رجوعا من مهرجان كان
…أن نتبين الفن فيه
بقلم الطاهر الشيخاوي
لا فائدة من تكرار ما قلنا وما قيل حول الجوائز ولا فائدة من التركيز على الحيف الذي تعرض له وما زال يتعرض له عدد من الأعمال الهامّة في مثل هذه التظاهرات التي لا تهدف في حقيقة الأمر إلى إبراز الإضافة الفنية للأعمال المعروضة بقدر ما ترمي إلى الإشادة بقيمتها الثقافية، والفرق بين الأمرين بيِّـنٌ، فالفنّ ابتكار وجرأة وتجاوز للمعهود أما الثقافة فهي قيمةٌ مُعتَـرف بها لدى المجموعة، قابلةٌ للقياس والتقدير
ومهرجان كانْ مبنيٌّ أساسا على مزيج من الفن والتجارة والسياسة، ومن الغباء اعتبار أن للفنِّ غلبةً في ذلك.
ولكن حكمةَ الناقد عند تقييمه للمهرجان تكمن في قدرته على تقدير نسبة الفنّ في المعادلة، فالخلطةُ مركّبة حسب هندسة فيها الثابت والمتحول، فيها الظاهر والباطن. أما الثابت – وهو ظاهرٌ- يتمثل عموما في هيكلة الأقسام الرسمية (المسابقة الرسمية ونظرة ما وخارج المسابقة والحصص الخاصّة وسينما الشاطيء وسينيفونداسيون) والأقسام الموازية (أسبوعا المخرجين وأسبوع النقد ولاسيد) والقسم المخصّص للسوق. والمتحول – وهو أقلّ ظهورا – يكمن في البرمجة نفسِها أي في نوعية الأفلام وكيفية توزيعها على الأقسام المختلفة. وليست نتائج لجنة التحكيم (وهي خلطة أخرى يعسر التنبؤ بنتائجها) مرآةً ضافية للمهرجان بل جزءًا قد لا يتناسب كليّا مع رغبات الإدارة. سبق أن قلنا إن عدد العروض في السوق تتجاوز خمس مرات عدد الأفلام المبرمجة في الأقسام الرسمية والموازية ويُعتبر مهرجان كانْ من أهم إن لم يكن أهمَّ سوق سينمائية في العالم. فلِما التعجّب من عدم منح جوائز لأعمالٍ مثل « أكواريوس » لكليبير مندوشا فيلهو أو « توني ايردمان » لمارن آد ؟ على ألاّ نسنى أنّ الفيلمين عُرضا في أرقى أقسام المهرجان أو حتى (وإن كان الأمر مفهوما إلى حدّ) من غياب فيلم فلان في كافة أقسام المهرجان وحضور فيلم علان في قسم ما. المهم أن نَتبيّـن الفنّ فيه.
