ورشة النقد، لمسات أولى (الإسكندرية). حين اختلط كل شيء حول المتوسط بقلم يارا شاهين
علي مدي ستة أيام كانت الرحلة في برنامج لمسات الأولى لسينما شباب البحر المتوسط. كانت البداية مع رحلتي من القاهرة إلى الإسكندرية و التي مكثت بها لأول مرة ستة أيام متواصلة في مدينتي المفضلة داخل المربع الضيق بين محطة الرمل و المنشية، حيث مكان ورشة النقد السينمائي و عروض الأفلام. شاهدت في الأيام الستة أكثر من خمسة عشر فيلما بمعدل فيلمين إلي ثلاث يوميا. لم تتسني لي من قبل فرصة مشاهدة كل هذه الأفلام في وقت قصير و الأهم أنها المرة الأولي التي أتفرغ فيها تماما طوال أسبوع عمل لمشاهدة تلك الأفلام و مناقشتها. كل ليلة يستدعي عقلي مشاهد من مخزون بصري تراكم و تداخل خلال اليوم لأماكن لا أعرفها أو ربما زورتها سريعا بلا قدرة علي التوغل داخلها،في الجزائر و المغرب و فرنسا و إيطاليا و سوريا. يترك كل فيلم أثره في قلبي بشحنات مكثفة من المشاعر بكل تنويعتها: الخوف من المجهول،القلق على مستقبل مظلم،الأمومة و احتمالية الحرمان منها، الحرب الأهلية، و بالطبع الموت. كل هذا الخلاط من الأفكار و المشاعر و الصور يمتزج بين العقل و الروح خلال تلك المشاهدات المكثفة.
كل كاميرا لها حساسيتها وكل صورة تنقل زخمها المحمل بالمشاعر و الرسائل و الإنحيازات.
و كذلك تنوعت الأفلام بين التسجيلي و الروائي القصير و التجريبي و كأنه اختبار مستمر لمخزون المشاهدة السينمائية داخل كل منا….في فيلم شديد التجريب باستخدامه تقنية كامير « الجو برو « مثل « بدون (1) » للمخرج الجيلاني السعدي،تتحرك الكاميرا في شوارع بنزرت و تحت الماء لتقدم منظورا جديدا للرؤية لتصبح الصورة التي تراها علي الشاشة و كأنها عين المشاهد،يتحدي كافة الأطر التقليدية المريحة التي اعتادنها في مشاهدة الأفلام. تلك الراحة التي تباغتنا بعد مشاهدة عدة أفلام تسجيلية و قصيرة مكثفة ثم نفاجآ بالفيلم الروائي القصير » قبل الأيام » للجزائري كريم موسوي الذي يبدو بنائه تقليديا، فهناك صورة رائعة و لقطات واسعة للجبال و الطبيعة و موسيقي كلاسيكية دائما في الخلفية. بينما يأخذنا المخرج زياد كلثوم في رحلة داخل سوريا الممزقة بالحرب الأهلية في 2012 بكاميرا الهاتف المحمول » الأي فون » أو الصورة القاتمة و الشاعرية في نفس الوقت في فيلم جون بوارون الذي بدا كجملة شعرية متصلة » أرض لا أحد ».
تنوعت المدن كذلك، اتسعت و ضاقت، اختلفت و تشابهت. في الجزائر العاصمة يقف المخرج لمين عمار خوجة بكاميرته داخل ساحة في قلب المدينة ليترك أهل المدينة يتحدثون عن كل شيء من أزمة السكن إلي المس الشيطاني و كافة الآمال و الأحلام المجهضة. المخرج هشام اللدقي يأخذنا في فيلمه « طرف ديال الخبز » في رحلة داخل مدينة مراكش السياحية التي تبدو لزاورها مدينة مبهجة لا تعيش سوي المرح بينما خارج أسوارها يقف عمال يومية ينتظرون من يؤجرهم ليجدوا قوت يومهم مثلهم مثل عمال اليومية الذين آراهم في بداية الطريق الزراعي علي كورنيش النيل في شبرا المظلات في طريقي كل يوم من بيتي إلي العمل في نظرة تدوم لثواني معدودة لكنها قادرة علي ترك ألم جسدي حقيقي في جسدي طوال اليوم….أما دمشق في عام 2012 فهي المدينة الحية الميتة التي لا تعرف كيف لازالت تعيش وسط كل هذا الدمار و حصار الموت كما صورها زياد كلثوم في فيلمه « الرقيب الخالد » و هناك كذلك مدينة سيدي موسي الجزائرية كما رسمها كريم موسوي في فيلم « قبل الايام » التي نعيش فيها بداية الحرب العشرية السوداء لتجهض قصة حب تبدو عادية جدا بين شاب و فتاة مراهقين في المدرسة الثانوية. أما علي الجانب الاخر من المتوسط فتوجد مدينة تريستي في شمال شرق إيطاليا حيث يتلاقي أربع من شباب المدينة حول أزماتهم الوجودية و أسئلتهم بلا إجابات في فيلم جون بوارون » أرض لا احد » كما أن هناك مدينة ليتشي في جنوب إيطاليا التي تشهد صراعا خفتت حدته بين الكنيسة الكاثوليكية و إمبراطورية مارا، المتحولة جنسيا، التي تدير شبكة دعارة يعلم عنها الجميع و يتنصلون منها في ذات الوقت في تواطئ هو قلب المدينة و هويتها كما تصورها كلاوديا موليس في فيلمها « مارا ».
