« تناقضات العقل المتسامح » لسلافوج جيجاك ، ترجمة سامي برقاوي
الإثارة والشعور بحرج اللحظة، الناجم عن التقارير اليومية حول المظاهرات العنيفة ضد مرتكبي رسوم محمد الكاريكاتورية، في طريقها الآن إلى الانحسار. حان الوقت لأن ننظر إلى الوراء (و إلى المستقبل طبعا) وأن نقيّم ما حصل.
المفارقة التي لا ينبغي أن تفوتنا هي أن 99.99٪ من الآلاف الذين يشعرون بالإهانة لم يشاهدوا حتى الرسوم الكاريكاتورية الدانمركية. تواجهنا هذه الحقيقة مع بُعد آخر، أقل جاذبية، من أبعاد العولمة: “القرية العالمية الإعلامية” هي السياق لواقع أن شيئا ما حدث في صحيفة مغمورة في الدانمرك، سبّب ضجة عنيفة في دول مسلمة بعيدة عنها، كما لو أن الدانمرك وسوريا (وباكستان ومصر والعراق ولبنان واندونيسيا إلخ) هي دول متجاورة. هذا ما يخفق في رؤيته أولئك الذين يرون أن العولمة – كفضاء موحد للاتصال يجمع كل الإنسانية – توفر فرصة طيبة للعالم كلّه: بما أن الجار (كما اشتمّ ذلك فرويد منذ فترة طويلة) هو في المقام الأول شيء دخيل يسبب الصدمة، شخص تزعجنا طريقة عيشه المختلفة (أو بالأحرى وسيلة تلذذه المجسدة في ممارساته وطقوسه الاجتماعية)، لا يبالي بطريقتنا في الحياة فهو عندما يقترب أكثر من اللازم، يمكن أن يتسبب أيضا في رد فعل عدواني يهدف إلى التخلص من هذا الدخيل المزعج – أو كما يقول بيتر سلوترديجك: “مزيد من الاتصالات يعني قبل كل شيء المزيد من النزاع”[2].
هذا هو السبب في أن موقف “فهم بعضنا البعض” لابد من استكماله بموقف “ابتعاد كل منا عن طريق/طريقة الآخر” من خلال المحافظة على مسافة مناسبة، باتباع منظومة جديدة من “قواعد التكتم”. تحتمل الحضارة الأوروبية بأكثر سهولة اختلاف طرق الحياة وذلك يعود بالضبط لما يندد به منتقدوها كمكامن ضعفها وفشلها، ألا وهي “اغتراب” الحياة الاجتماعية. يعني الاغتراب (أيضا) أن المسافة مدمجة في النسيج الاجتماعي نفسه: الحالة الطبيعية هي تجاهل الآخرين، حتى لو كنت أعيش جنبا إلى جنب معهم. لا يمكنني الاقتراب أكثر من اللازم من الآخرين، أتحرك في فضاء اجتماعي حيث أتفاعل مع الآخرين مطيعا قواعد “ميكانيكية” خارجية، دون مشاركة “عالمهم الداخلي”. وربما الدرس الذي يمكن تعلمه هو أنه لا بدّ أحيانا من قدر من الاغتراب للتعايش السلمي بين أساليب الحياة المختلفة. أحيانا، لا يكون الاغتراب مشكلة بل يكون هو الحل: سوف تتحول العولمة إلى قنبلة، ليس إذا بقينا معزولين عن بعضها البعض، بل بالعكس، إذا أصبحنا قريبين جدا من بعضنا البعض.
ولكن، هل الفجوة الثقافية بين الغرب العلماني والبلدان المسلمة هي حقا ما أثار ردود فعل بهذا العنف، أي أن أصوليي الإسلام لا يطيقون أي إشارة مرحة-ساخرة إلى الرّب؟ رؤية عنف الجموع، بالنسبة لليبرالي غربي، تذكر وجوبا بالسطر الأول من “المجيء الثاني” لويليام بتلر ييتس : “أفضل الناس فاقدون تماما لكل اقتناع، في حين أن أسوأهم ممتلئون بالعاطفة المتأججة”. أليس هذا وصف جيد للتقسيم اليوم بين الليبراليين المصابين بفقر الدم والأصوليين المتأججيّ المشاعر؟ “الأفضل” لم يعد بوسعهم الالتزام الكامل، في حين أن “الأسوأ” ملتزمون بالتعصب (العنصري والديني والجنسي).
