وهو النظام المعروف بنظام التصويت على القوائم في دورة واحدة. وفي ردّة فعل على هذا الحدث الذي أثار مخاوف بعض القوى العلمانيّة، تَشكّلَ تجمع “المائة والخمسين” الذي ضمّ مئات الكوادر اليساريّة غير المتحزّبة، في محاولةٍ – لم يُكتب لها الدوام – لمواجهةِ “الاستقطاب الثنائيّ” بين الحكم والإسلاميين.
– أما العامل الثاني فيتمثّل، هو الآخر، في القوة التعبويّة التي أظهرها الإسلاميون من خلال المظاهرات التي نظّموها بمناسبة أزمة الخليج الأولى (صيف وخريف 1990) وفتحتْ على ممارساتٍ عنيفةٍ استهدفتْ مقارَّ الحزب الدستوريّ الحاكم ومراكزَ الأمن.
ـ أما العامل الثالث فيتمل في انزلاق الجزائر إلى مسلسل العنف الأهليّ في أعقاب انتخابات عام 1991 والذي غذّى المخاوف لدى الحكم وشرائح علمانيّة، على الرغم من تبرّؤ قيادة الحركة الإسلاميّة التونسيّة من أعمال العنف وتأكيدها أنّ الوسائل السلميّة هي خيارها الوحيد في العمل السياسيّ.
تدهورت العلاقة إذن سريعًا بين الإسلاميين والحكم الذي أعلن، سنة 1991، عن اكتشاف “محاولة انقلابيّة” نظّمتْها حركةُ النهضة، وأَطلق حملة اعتقالات شملت الآلافَ من أعضائها وقياداتها من مختلف المراتب، وانتهتْ إلى عدة محاكمات صدرتْ في أعقابها مئاتُ الأحكام بالسجن لمدد طويلة، في غياب أدنى شروط المحاكمة العادلة واعتمادا على اعترافات اقتلعت عن طريق التعذيب والإكراه. وشهد شهر أوت 1992 أبرز هذه المحاكمات إذ مثل خلال الأولى 171 عنصرا قياديا من حركة النهضة ومثل في الثانية 108 عنصرا إسلاميا( من بينهم ثمانون بحالة إيقاف وثلاثون عسكريا) وقد نفت الحركة كل علاقة بهذه المجموعة التي أنشأها عضو قيادي منشق فيها اسمه الطاهر الأسود. و إثر هذه المحاكمات صرح وزير الداخلية بخيلاء يوم 22/9/1999 “لقد انتهى أمر الحركة الإسلامية” (Il en est fait du mouvement islamiste).
لم تكتفِ السلطة بتعقّب أعضاء الحركة، وأنصارها الذين قدّموا لها التأييد خلال انتخابات سنة 1989، وإنما طال القمعُ كلَّ من قدّم العون الماديّ إلى عائلات الموقوفين، ولو صدر عن أقربائهم وذويهم. وتعرّضت الجامعاتُ إلى حملة من القمع سقط خلالها طالبان صرعى بالرصاص الحيّ، وبسطتْ قواتُ الأمن سيطرتها داخل الكليّات وأنشأتْ مراكزَ أمنيّة فيها. وقرّرت الحركة الإسلاميّة تجميد نشاطها التنظيميّ، وانشغلتْ بالدفاع عن المعتقلين وإسعاف عائلاتهم. وصنّف الحكمُ المشهدَ السياسيّ إلى فريقين، على مقولة “إمّا معنا أو مع الإسلاميين” الذين أصبح يشار إليهم “بالإرهابيين،” وقطع علاقته السياسيّة بكلّ من أبدى معارضة أو تحفظا إزاء المنحى الأمنيّ التي تردّت فيه البلاد. وفي هذا السياق تندرج أزمتُه مع الرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان، وحزبِ التجمّع الاشتراكيّ التقدميّ. ودخلت الحياةُ السياسيّة في سبات عميق حتى نهاية العشريّة، حين عاد مناضلو حقوق الإنسان إلى النشاط في الداخل والمهجر، مدعومين بالمنظّمات الدوليّة لحقوق الإنسان، واستفادوا من الثورة التي عرفتْها تقنيّاتُ الاتصال الحديثة لإبلاغ صوتهم إلى عموم التونسيين. وفي هذا السياق عاد مطلبُ “العفو العامّ” إلى البروز، ومعه مسألةُ العلاقة مع الإسلاميين. ويمكن تلخيصُ هذا التطور في المحطات الرئيسة الآتية:
ـ “اللجنة الوطنيّة للعفوّ العامّ” التي أنشأتها الرابطةُ التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان في 29/6/2001 بمشاركة العديد من هيئات المجتمع المدنيّ المستقلة وجميعُها من العلمانيين. ويُعدّ هذا الحدث تطورًا لافتًا في العلاقة بين العلمانيين والإسلاميين بعد أن غاب مطلبُ العفو العامّ عن القاموس السياسيّ التونسيّ تحت تأثير الأزمة التي عرفتها البلاد وما نتج عنها من تحفّظٍ إزاء الإسلاميين المعنيين أساسًا بهذا المطلب.
