« سبعة من ستّاش » بقلم فتحي بن الحاج يحيى
حكايتنا مع الثّورة التونسية، وحتى العربية، كحكاية ذلك الرّجل التّونسي الوسط الطّموح الذي يجهد النّفس طوال العمر ليربط أوّل الشّهر بآخره وهو يحلم في الأثناء باللّحاق بأصحاب الحظّ الذين يجوبون شوارع المدينة بسيارات من أحدث طراز دون أن تظهر على ملامحهم علامات العمل والجدّ أي جماعة سبحان الذي يرزقهم من حيث لا يحتسب. وطبعا طال الزّمن بصاحبنا وهو يمنّي النّفس بأن ترسل السماء عليه مدرارا كغيره من عباد اللّه، وزوجته ما انفكّت تضيق ذرعا بتوسّلاته اليومية وتنهّداته المريرة كلّما مرّت أمامه سيارة، في الشارع أو على شاشة التلفاز، من نوع الهامر أو الكايان وما شابههما من مسرّات الحياة الدّنيا التي ترفع صاحبها إلى أعلى مراتب الحظوة ومواقع الاستهداف من العين الحقّ. صاحبنا الطيب بادر باقتناء الكتيب الصغير للحصن الحصين وبعض ملصقات للاحتياط من نوع “هذا من فضل ربّي”، و”عود في عين الحسود”، و”ربّي أنعمت فزد” فرتّبها جانبا في انتظار السيارة الموعودة التي لم يكن يعرف من أين ستأتي ولكن فيه وَهْمٌ أقوى من العقل –وتلك لعمري ميزة نتفوّق بها على سائر الأمم-.
قالت له يوما :
– يا راجل، بجاه ربّي برّه اطلَع ع السّطح ثمّاش ما يتحلّ في وجهك باب العرش، خليني نكمّل ها المسلسل المحنون.
كان الحال وقتها رمضان في عزّ الصّيف، فلم تنزل الخاطرة في أذن طرشاء بل رأى فيها صاحبنا قمّة العقلانية أمام عجز حساب المنطق البنكي، لا سيما وأنّه لم يبق له سوىوَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ، فظلّ يترصّد ليلة السابع والعشرين لينتبذ بنفسه مكانا قصيّا، متكئا إلى بيت السّطح في انتظار الإشارة الربانية التي أصبحت متعوّدة على النّزول في بلدنا منذ أن تكشّفت على أحد أبنائنا البررة في مسرح الهواء الطّلق بسوسة.
صاحبنا شعبان، لنتّفق على تسميته هكذا اختصارا للمعنى، وضع خطّة جهنّمية ليقاوم بها النّوم في انتظار اللّحظة الربانية وطلوع الملاك عليه. كان يعلم أنّ ليلة القدر سارية المفعول حتّى مطلع الفجر وأنّ انفتاح الباب قد يأتي في كلّ لحظة، لا تدوم سوى برهة، وكم من امرئ فاجأه النّور فتلعثم لسانه وهربت منه الكلمات فعاش بقية العمر يندب الحظّ التعيس نادما على طلاقة لسان خانته لحظة الحقيقة، ومردّدا باستمرار ما كان يجب أن يقال –تماما مثل الأعداد المهولة من ثوّارنا الجدد الذين اكتشفوا نَظْمَهُم وسجعهم بعد انتهاء المعركة-.
شعبان بدأ، إذن، يهيئ نفسه للحدث الجلل بترتيب جملة مفيدة، واضحة في معانيها، سليمة في مخارج كلماتها، معبّرة في دلالاتها، وبدأ يرسم :
– يا خويا مُجلّين، ها الغطا السعيد.
ثمّ شطبها وهو يردّد في نفسه : تي السيّد ملاك وأنا نحكي معاه كَايِنُّو جاء يهنّي فيّا في طهور ولدي. موش معقول. en plus ما كمِّلْتْ إلاّ ما هو فْصَعْ.
نعاودو : بجاه ربّي كان ما تراش مانع وْحَّيْدة كات كات على كِيفْ كيفك، وحمراء يرحم والديك.
ومرّة أخرى يشطب : لا لا ياسر طوّلتها، يمشيش يتغشّش الرّاجل. وزيد حكاية الكات الكات يجيبهاليشي زادة باشي… وحمراء… تي وين باش يلقاها.
نعاودو : خويا، هامر، حمراء كان ثمّة… وإلاّ كحلة… كي متاع عماد.