ومع ذلك، هل الأصوليون الإرهابيون، مسيحيين كانوا أم مسلمين، أصوليون حقا؟ هناك ميزة أصيلة يشترك فيها بوضوح جميع الأصوليين ، من البوذيين التبتيين إلى الأميش في الولايات المتحدة: غياب الشعور بالنقمة والحسد، وعدم المبالاة العميق تجاه طريقة عيش غير المؤمنين. بما أنهم يعتقدون أنهم وجدوا حقا طريقهم إلى الحقيقة، فلا موجب أن يشعروا بأنها مهددة من قبل غير المؤمنين،أو أن يكنوا لهم الحسد. عندما يواجه البوذي أحد أتباع مذهب المتعة الغربي، فهو لا يكترث بإدانته، وأكثر ما يمكن أن يلاحظه هو أن طريقته في البحث عن السعادة هازمة للذات. التباين لا يمكن أن يكون أقوى مع الإرهابيين الأصوليين المزعومين الذين تزعجهم بشدة حياة غير المؤمنين المليئة بالخطايا، وتفتنهم، وتبهرهم، إذ يمكن للمرء أن يشعر أنه يقاتل الآخر المخطئ، في حين أنه يقاتل إغراءاته الخاصة. ما يسمى ب”الأصولي” المسيحي أو المسلم هو وصمة عار على الأصولية الحقيقية.
هنا بالضبط يُظهر تشخيص ييتس عجزه: تشهد شدة عاطفية الجموع على عدم وجود قناعة حقيقية. لا يتأسس الإرهاب الأصولي الإسلامي على قناعة “الإرهابيين” بتفوقهم ورغبتهم في الحفاظ على هويتهم الثقافية والدينية من هجمة الحضارة الاستهلاكية العالمية: المشكلة مع الأصوليين ليست في اعتبارنا لهم أقل مرتبة منا، بل في كونهم ينظرون سرا لأنفسهم على أنهم أدنى (كما شعر هتلر نفسه تجاه اليهود) – وهذا هو السبب في أن تأكيداتنا المتعالية “المقبولة في الفضاء العام” أننا لا نشعر تجاههم بأي تفوق يجعلهم أكثر غضبا ويغذي نقمتهم. ليست المشكلة في الاختلاف الثقافي (جهدهم للحفاظ على هويتهم)، بل في الحقيقة المعاكسة أي في كون الأصوليين أضحوا مثلنا، وأنهم، سرا، استوعبوا بالفعل معاييرنا ويقيسون أنفسهم بها. و المفارقة هي أن ما يفتقر إليه الأصوليون حقا هو قليل من قناعة حقيقية “عنصرية” بتفوقهم. تمييز جان جاك روسو المعروف بين حب الذات وحب النفس (amour de soi et amour-propre)، وثيق الصلة هنا:
“أهواؤنا البدائية، والتي تسعى كلها بشكل مباشر إلى إسعادنا، تجعلنا نتعامل فقط مع الأشياء التي تتعلق بها، والتي مبدؤها حب الذات فقط، وهي كلها في جوهرها محبوبة وحنينة، ولكن عندما تحول بينها وبين تلك الأشياء بعض العقبات، فإنها تهتمّ بالعقبة – التي تحاول التخلص منها- أكثر ممّا تهتمّ بالشيء الذي تحاول الوصول إليه، فتتغيّر طبيعتها وتصبح سريعة الغضب ومليئة بالكراهية. هكذا يصبح حب الذات، وهو شعور نبيل ومطلق، حبا للنفس، وهو شعور نسبي يقارن به الواحد نفسه، شعور يفترض التفضيل، متعته سلبية مطلقة لا تسعى للعثور على الارتياح في الإحساس الشخصي بالرفاه، ولكن فقط في سوء حظ الآخرين”[3].