ـ الاجتماع الذي انعقد بمدينة آكس آن بروفانس الفرنسيّة في ماي 2002 وجمع، لأول مرة، إسلاميين وعلمانيين (حركة النهضة، الحزب الديمقراطيّ التقدميّ، التكتل الديمقراطيّ للعمل والحريّات، حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة، وشخصيّات مستقلة، بينما غاب عنه حزبُ العمّال الشيوعيّ، ولم تدعَ إليه حركةُ التجديد). فقد صاغ مسوّدة بيان مشترك لم ير النور لتحفّظ القيادات السياسيّة عنه. وشكّلتْ العلاقة مع الإسلاميين محورَ الخلاف: بين منادٍ بتحالفٍ معها، ومكتفٍ بإطلاق حوار يسبق هذا التحالف، ومعارض لإقامة العلاقة.
ـ الاعتصام الذي نظّمه المحامون لمدة 52 يومًا بدار المحامي (من 5/2 إلى 27/5/2005) للاحتجاج على ما تعرّض له عميدُهم من إهانة على يد أحد قضاة التحقيق بمناسبة إيقاف المحامي محمد عبو وللمطالبة بإطلاق سراح هذا الأخير. وقد ضمّ هذا التحركُ لأول مرة نشطاء من العلمانيين والإسلاميين الذين خاضوا غمار معترك مشترك من أجل قضايا مشتركة وواجهوا خصمًا مشتركًا من دون أن يَطرح هذا التطورُ أيَّ تساؤل أو يثير أدنى تحفظ. وأسهم ذلك في كسر الجليد بين الفريقين، وهيّأ لبروز حركة 18 أكتوبر التي انطلقتْ بعد خمسة أشهر من هذا الحدث.
هيئة 18 أكتوبر
وُلدتْ هيئة 18 أكتوبر في أجواء من الإحباط. فخلافًا لما كان ينتظره المراقبون والناشطون والحقوقيون، لم تبادر الحكومة بأيّ إجراء انفراجيّ استعدادًا لاستقبال “القمّة العالميّة لمجتمع المعلومات” المزمعِ عقدُها في نوفمبر 2005، بل أمعنتْ في التضييق على نشاط هيئات المجتمع المدنيّ والحركة السياسيّة (منع الرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان ونقابة الصحافيين التونسيين من عقد مؤتمريْهما، واعتقال المحامي محمد عبو وما نجم عنه من أزمة مفتوحة مع عامّة المحامين والإطاحة بالقيادة الشرعيّة لجمعيّة القضاة التونسيين الخ..). في هذه الأجواء تداعت شخصيّات من المجتمع المدنيّ والحركة السياسيّة للتشاور حول سبل تحريك الوضع، لكنها لم تتوصل إلى اتفاق. ومن بين الأفكار التي وقع التداول فيها خوضُ إضرابٍ عن الطعام احتجاجًا على تردّي الأوضاع وللمطالبة بالحريّات الأساسيّة.
فشلُ هذا الاجتماع عزّز الاقتناعَ لدى البعض بأنّ الوضع بات يتطلّب مبادرة إراديّة لشحذ العزائم واستنهاض القوى. فانطلق التشاور حول فكرة الإضراب وانتهى إلى اتفاق بين ثماني شخصيّات مدنيّة وسياسيّة على خوضه. وعمل المبادرون على أن تشمل المشاورات الإسلاميين والعلمانيين على حدّ سواء، وبخاصّة أنّ اعتصام المحامين أثبت أنّ وحدة العمل حول مطالب حقوقيّة وسياسيّة دنيا أمر ممكن ومجْدٍ.