و كما كانت القصص و الحكايات عن المدن بتنوعها و اختلافها، تشابهت قصص البشر رغم اختلاف المجتمعات و السياقات. بالتأكيد قد توجد في كافة تلك المدن أو ربما مدن أخري سيدة مثل حنان في فيلم نادين « أم غايب »، التي تعيش في قرية في حضن الجبل في محافظة المنيا معركة يومية دامت أكثر من خمسة عشر عاما لتصبح أما و ربما توجد ايضا في أي من تلك المدن فتاة تريد التخلص من طفل غير مرغوب فيه و لكنها تتردد و لا تعرف الطريق كما هي بطلة فيلم ريم مجدي « خارج المدينة ». يوجد شاب مراهق يعيش علي هوامش أي من تلك المدن أو غيرها يريد أن يصنع مغامرته ليقود سيارة فيراري و يتباهي أمام أصحابه و حيه الفقير كما هو بطل فيلم ياسين كنية « ف340″. هناك بالتأكيد في كافة تلك المدن رجلا عجوزا ينتظر الموت أو يناجيه كما هو الرجل العجوز في المذبح القديم بالجزائر في فيلم حسن فرحاني في » رأسي رونبوان ».
كسرت الأفلام أنماط تقليدية و أكدت علي أخري. فالبحر المتوسط الفاصل بين عالم يريد أن يهرب منه الجميع إلي جنة منشودة، تلك الجنة التي يراها أصحابها « أزمة » و نهاية حضارة هو واقع يلقي بثقله بين العالمين. الشاب الإفريقي أداما في فيلم » أرض لا احد » ركب البحر و عاني في مراكب الموت ليصل إلي اوروبا ويبدأ معركة جديدة، لكنه أيضا صديق حميم لمجموعة من الشباب الأوروبين الذين يعيشون أزماتهم هم ايضا، مهما بدت لنا أزمات مفتعلة. ولاتزال أمنية الشباب الصغير في الجزائر هي ركوب البحر و الهرب من البلد التي يطبق عليهم من كل جانب. تتمني الشابة الصغيرة في الساحة العامة بالجزائر في فيلم لمين عمار خوجة « بلا سينما » ركوب البحر لتصل إلي ربما إنجلترا لكنها لا تود أن تذهب إلي فرنسا حيث هي تكره ساركوزي ( رئيس فرنسا في ذلك الوقت) بسب سياسته العنصرية. أما يوسف الشاب العامل في المذبح في الجزائر لا يحدد أي مدينة يود أن ينطلق إليها، هو فقط يعلم أن عليه إما التحول إلي الجريمة أو الإنتحار أو ركوب البحر ليهرب من واقعه كما صوره حسن فرحاني في فيلمه » في رأسي رونبوان ».
و كما امتزجت المدن و الصور و الأشخاص و الحكايات، و كما امتزجت الدراما بين الواقعية و المتخلية و كما امتزج الصدق بالكذب أيضا، فنحن نلا نعلم و نحن أمام الشاشة ما الحقيقي و ما المصطنع، امتزجت أيضا أفكار و مشاعر المشاركين في ورشة النقد السينمائي التي أداراتها إنصاف ماشطة و هاجر بودان القادمات من تونس لينقلا لنا كل حبهما و ولعهما بالسينما. فما جعل هذه التجربة أكثر تفردا هو أن هذه الأيام الستة المكثفة لم أعايشها وحدي بل مع مجموعة متباينة من المشاركين عرفت بعض منهم من قبل بدرجات متفاوتة و قابلت البعض الأخر لاول مرة. لم تكن الأيام الست مفعمة فقط بتجربة مشاهدة برنامج الأفلام المكثف بل أيضا بنقاشات مكثفة مفتوحة و ملهمة مع المشاركين و المدربين لتمتزج الأفكار جميعا و تكمل بعضها البعض في انسياب لا يتحكم فيه أحد. نستطيع الآن توقع اي فيلم سيعجب إسلام و ما عنوان مقالته الجديدة؟ و نعلم الآن أن خلود ستنتقد غياب البعد النسوي و و وجود المرأة في أحد الأفلام و سيتحدث محمد أمين بإستحياء عن كتاب قرأه أو حديث مع مخرج و أما عمر فسيقول كلمة واحد علي استحياء لكننا نعلم أن هناك كلمات أخري كثيرة تخجل أن تظهر، محمد صبحي سيبهرنا بتفصيليلات لم يراها أحد غيره كعادته حتي الصديق علي العدوي الذي تربطني به صداقة دخلت عامها الثامن، شعرت و كأننا نعيد اكتشاف ذوات جديدة لنا سويا، فلم تتاح لنا من قبل « رفاهية » تمضية كل هذا الوقت المكثف سويا لنغوض في ولعنا المشترك، السينما و الأفلام. لم تمتزج فقط الأفكار بل أيضا المشاعر امتزجت، ربما كنا نخجل أن نتشارك مشاعرنا في الأيام الأولي، فلقد قاومت أن أحكي عن صديقتي نادين شمس التي تحل سنويتها في يوم مشاهدتنا لفيلم أم غايب لنادين صليب لكن بحلول اليوم الخامس كنا ثلاثتنا، أنا و خلود محمد صبحي نجلس هناك في الصف الأخير نشاهد الفيلم السوري « الرقيب الخالد » و نبكي بكاءا متواصلا أريحيا في نصفه الأخير، لتذوب مشاعر خوفنا و ألمنا هي الأخري مع بعضها البعض.