المغرور الحقيقي هو المنشغل بالاعتناء بنفسه بحيث لا يجد الوقت لتسبيب المصائب للآخرين؛ شبه الأصولي العنيف، على العكس، منشغل (بإيقاع المصائب) بالآخرين أكثر من (توفير سعادة الحياة لـ) نفسه. أوَ لا يصح هذا على العنف الاصولي، سواء كان ذلك في حالة تفجيرات أوكلاهوما أو الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي؟ في كلتا الحالتين، كنّا نتعامل مع الكراهية، بسيطة ونقية: تدمير العقبة (المبنى الفيدرالي بأوكلاهوما سيتي، البرجان التوأمان) هو ما يهم حقا، وليس تحقيق الهدف النبيل المتمثل في مجتمع مسيحي أو مسلم حقيقي[4]. والسبب الرئيسي في الطريق المسدود الاحمق الذي تنتهجه ردود فعلنا على العنف الاسلامي هو أنّنا لا نضع في اعتبارنا منطق الحسد والنقمة هذا.
ردود الفعل هذه تأرجحت بين النقيضين: التشبث بحرية الصحافة والمطالبة باحترام الآخرين.
تناقضات العقل المتسامح
طوّر إيمانويل كانط مفهوم “تناقضات العقل المحض”: يسقط كل عقل حتما في التناقض الذاتي عندما يحاول تجاوز تجربتنا الحسية الملموسة لمعالجة مسائل من قبيل: “هل للكون بداية في الزمن، حد في الفضاء، سبب أول، أم هل هو لامتناهي ؟” وينشأ التناقض لأنه من الممكن بناء حجج لدعم كلا الجانبين من المسألة: يمكن أن نثبت بشكل قاطع أن الكون محدود وأنه لامتناهي … ويعتبر كانط أنه إذا لم يتم حل صراع العقل هذا فإن الإنسانية ستسقط في شك يائس وصفه بأنه “القتل الرحيم euthanasie للعقل المحض”. يبدو أن ردود الفعل على الغضب الاسلامي تجاه الرسوم الكاريكاتورية الدانمركية لمحمد تواجهنا مع تناقض مماثل للعقل المتسامح: يمكن أن تروى قصتان متناقضتان للرسوم الكاريكاتورية، كل واحد منها مُقنعة وذات حجج جيدة، وبدون أي حل وسط أو مصالحة ممكنة.
من ناحية، القضية واضحة بالنسبة لليبرالي الغربي الذي يعتبر حرية الصحافة قيمة من أعلى القيم. حتى لو كنا نرفض الرسوم باشمئزاز، لا يبرر نشرها بأي حال عنف الجموع القاتل ووَصم بلد بأكمله. وقعت بعض الشركات بالفعل في القواعد الجديدة للّعبة – ومن بينها مؤسسات نستله وكارفور. نستله تؤكد الآن أنها لا تستعمل حليب الأبقار الدانمركية في منتجاتها. كما أبلغت مغازات كارفور الفرنسية في مصر “حرفاءها الكرام” أنها “لا توفر المنتجات الدنماركية”، “تضامنا” مع المجتمع الإسلامي. والمرعب هو أن كلا منهما قبلت وصم بلد بأكمله. وذهب الرئيس السلوفيني خطوة أبعد، معتذرا للمسلمين باسم “الحضارة الأوروبية” نفسها!