انطلق الإضراب يوم 18/10/2005 من مكتب أحد المحامين المشاركين في الإضراب. وأعلن المضربون خلال ندوة صحفيّة عن مطالبهم: حريّة التعبير والصحافة، وحريّة التنظيم الحزبيّ والجمعويّ، وتحرير المساجين السياسيين وسنّ قانون العفو العامّ. هذا وقد تناقلتْ وكالاتُ الأنباء خبر الإضراب الذي أثار اهتماما في مختلف الأوساط؛ من ذلك أنِ انتظم منذ الليلة الأولى تجمّعٌ شبابيّ حول مقر الإضراب، فرّقتْه قواتُ الأمن بالقوة، وضربتْ على إثره حصارًا على المقر ومنعت الدخولَ إليه. وفي اليوم الثاني زارت المضربين بعثةٌ دبلوماسيّة أوروبيّة، تلتها وفودٌ دبلوماسيّة أخرى، ما اضطرّ قواتِ الأمن إلى رفع الحصار. فبدأ الزوّار يتوافدون بالمئات يوميًا، وانتظمتْ في مختلف جهات البلاد والمهاجر لجانُ التضامن مع المضربين. ولاقى الإضراب تغطية إعلاميّة واسعة من مختلف وسائل الإعلام العربيّة والدوليّة. ولم تتخلّف المنظّمات الدوليّة المعنية بحقوق الإنسان، والأحزاب والشخصيات الديمقراطية في العالم، عن تأييد مطالب المضربين. وعلى المستوى الوطنيّ تشكّلتْ لجنة لمساندة الإضراب ضمّت أكثر من مائة من ممثلي الحركات السياسيّة وهيئات المجتمع المدني والشخصيّات الوطنيّة من مختلف الاتجاهات العلمانيّة والإسلاميّة، وشكلت سابقة في يوميّات العمل المعارض في تونس. وهذه التعبئة الاستثنائيّة التي فاجأت الجميعَ، بما فيهم المضربون، عكستْ حالة الاحتقان لدى قطاعاتٍ واسعةٍ من التونسيين؛ وجاءت نتيجةً لوضوح مطالب المضربين وشرعيّتها؛ وعبّرتْ عن الأمل الذي أحياه توحّدُ رموز المعارضة بعيدًا عن الفرقة والإقصاء والتشتّت التي ميّزت المعارضة حتى ذلك التاريخ.
دام الإضراب أكثر من ثلاثين يومًا، وتزامن مع انعقاد مؤتمر القمة العالميّة لمجتمع المعلومات، سارقًا الأضواء عنها. وتحوّلت الوفودُ المشاركة في هذه القمة إلى مقرّ الإضراب، وتدخّل العديد من الشخصيّات، وفي المقدمة شيرين عبادي، الحائزة جائزة نوبل للسلام، التي زارت المضربين وطلبتْ إليهم أصالةً عن نفسها ونيابةً عن الوفود الدوليّة المشاركة في القمة تعليقَ إضرابهم، وتعهّدتْ بدعم مطالبهم والعمل على تحقيقها. واستجاب المضربون وعلقوا إضرابهم يوم 18/11/ 2005.
كان واضحًا بالنسبة إلى المضربين أنّ مطالبهم لن تتحقق في بحر شهر أو شهرين؛ لذلك ناقشوا طويلاً مستقبلَ تحرّكهم والآفاق التي يمكن أن يُفتح عليها. كما كان واضحًا لهم أنّ أرضيّة الإضراب الحقوقيّة، على أهميّتها، لا تختزل حاجيّات البلاد السياسيّة؛ وأنّ التباعد في الرؤى بين التيّارات العلمانيّة والإسلاميّة والخلافاتِ التي شقّتهم مدةً طويلة لم تُطوَ بمجرد خوضهم إضرابًا مشتركًا. وانتهت مشاوراتُهم إلى اتفاقٍ يتلخّص في نقطتين: 1) مواصلة العمل الميدانيّ المشترك لتحقيق مطالب الإضراب الثلاثة في إطار هيئة أطلقوا عليها اسم “هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريّات” تضمّ جميع المضربين وعددًا من الشخصيّات الوطنيّة التي ساندت الإضراب. 2) إقامة حوار حول أسس المجتمع الديمقراطيّ الذي يَنشدونه لتونس في أفق بلورة عهد ديمقراطيّ يكون أساسًا للرفع من وحدتهم إلى مستوى البرنامج السياسيّ المتكامل، وقرّروا أن يجري هذا الحوار بشكل علنيّ وأن يكون مفتوحًا للجميع في إطار ما أسموْه “منتدى 18 أكتوبر.”