(ثمّ في سرّه) : زعمة يعرف آشكونو عماد ؟ وكي يقلّي : “صار إنتِ من تالاه. برّه ينعل بوك وبوه”… أخطاني يا خويا.
– شاهي كرهبة رباعية الدّفع من الطّراز الرّفيع.
لا حتى هذي طويلة وباش ترصيلو يلوّج على الماركة. خلّي نزيد نلخّصها.
هكذا قضّى شعبان الليل يناجي أحلى ليالي رمضان لتحقيق شهوة في نفسه طالما تحوّلت إلى رمز للسعادة ووصول المبتغى في زمن السابع من نوفمبر وخلناها انتهت بفعل فاعل يسمّى الثّورة، فإذا بأعداد جمّة من التّونسيين يستنبطون رمزيات جديدة في باب المظهر والتّظاهر كأن يلبس بعضهم جلباب الأفغان ويزيد في تعميق السمة الظاهرة على جبينه دلالة على التّقوى وإطالة السّجود على حصيرة خشنة شماتة في الحاسدين وأصحاب النّميمة الذين تنمّ نظراتهم عن ارتياب في أمره، وقد عرفوه إلى زمن غير بعيد سكيرا عربيدا، أو مفسدا في الأرض يتحوّل إلى شبه داعية يشتغل ببعض آيات وحفنة أحاديث عن التوبة، والجنّة والنّار، وعذاب القبر، وابتغاء دار الآخرة… دون نسيان نصيبه من الدّنيا ولو على هيئة كات كات. أمّا عن ثلّة الآخرين من أصحاب الثّروات الذين لهم صلة قديمة برباعيات الدّفع فهاهم قد دفعوا بها من جديد إلى شوارع المدينة بعد أن أخفوها في الأيّام الأولى للثّورة ولسان حالهم يقول “غصرة وتعدّات”.
مضى من الليل أغلب سواده ولم يبق منه سوى هزيع يفصلنا عن انبلاج الفجر، وشعبان يغالبه النّعاس وهو يكتب ويشطب، وإذا بقَبَسٍ من نور يضيء الأفق، وبياض يكاد يعمي الأبصار في هيئة ملاك يقف وسط السطح معلّقا بين الأرض والسماء. شعبان تفاجأ باللّحظة الربانية فلملم نفسه بسرعة على وزن “يا واللّه عملة” وهو الذي لم ينته بعد من صياغة مطلبه، فاستجمع بديهته قبل أن ينطفئ النّور وأطلق من فيه ثلاث كلمات واضحة لا غبار عليها : “كات فْوا كات” (4×4)، حتّى لا يقع المرسول في خلط بينها وبين الباشي. نطقها بلغة فرنسية سليمة كما يفعل التّونسي عادة كلّما أراد أن يكون قاطعا في مسألة تحتاج إلى مفردات غير قابلة للتّأويل تحمل تعريفها في حدّ ذاتها ولا تُفهم على أنّها من باب الإنشاء والوصف التقريبي، كأن لا يكتفي الواحد بالقول بأنّ الرّأسمال جبان فيطلب مقابلها بفرنسية يستقرّ معها المعنى جازما لا لبس فيه، أو كأن يصيح أب أو معلّم في أبنائه “سا سوفي ça suffit” واضعا حدّا لفوضى الصّغار التي قد لا يفيد معها “يزّي” و”ريض” و”اَرْكَحْ”…
انتصر شعبان على قِصر اللّحظة، إذ يبدو أنّ الملاك قد وجد ما يكفي من الوقت لتسجيل السؤال بدليل أنّه ما كاد يختفي حتّى خيّم السّكون برهة قبل أن يسمع صاحبنا صوتا هاتفا ينطق بلغة فرنسية متينة “ساز” (16).
زوجة شعبان لم تفهم من يومها تغيّر طباع زوجها وكفّه عن الهراء ومداعبة الأوهام. كلّ ما تغيّر أنّه أصبح من يومها يركب فورقونات النّقل الريفي الجماعي التي تتجوّل في جميع أنهج المدينة وأزقتها ضاربة عرض الحائط بأبجديات الجغرافيا ومصطلحات العمران وأبسط قوانين الطرقات. وزوجته لا تكفّ عن القول :
– واللّه ماني فاهمتك يا راجل، مخلّي “الستّاش”(16) تهبّْطِكْ قدّام باب الدّار واتّبَعّْلي في الخطر.
شعبان يظلّ ينظر إليها صامتا، وقد تفلت أحيانا من شفتيه تمتمات مفادها إذا ما دقّقنا فيها مَلِيًّا :
– دَبِّرْ على أُمُّكْ.