ينبغي على من شعر بالاهانة من هذه الرسوم الذهاب إلى المحكمة وتتبع الجاني، وليس طلب الاعتذار من الدولة. يبيّن ردّ فعل المسلم هذا نقصا صارخا في فهم المبدأ الغربي، مبدأ مجتمع مدني مستقل. وما يكمن وراء هذا الموقف هو الوضع المقدس للكتابة في حد ذاتها (وهذا هو السبب في حظر استخدام الورق في المرحاض عند المسلمين). فكرة كتابة علمانية تماما أمر لا يمكن تصوره في ثقافة الإسلام، ناهيك عن تقديم “حياة محمد” في رواية مونتي بايثونية[5]. ويوجد هنا ما هو أكثر مما قد يظهر أولا. السخرية المهرجانية من الإله هو جزء من التقاليد الدينية الأوروبية نفسها، بدءا من الشعائر اليونانية القديمة التي تسخر من آلهة أوليمبوس. لا يوجد شيء تخريبي أو ملحد فيها بل هي جزء لا يتجزأ من الحياة الدينية نفسها. والامر نفسه في المسيحية: أوليس صلب المسيح نفسه مشهد ساخر مخرّب، يقدمه باستهزاء كملك راكب حمارا مرتديا تاجا من الشوك؟ أكثر من ذلك، أليست هناك لحظات من السخرية المهرجانية في أمثال المسيح وألغازه ؟
من ناحية أخرى، يمكن رفع قضية، ليست أقل إقناعا، ضد الغرب. إذ سرعان ما أصبح يعرف أن الصحيفة الدانمركية التي نشرت نفس رسوم محمد رفضت سابقا – بانحياز صارخ- رسوما للمسيح باعتبارها مسيئة للغاية. علاوة على ذلك، وقبل اللجوء إلى المظاهرات العامة، حاول مسلمو الدانمرك لمدة أشهر سلك طريق الحوار “الأوروبي” ، كطلب مقابلة مع السلطات الحكومية، وما إلى ذلك، قوبلت بالرفض والتجاهل. الواقع الكامن وراء كل هذا هو التصاعد المحزن لكراهية الأجانب في الدانمرك، مما يشير إلى نهاية أسطورة التسامح الاسكندنافية. وأخيرا وليس آخرا، ماذا عن المحظورات والقيود لحرية الصحافة عندنا؟ أليست المحرقة حقيقتنا المقدسة التي لا يمكن المس منها ؟ في نفس اللحظة التي كانت الاحتجاجات المسلمة مُستعِرة، كان ديفيد ايرفينغ يقبع في سجن نمساوي بسبب التشكيك في المحرقة في مقال نشر منذ 15 عاما، قبل أن يصدر ضده حكم ب3 سنوات سجنا. إذا لا يجوز الشك في المحرقة في مجتمعاتنا الليبرالية …
كما يشير الإفراط الواضح في رد الفعل على الرسوم الكاريكاتورية، الذي وصل إلى العنف القاتل وتوسع لأوروبا والغرب بأسره، إلى أن الاحتجاجات “لم تكن حقا” ضد الرسوم الكاريكاتورية، ولكن ضد الإذلال ونتيجة الإحباط من موقف الإمبريالية الغربية. يتنافس الصحفيون في الأسابيع الأخيرة في تعداد هذه “الأسباب الحقيقية”: الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين، عدم الرضا عن نظام برويزمشّرف في باكستان، الموالي للولايات المتحدة، ، إحساس المعاداة للولايات المتحدة في إيران إلخ. ومع ذلك، فإن المشكلة في هذا التبرير هي: ألا تستعمل نفس الحجج لتبرير معاداة السامية ؟ أن الاحتجاج ليس “حقا” ضد اليهود، ولكنه احتجاج المشردين – وإن في غير محله – ضد الاستغلال الرأسمالي. ولذلك فإن هذا العذر يجعل الأمر أسوء للمسلمين: لماذا لا يتجهون للسبب الحقيقي؟
أخيرا وليس آخرا، ماذا عن الرسوم الوحشية والمبتذلة المعادية للسامية والمناهضة للمسيحية التي تكثر في الصحافة والكتب المدرسية في البلدان المسلمة؟ أين هو احترام الآخرين ودينهم الذي يطالبون الغرب به ؟ ترد بعض الجماعات الاسلامية على الرسوم الكاريكاتورية الدانمركية بهجومات مماثلة من الرسوم. ووزعت مجموعة مسلمة في أوروبا على الانترنيت رسوما لآنا فرانك في السرير مع هتلر. وأعلنت همشهري، الصحيفة الإيرانية الأكثر مبيعا، عن عقد مسابقة رسوم كاريكاتورية حول المحرقة. وتهدف الخطة إلى قلب الحجة ضد مبدأ أن الصحف يمكنها طباعة مواد مسيئة باسم حرية التعبير: “الصحف الغربية طبعت هذه الرسوم المدنسة بحجة حرية التعبير، دعونا نرى ما اذا كانت تعني ما تقول وتطبع أيضا هذه الرسوم حول المحرقة”. من الواضح أن هذه العملية تنعكس على أصحابها: إذا كانوا يعتقدون حقا أن الرسوم الكاريكاتورية الدانمركية كانت جريمة تدنيس تستحق أقصى العقوبة، ألا تعد رسوم المحرقة تكرارا للجريمة؟ حقيقة أنهم يفعلون ذلك بحجة “دعونا نرى الى أي حد أنت متسامح!” لا يغير بأي حال من الأحوال هذا الأمر. باختصار، هذا التفاعل هو دليل على أن ما يهم المسلمين الغاضبين حقا هو النضال من أجل الاحترام والاعتراف بهم، نوع من الشعور بالذل و الكرامة المصدومة وليس الدين.