شكل الإعلان عن تشكيل هيئة 18 أكتوبر نقطة اختلاف وتمايز بين القوى التي شاركت في مساندة الإضراب. ففيما رأى المضربون والقوى التي يمثّلونها في تشكيل هذه الهيئة نتيجةً منطقيّةً لتحرّكهم الذي لم يستنفدْ أغراضه، رأت أطراف أخرى أنّ مشاركتها في مساندة الإضراب كان من باب مساندة مطالبه المشروعة لا الانخراط في استراتيجيا سياسيّة تقوم على دمج الحركة الإسلاميّة في علميّة التغيير الديمقراطيّ. لذلك انفضّت “اللجنة الوطنيّة لمساندة الإضراب” إثر تقديم تقريرها الختاميّ في اجتماع مشترك صبيحة 4/12/2005، فيما اجتمعت القوى المؤسِّسة لهيئة 18 أكتوبر عند ظهيرة ذلك اليوم لتواصل أعمالها ضمن هذا الإطار الجديد.
وحدة العمل الميدانيّ
يعدّ تأسيسُ هيئة 18 أكتوبر، وما رمز إليه من إعادة الحركة الإسلاميّة إلى المشهد السياسيّ الداخليّ بعد غياب طويل، تجاوزًا للخطوط الحمراء التي رسمتْها السلطةُ خلال السنوات الخمس عشرة التي سبقتْ هذا التأسيس. لذلك واجهت السلطةُ تحرّكاتِ الهيئة باستعمال العنف، سواء في تفريق التجمّعات التي دعت إليها، أو لمنع اجتماع أعضائها. هذه المواجهة المنهجيّة بالقوة أثّرتْ، مع مر الزمن، في قدرة الهيئة على تنظيم تجمّعات في الشارع على غرار تحركات حركة “كفاية” في مصر، التي كانت الهيئة تعمل على محاكاة أنشطتها، بل حالت دون انعقاد الاجتماعات العامة التي دعت إليها الأحزابُ القانونيّة المنضوية تحت لواء هذه الهيئة، إذ كانت قواتُ الأمن تحاصر مقرات الأحزاب وتمنع دخول المدعوين إليها، ولاسيّما العناصر والوجوه الإسلامية. ووجدت الهيئة صعوبة في عقد اجتماعات أعضائها أنفسهم في الأماكن الخاصّة، وباتت تجتمع بشكل سريّ بقصد تنسيق مواقفها وإصدار بياناتها.
الحوار الفكريّ
أما على مستوى الحوار الفكريّ السياسيّ، فقد تمكّنت الهيئة من تنظيم حوارات بين مكوّناتها حول أمّهات القضايا التي تشْغلها. ودارت هذه الحوارات في إطار لجان خاصة تمهيديّة، أو في شكل موائد مستديرة احتضنتها مقرّاتُ الأحزاب بحضور ومشاركة خبراء وأكاديميين ووجوه من المجتمع المدنيّ والحركة السياسية، ثم تصاغ ورقة تأليفيّة تلخص ما انتهى إليه النقاش في الموضوع، فتُعرض على الهيئات الحزبيّة المنضوية تحت لواء الهيئة قبل أن تُنشر كموقف رسميّ ملزِم لأطرافها. ودار الحوار حسب أربعة محاور: 1) المساواة بين الجنسين، وهي مسألة حسّاسة في تونس وأذكت صراعًا طويلاً بين العلمانيين والإسلاميين خلال السبعينيّات والثمانينيّات من القرن الماضي. 2) حريّة المعتقد في بلد إسلاميّ حديث. 3) علاقة الدين بالدولة في النظام الديمقراطيّ المرتقب. 4) الحرمة الجسديّة وتطبيق الحدود (أدمج ضمن المحور الثالث).