إذا استثنينا ما ثبتت رداءته لدى الجميع مثل « ذو لاست فايس » لتشين بين (حيث يميل فيه الثقافي للسياسي ويغيب فيه الفنّي) سوف نجد في الحقيقة صنفين من الأفلام : صنفٌ يجمع بين حذق التقنيات السينمائية المعترف بها وجِدًّية الموضوع وحرصٌ على حسن استعمال التّـقنيات للتعبير عن الموضوع و صنف آخر لا يهمّه الجمعُ بين التقنيات والموضوع ولا يسعى لوضع التقنيات في خدمة الموضوع بل يحاول التعبير عن رؤية خاصة تلتقي فيها التقنيات بالموضوع في حركة متجانسة لا تجمع بمهارةٍ ونجاعةٍ الشكلَ بالمحتوى بل تلتقي فيها طبيعيا وبالضرورة المادّة بالمواد. شريط كان لوتش « أنا، دانيال بلاك » ينتمي للصنف الأول و« أكواريوس » لكليبير مندوشا فيلهو ينتمي للصنف الثاني. شريط « الحريف » لأصغر فرحادي ينتمي للصنف الأول و« توني إردمان » لمارن آد ينتمي للصنف الثاني. طبعا هذا لا يعني أن لجنة التحكيم لم تختر إلا ما ينتمي للصنف الأول ويكفي ذكر « برسونال شوبر » لأوليفيي أساياس الذي تحصّل على جائزة الإخراج ولكنها لم تختر من الصنف الثاني ما تجاوز المعهود واخترق مجالات لا عهدَ لها بها. فطبيعة علاقة الأب بابنته في شريط مارن آد غريبة والغرابة لا تكمن في التناقض التام بين ثقافتي الشخصيتين (جيل 68 المثالي الطوباوي وجيل القرن الحالي البرغماتي الليبرالي) ولكنها تتمثل في نوعية الإصطدام بينها وإخراجها سينمائيا وصياغتها صياغة غير منتظرة فتبدو اعتباطية أو غير مدروسة لأنها لا تُذكّـر المتلقي بالطرق المعهودة التي ينبني عليها التناقض بل هي أقرب للسريالية منها للواقعية تماما كما أن تسلسل الأحداث لا يخضع لمنطق البناء الوضعي بل يبدو مختلاّ، فاختارت المخرجة نظاما سرديا غريبا ومزعجا تمنع غرابتُه إدراكَ تجانسِه. فمن ناحيةِ الكتابة الدرامية كان ظهورُ الأب دوما مفاجئا لا تُهيِّـئه مسيرةُ الأحداث لا إيجابا ولا سلبا كما لو كان مُسقطا مما يعمّق الفارقَ بين الشخصيتين، كذلك لم يكن تصرّف الأب مناقضا بصفة مباشرة لتصرف ابنته بل جاء مُلتويا، جانبيا، الشيء الذي يفتح فضاءا في الفيلم يفوق ما يتحمله المتفرج في مثل هذه الحالات.
أما « أكواريوس « فمشكلته تكمن في وجهة نظره أي أن نقد التحولات العمرانية في البرازيل وهو موضوع ذو أهمية قصوى لم ينظر إليه المخرج بطريقة « موضوعية » أو واقعية بل من خلال نظرة كلارا (سنيا براغا) الذاتية وهذا ما شكل عائقا في فهم الفيلم. لمّا نقول نظرة ذاتية لا نعني أن الواقع منظور إليه من خلال وعي كلارا كما نعهده في العديد من الأفلام. ليس الفيلم ذهنيا بل ماديا. ليس عقل كلارا هو الذي يحكم الأشياء والأحداث بل جسدها. لأن موضوع التحولات العمرانية أرتبط بجسم كلارا الذي لا يزال قائما على وجه الأرض. فالتركيز في إدارة الممثلة على وقوفها وقوفا عموديا يبدو مبالغا فيه كأنما كان ساذجا أو أرعنا لا يدل على ضعف في مهارة المخرج أو الممثلة بل هو اختيار يجعل من جسم كلارا بناية صمدت تماما كما وجب صمود بناية العمارة التي استهدفها المال الفاسد. فكان من الطبيعي أن يكون الجسم الذي ذاق عِـلّة السرطان (فقدت كلارا ثديًا في مقاومته) واقيا وحاميا لجسم المدينة الذي يتآكل بفعل سرطان الرأسمالية.
مشكلة لجان التحكيم تكمن في الخلط بين الحكم على الأعمال كما لو كانت تمارينا مدرسية وتقييمها تقييما فنيّا يقتضي قبولَ هزيمة الإنتظار.
هذا طبعا لا يعني أن « أساتذة » الجنة لم يأخذوا في الإعتبار عنصرَ المفاجأة فعملا أوليفيي أساياس وغزافي دولان يحملان ما يمكن أن يمسّ بأفق إنتظارهم مع أن المفاجأة نسبية في كلتا الحالتين.