دليل آخر على هذه الحقيقة هو الضحالة الغريبة في إشارتهم إلى المحرقة. نشرت صحيفة الدستور الأردنية، يوم 19 أكتوبر 2003 رسوما كرتونية تصور الطريق إلى معسكر الموت في اوشفيتز بيركيناو، مع استبدال الأعلام النازية بالإسرائيلية؛ وتقول اللوحة العربية المصاحبة: “قطاع غزة أو معسكر الإبادة الإسرائيلية”. تتناقض فكرة أن سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين كانت مماثلة لإجراءات النازية تجاه اليهود بشكل غريب مع إنكار المحرقة. ألا نشاهد هنا مثالا آخر على النكتة التي أشار إليها فرويد للتعبير عن المنطق الغريب للأحلام: (1) لم أقترض منك قِدرا، (2) أعدته لك سالما، (3) القدر كان مكسورا عندما اقترضته منك. مثل هذا التعداد لحجج غير متناسقة، بطبيعة الحال، يؤكد بالنفي، ما أسعى لنفيه، أنني أعدت لك قدرا مكسورة … ألا يميز التناقض نفسه الطريقة التي يرد بها الاسلاميون الراديكاليون على المحرقة؟ (1) المحرقة لم تحدث (2) حدث ذلك، ولكن اليهود يستحقونها. (3) اليهود لا يستحقون ذلك، ولكنهم فقدوا الحق في التشكي بفعلهم للفلسطينيين ما فعله النازيون بهم. و في مكة في ديسمبر 2005، أشار الرئيس الإيراني أحمدي نجاد أن الاحساس بالذنب من المحرقة أدى بالدول الأوروبية إلى دعم قيام دولة إسرائيل:
“بعض الدول الأوروبية تصر على القول ان هتلر قتل الملايين من اليهود الابرياء في المحارق ويصرون على ذلك لدرجة انه اذا اثبت احدهم شيئا عكس ذلك ، فإنها تدين هذا الشخص وتزج به في السجن. / … / ، ولو افترضنا – على الرغم من أننا لا نقبل بهذا الزعم – انه حقيقة، فسؤالنا للأوروبيين هو: هل قتلُ هتلر للشعب اليهودي البريء يمكن أن يبرر تأييدهم لمحتلي القدس؟ / … / اذا كان الاوروبيون صادقين فيجب عليهم اعطاء البعض من اقاليمهم في أوروبا، في ألمانيا، أو النمسا أو دول أخرى، للصهاينة، وعندها يمكن للصهاينة إقامة دولتهم في أوروبا. اعرضوا جزءا من أوروبا، وسنؤيد ذلك. “
هذا البيان خليط من شيء مثير للاشمئزاز ومن نظرة صحيحة. الجزء المثير للاشمئزاز هو، بطبيعة الحال، إنكار المحرقة، أو حتى ما هو أكثر إشكالا، الادعاء بأن اليهود يستحقون ذلك (“نحن لا نقبل بهذا الزعم”:؟ أيهما؟ أن هتلر قتل من اليهود الملايين أو أن اليهود كانوا أبرياء وفعلا لا يستحقون القتل؟). الصحيح في هذا التصريح هو التذكير بالنفاق الأوروبي: كانت المناورة الأوروبية بالفعل أن تدفع ثمن ذنبها بأراضي شعب آخر. لذا، فعندما يجيبه المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية رعنان جيسين “فقط لتذكير السيد أحمدي نجاد، لقد كنا هنا فترة طويلة قبل أن يكون أسلافه. لذلك لدينا الحق بالولادة أن نكون في أرض أجدادنا والعيش هنا”، فهو يشير إلى حق تاريخي، سيؤدي إلى مجزرة عالمية إذا ما طبق في كل أنحاء العالم. تطرق ألان باديو لهذا المأزق مؤخرا:
“كان تأسيس الدولة الصهيونية حقيقة متشعبة ومعقدة تماما. من جهة، هو حدث جزء من حدث أكبر: البروز الهائل للمشاريع الثورية الشيوعية والاشتراكية الكبرى. فكرة تأسيس مجتمع جديد تماما. من الجانب الآخر، حدث معاكس، هو بدوره جزء من حدث معاكس أكبر: الاستعمار، والغزو الوحشي، من قبل الناس الذين جاءوا من أوروبا، لأرض جديدة يعيش فيها أناس آخرون، شعوب أخرى. هذا الخلق هو خليط غير عادي من الثورة والرجعية، من التحرر والقهر. يجب أن تصبح الدولة الصهيونية… الدولة الأقل عنصرية، والأقل دينية، والأقل قومية. والأكثر كونية من كل الدول”[6].
هناك حقيقة في هذه الرؤية. تقترح سيسيل ونتر (Cécile Winter) في هذا الاتجاه تجربة طريفة: لنتصور إسرائيل كما هي، في مصيرها أثناء النصف القرن الماضي، متجاهلين حقيقة أن اليهود جاؤوا هناك بدون وصمة الدال على الضحية المطلقة، التي تجعل أن العتاب الأخلاقي لا ينالهم. ما نحصل عليه بالتالي هي قصة استعمار عادية … ولكن المشكلة لا تزال: أيمكن للمرء أن يفكر حقا في هذين الجانبين بطريقة منفصلة، بمعنى إمكانية الأول (الدولة الصهيونية) دون الثاني ؟ الامر يشبه الاجابة “إذا…” الشهيرة التي أجاب بها السياسي الامريكي على السؤال “هل تؤيد حظر الخمر أم لا ؟” قائلا “إذا كنت تعني الشراب الرهيب الذي دمر الآلاف من الأسر، الذي يجعل الازواج يضربون زوجاتهم ويهملون أطفالهم، فأنا تماما مع هذا الحظر. ولكن إذا كنت تقصد المشروب النبيل الرائع الطعم الذي يجعل كل وجبة بمثل تلك المتعة، فأنا ضد ذلك! “[7].
بناءا على هذا، وكما يقترح باديو، لماذا يجب علينا التغافل عن المحرقة عندما نحكم على السياسة الاسرائيلية تجاه الفلسطينيين؟ ليس لامكانية المقارنة بين الاثنين، ولكن بالضبط لان المحرقة كانت جريمة أقوى بما لا يمكن المقارنة. فمن يستحضر المحرقة هم فعلا أولئك الذين يستعملونها لاهداف أخرى، جاعلين منها أداة للتوظيفات السياسية الرّاهنة. تعني ضرورة استحضار المحرقة في الدفاع عن الممارسات الإسرائيلية ضمنيا أن إسرائيل ترتكب جرائم فظيعة لا يمكن أن تبررها إلا ورقة المحرقة الرابحة دائما.