صدرتْ في كلّ هذه القضايا مواقفُ مشتركة غذّت جدلاً واسعًا على شبكة الانترنت، واحتضنتْه صحيفةُ الموقف في الداخل. وقد حرص المشاركون في هذا الحوار على النأي به عن المحاكمات الإيديولوجيّة التي تطاول الأسسَ العقائديّة لمختلف الأطراف، وحاولوا البحث عن اتفاقات سياسيّة تحفظ لكلّ طرفٍ خصوصيّتَه وتُلزم كلّ الأطراف إزاء المسألة المطروحة للحوار باعتبارها جزءًا من الميثاق أو العهد الديمقراطيّ الذي يؤسِّس للتعايش بين جميع التونسيين في ظلّ نظام عصريّ: نظام يرعى الهويّة القوميّة والدينيّة للشعب، ويقوم على قاعدة احترام الحقوق والحريّات الأساسيّة للمواطن ومبادئ الفصل بين السلطات والاحتكام إلى الإرادة العامة لاختيار القائمين على شؤون الحكم من خلال انتخابات دورية، حرة ونزيهة. وقد ضمّنت الهيئة مجمل هذه الوثائق في كتيّب صدر أخيرًا ويمكن إيجازُها على النحو الآتي:
ـ ثمّنت الهيئة المكاسبَ التي جاءت بها مجلةُ الأحوال الشخصيّة التونسيّة، ورأت فيها ثمرةً لحركة إصلاحيّة تنويريّة خلّصتِ المرأةَ من قيود عصور الانحطاط الاجتماعيّة والثقافيّة، وأسهمتْ بذلك في تحرير نصف المجتمع وتحديثه مع الحفاظ على مقوِّمات هويّته الحضاريّة الخصوصيّة. وطالبت الهيئة بتعميق هذه المكاسب، في توافق مع المواثيق الدوليّة المتعلقة بالمساواة بين الجنسين، واستثنت منها بعضَ القضايا التفصيليّة والحسّاسة، مثل المساواة في الميراث أو زواج المسلمة بغير المسلم، واعتبرتْ أنها قضايا يمكن أن يستمر حولها الخلافُ وأن يُترك حلّه لمؤسّسات تمثّل الإرادة العامة.
ـ اعتبرت الهيئة أنّ المعتقد حريّة شخصيّة لا تحتمل الإكراه وتشكل بعدًا من حريّة الرأي التي تتوقّف عليها سائرُ الحريّات الأخرى، وتشمل: الحقَّ في اعتناق دين أو معتقد أو تركه، والحقَّ في إظهاره والدعوة إليه وإقامة شعائره ونشره عن طريق التعليم والعمل الدعويّ. وتعهّدت الهيئة بصون حريّة الضمير والمعتقد، وبالعمل على نبذ كلّ تمييز على أساس الدين أو المعتقد، باعتبار ذلك شرطًا من شروط المواطنة التي تقوم على أساس المساواة الكاملة بين أفراد المجتمع.
ـ اعتبرت الهيئة أنّ الدولة في النظام الديمقراطيّ مؤسّسة مدنيّة تستمد شرعيّتها من إرادة الشعب الحرّة وتتقيّد بالقانون وبمبادئ حقوق الإنسان، ومنها: ضمانُ حرمة الإنسان الجسديّة، ونبذُ كلّ أشكال التعذيب والمعاملات المهينة وفقًا للاتفاقيّة الدوليّة لسنة 1984 الخاصّة بمقاومة التعذيب. واعتبرت الوثيقة من جهة أخرى أنّ الإسلام دينُ غالبيّة الشعب العظمى، وأنّه يشكل مع اللغة العربيّة أحدَ المقوِّمات الأساسيّة لهويّة البلاد الحضاريّة التي تتطوّر في تفاعلٍ خلاّقٍ مع مكتسبات الحداثة. لذا اعتبرتْ أنّ على الدولة أن تولي الإسلامَ مكانةً خاصّةً، وأن تضْمن تدريسَ موادّ التربية الإسلاميّة في المؤسّسات التعليميّة، وأن ترعى علاقات التآخي والتضامن مع سائر الشعوب الإسلاميّة، وأن تدافع عن اللغة العربيّة باعتبارها لغة الإدارة والتعليم والثقافة. كلُّ ذلك في نطاق ضمان حريّة المعتقد، وعدم التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو العقيدة، والانفتاح على الحضارة الكونيّة وعلى لغاتها المختلفة، ونشر العلوم الحديثة، وتنمية التفكير العلميّ والحسّ النقديّ لدى المواطنين.
الحصاد
استغرق الحوارُ مدةً أطول ممّا كان منتظرًا (من بداية 2006 حتى نهاية 2009) بسبب التردّد الذي غذّاه الخوف من أن ينزلق هذا الحوار إلى ضربٍ من المحاكمات الإيديولوجيّة، وبسبب التوجّس من أن يساء فهمه من طرف القواعد ومن شبكة الأصدقاء في الخارج.
والحقيقة أنّ المواقف التي انتهى إليها الحوار لم تكن مقطوعة عن التطور الذي عرفته مختلفُ الأطراف على مدى عقدين من الزمن أو أكثر. فالحركة الإسلاميّة التونسيّة تميّزتْ منذ وقت مبكر بانخراطها في الإطار القانونيّ المؤسّساتيّ، وبانفتاحها على الفكر الديمقراطيّ، في وقتٍ كانت تُعّدّ فيه الديمقراطيّةُ ضربًا من ضروب الحكم الطاغوتيّ. كما عرفتْ مواقفُها من قضيّة المرأة، ومن مسألة حريّة المعتقد، تطوّراتٍ لافتةً عبّرتْ عنها كتاباتُ مؤسِّسها الشيخ راشد الغنوشي المنشورة منذ الثمانينيّات. وفي المقابل، مثّل الحوار في إطار هيئة 18 أكتوبر فرصةً للقوى العلمانيّة من أجل توضيح موقفها من قضايا هويّة البلاد وموقع الدين فيها، ومناسبةً للتعبير عن موقف إيجابيّ من العديد من القضايا الثقافيّة التي شكّلتْ في الماضي عائقًا أمام اندماج هذه القوى في النسيج التونسيّ المتشبّث بهويّته العربيّة الإسلاميّة والمنفتح على العصر منذ وقت مبكّر سبق دخول الاستعمار ــ وهو ما تشْهد عليه أعمالُ المصلحين التونسيين من أمثال خير الدين باشا (منتصف القرن التاسع عشر)، وحركة الشباب التونسيّ (مطلع القرن العشرين)، وعبد العزيز الثعالبي، والطاهر بن عاشور، والطاهر الحداد (ثلاثينيّات القرن الماضي).
وإذا كان لهيئة 18 أكتوبر فضلٌ في تاريخ العلاقة بين العلمانيين والإسلاميين، فإنّه يمكن تلخيصُها في ثلاثة أبعاد أساسيّة هي:
1- كسرُ الحواجز التي وضعتْها السلطةُ منذ مطلع التسعينيّات في وجه النشاط السياسيّ المستقلّ، وفتحُها البابَ مجدّدًا في وجه عودة الحركة الإسلاميّة التونسيّة إلى المشهد السياسيّ وإعادةُ الاعتبار إليها طرفًا معنيًا بالانتقال إلى الديمقراطيّة.
2- التأكيد أنّ الديمقراطيّة ليست آليّة للوصول إلى الحكم وحسب، بل هي أيضًا تفقد جوهرها وتتحوّل إلى ضربٍ من ضروب الشموليّة إنْ لم تستند إلى منظومة حقوق الإنسان التي ترعى حريّة الفرد والمواطن في وجه الدولة واضطهاد الأغلبيّة.
3- التأكيد أنّ قيام الديمقراطيّة في حاجة إلى وفاق اجتماعيّ يحدِّد الإطار الذي تجري فيه العمليّة السياسيّة، تشارك في صياغته كلُّ القوى الفاعلة، وتعبِّر عنه في شكل عقدٍ أو ميثاقٍ يحدِّد أركانَ النظام الاجتماعيّ المنشود.