يعتمد الفيلم الخيالي الغفران لأودي ألوني (2005Forgiveness of Udi Aloni, ) على إحدى تلك الصدف التاريخية المجنونة: أثناء حرب 1949، قتل الجيش الإسرائيلي سكان قرية فلسطينية صغيرة في ضاحية القدس وهدموا تماما جميع المنازل وذلك لإثارة حالة من الذعر بين الفلسطينيين وجعلهم يفرون. ثم شيدوا بعد ذلك على هذه الأسس مستشفى للأمراض النفسية للناجين من المحرقة (وفي وقت لاحق لضحايا عمليات الخطف الإرهابية). فرضية الفيلم هو أن المرضى تراودهم أشباح المدفونين تحت أرض المستشفى، كمثال على ما يشير إليه جيل دولوز Gilles Deleuze بأنه تركيب لازمني للحظات تاريخية في الصورة-الكريستال. السخرية هنا مدمِّرة: الأكثر حساسية للأشباح الفلسطينيين هم الناجون من المحرقة (الفيلم يلعب بكون أن الموتى الاحياء في المخيمات كانوا يدعون بالمسلمين Musulmannen). لا يرفع ألوني المحرقة إلى مستوى الجريمة المطلقة التي تضفي الشرعية على الممارسات الإسرائيلية في الاراضي المحتلة، والتي تسمح للاسرائيليين برفض كافة الانتقادات الموجهة إلى السياسة الإسرائيلية بعلّة أن ما يحدوها سرا هو نفي المحرقة. ولا يلجأ أيضا إلى المعادلة السخيفة والكاذبة (وهي فعلا معادية للسامية) :”ما كان يفعله النازيون لليهود، يفعله اليهود الآن للفلسطينيين.”
“الدين المجهول، دين الإلحاد”
ومع ذلك، من السهل جدا تسجيل نقاط في هذه المناقشة بواسطة الانقلابات الجدالية البارعة، مثل: ماذا لو أن الكاريكاتور الحقيقي للإسلام هو بالضبط تلك المظاهرات العنيفة ضد الدانمرك، التي تقدّم صورة مثيرة للسخرية مناسبة تماما للافكار المسبقة الغربية؟ والحرية القصوى في نهاية المطاف، طبعا، هو أن غضب الحشود المسلمة انقلب ضد أوروبا التي يراها المناهضون للاسلاميين، كاوريانا فالاتشي، متسامحة جدا تجاه الإسلام، ومستسلمة لضغوطهم … يبدو الأمر كما لو أنك كلما كنت متسامحا مع الإسلام، كلما زادت ضغوطه عليك …
وراء ستار الحشود المسلمة الهائجة، نتعثر على حدود التسامح الليبرالي المتعدد الثقافات، و ميله إلى لوم الذات والجهد لـ”فهم” الآخر: الآخر هنا هو آخر حقيقي، حقيقي في كراهيته. وبالتالي نواجه مفارقة التسامح في أنقى صورها: إلى أي مدى ينبغي للتسامح أن يقبل بعدم التسامح ؟ جميع الصيغ الليبرالية الجميلة “المقبولة سياسيا” حول شدة إهانة الرسوم وانعدام إحساسها، وكذلك ردود الفعل العنيفة ضدها غير مقبولة، ومقولة أن الحرية تتطلب أيضا المسؤولية وينبغي ألا يساء استخدامها، وما إلى ذلك، تظهر حدودها هنا. ما هي هذه “الحرية مع المسؤولية”، غير نسخة جديدة من المفارقة القديمة، الاختيار القسري؟ لك حرية الاختيار، بشرط أن تقوم بالاختيار الصحيح، أو لك الحرية – بشرط أن لا تستخدمها حقا.
ماذا نفعل إذن، لكسر هذه الحلقة المفرغة من التذبذب اللامتناهي بين الحجة المؤيدة والمضادة لها التي تؤدي بالعقل المتسامح إلى طريق مسدود غبي؟ هناك طريقة واحدة فقط للخروج من المأزق: رفض القواعد نفسها التي تطرح على أساسها المشكلة. حلول المشاكل، كما أكد مرارا جيل دولوز، ليست فقط الصواب والخطأ، هناك أيضا مشاكل صائبة أو خاطئة. تصور المشكلة على أنها المسافة الصحيحة بين احترام الآخر وبين حريتنا في التعبير هو في حد ذاته تضليل. لا عجب أن يكشف التحليل الدقيق التضامن السري بين القطبين المتضادين. لغة الاحترام هي لغة التسامح الليبرالي: الاحترام يعني فقط احترام اولئك الذين لا أوافقهم. لذا، عندما يطلب المسلمون الذين أحسوا بالإهانة احترام الغيرية، فهم يقبلون إطار الخطاب الليبرالي المتسامح. ومن ناحية أخرى، المس من المقدسات ليس مجرد كراهية، في محاولة لضرب الآخر في المناطق الاكثر حساسية، في جوهر حقيقة معتقده. بل هو بمعناه الضيق مشكلة دينية: لا يؤثر إلا في طيات الفضاء الديني.