من جهة الفكر السياسيّ، يمكن القول إنّ إضافة 18 أكتوبر تتمثّل في التأسيس، قولاً وعملاً، لعقد اجتماعيّ يحدّد ملامحَ النظام الديمقراطيّ الحديث الذي تنشده الهيئة لتونس كبلد عربيّ إسلاميّ. وهو يتلخّص في أنّ الديمقراطيّة آليّة للتداول على الحكم بالاحتكام إلى الإرادة العامّة في إطار منظومة حقوق الإنسان وحريّاته الأساسيّة، وأنّ هذا النظام لا يتعارض مع موروثنا الدينيّ والحضاريّ بل يُعدّ شرطًا لتجدده واستمراره في العصر الحديث. غير أنّ الإضافة الفكريّة لهيئة 18 أكتوبر لا يمكن أن تخفي إخفاقاتها السياسيّة التي تجلت في الأبعاد الثلاثة التالية:
1- أنّ شدة الضغط على نشاط الهيئة حال دون قيام تحركات ميدانيّة تكون في مستوى الانتظارات التي أثارها إضرابُ الجوع.
2- أنّ طولَ الوقت الذي استغرقه النقاشُ الفكريّ، والتردّدَ في التقدّم به، حالا دون تطوير أرضيّة الهيئة إلى مستوى البرنامج السياسيّ، فعجزتْ بذلك عن مواكبة التطوّرات السياسيّة التي عرفتها البلاد. فلئن بدت المطالب الحقوقيّة الثلاثة التي قامت عليها الهيئة كافية لتحريك الوضع سنة 2005، فإنّ اقتراب موعد الانتخابات العامة لسنة 2009 وما طرحتْه من قضايا (كمسألة الشرعيّة السياسيّة والتداول على السلطة) جعل تلك الهيئة تتخلف عن هذا الاستحقاق الوطنيّ، فتفقد وظيفتها السياسيّة من دون أن تضيف إلى الحقل الحقوقيّ شيئًا يُذكر، وصحّ في شأنها قولُ ابن خلدون: “كلُّ واقفٍ في تأخّر!”
3-واليوم، بعد انقضاء الانتخابات العامة لشهر أكتوبر 2009، وتواصُلِ احتكار الحزب الحاكم للتمثيل الشعبيّ في مجلس النواب وفي مختلف المجالس البلديّة والهيئات التمثيليّة، تجد البلاد نفسها من جديد أمام استحقاق دستوريّ يضعها على مفترق طرق: إمّا القبول بتحوير الدستور مرةً أخرى بما يضمن للرئيس الحاليّ البقاءَ في الحكم مدى الحياة وما يقتضي ذلك من وضع آليّاتٍ للخلافة لا يكون للشعب قولٌ فيها، وإما العمل على شقّ طريق للانتقال إلى الديمقراطيّة والتداول السلميّ على الحكم في أفق عام 2014.
وبالرغم من حيوية هذا الاختيار ومصيريّته، فإنّ الأطراف المكوِّنة لهيئة 18 أكتوبر لا تبدو على استعداد لتحمّل مهامّ هذه المرحلة الدقيقة لأسباب يمكن تلخيصها في:
أ) الحالة الصعبة التي عليها الحركةُ الإسلاميّةُ بسبب الضغط المصلتِ على قياداتها الخاضعة للإقامة الجبريّة في مناطق متباعدة، وبسبب استفحال الخلاف داخلها حول تقييم المرحلة السابقة واستشراف ملامح العمل المستقبليّ.
ب) توزّع الحركة العلمانيّة على مجموعات متناثرة لأسبابٍ شتّى، أهمُّها التقوقعُ التنظيميّ والاختلافُ في التصوّرات وصيغِ العمل.
وهكذا يتضح أنّ الاتفاق حول أسس النظام الديمقراطيّ البديل، والتقدّمَ في صياغة عهد ديمقراطيّ، لا يكفيان، على أهميتهما، للتأسيس لفعل سياسيّ موحَّد يبني الكتلةَ التاريخيّةَ التي تحتاجها البلادُ للانتقال إلى الديمقراطيّة.
نجيب الشابّي
مؤسِّس الحزب الديمقراطيّ التقدّمي (وقبله التجمّع الاشتراكيّ التقدّمي)، وعضو هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحرّيات
المصدر: مجلة الآداب 11-12-201

الوثائق بالفرنسية
Show More
Close