ما يتربص في الأفق إذا ما تجنبنا هذا المسار هو مشهد كابوسي لمجتمع ينظمه عقد فاسد بين الأصوليين الدينيين ووعاظ التسامح واحترام معتقدات الآخر اللائقين سياسيا: مجتمع يجمده الحرص على عدم إيذاء الآخر، مهما كانت قساوته وخرافيته، يكون الناس فيه منشغلين في طقوس تكرارية “تشهد” كونهم ضحايا.
في السنوات الأخيرة، احتدّ الجدال العمومي في سلوفينيا: هل يسمح للمسلمين (ومعظمهم من العمال المهاجرين من الجمهوريات اليوغوسلافية السابقة) ببناء مسجد في ليوبليانا، عاصمة سلوفينيا؟ بينما يعارض المحافظون المسجد لأسباب ثقافية وسياسية وحتى معمارية، كان موقف المجلة الأسبوعية ملادينا أكثر اتساقا وشجاعة في دعمها للمسجد، وذلك تمشيا مع دعمها العام للحقوق المدنية والاجتماعية للناس القادمين من الجمهوريات السابقة الذكر. وليس من الغريب، تمشيا مع موقفها التحرري ذاك، أن ملادينا كانت أيضا الصحيفة الوحيدة التي أعادت نشر رسوم محمد الكاريكاتورية. وعلى العكس، هؤلاء الذين أبدوا أكبر “تفهم” لاحتجاج المسلمين العنيف هم الذين عبروا عن قلقهم بشكل منتظم لمصير أوروبا المسيحية.
وللمقارنة، أثار المحافظون فضيحة في سلوفينيا وقعت منذ سنتين، عندما نشرت مجموعة الروكسترالنيكوف ملصقا للإعلان عن حفلهم: لوحة كلاسيكية لمريم والمسيح الطفل، ولكن مع تغيير طفيف – مريم العذراء تحمل في حجرها جرذا بدلا من المسيح الطفل. كان الهدف من هذه المقارنة طبعا توبيخ الرسوم الساخرة من المسيحية، وفي الوقت نفسه، تأكيد الفرق في ردود الفعل بين المجتمعات الدينية المعنية كحجة لاختلاف الحضارات، أي لتفوق أوروبا : تقتصر نحن المسيحيون، على الاحتجاجات اللفظية، في حين يلجأ المسلمون إلى القتل والحرق …
هذا التحالف الغريب يواجه الجالية الأوروبية المسلمة مع اختيار صعب يلخص جيدا وضعهم المتناقض: القوة السياسية الوحيدة التي لا تجعل منهم مواطنين من الدرجة الثانية، بل تفتح لهم الفضاء لنشر هويتهم الدينية، هي قوة “الملاحدة” الليبراليين غير المؤمنين، في حين أن أولئك الذين هم أقرب إلى ممارساتهم الاجتماعية الدينية، أي صورتهم المعكوسة المسيحية، هم أعظم أعدائهم السياسيين. وتكمن المفارقة في أن (ليس أولئك الذين كانوا أول من نشر الرسوم، بل) الذين أعادوا طبع رسوم محمد، هم حلفاؤهم الحقيقيون الوحيدون، انطلاقا من التضامن مع حرية التعبير.
في تحليله لثورة 1848 الفرنسية، لاحظ كارل ماركس المفارقة التي يعيشها حزب النظام الحاكم، وهو ائتلاف يجمع الجناحين الملكيين (البوربون و الاورليانس). بما أن الطرفين كانا، بحكم ما يحددهما، غير قادرين على إيجاد قاسم مشترك على مستوى المَلكية (لا يمكن أن يكون الواحد مَلَكيا بشكل عام، بما أنه يجب عليه مساندة أحد العائلات الملكية)، فإن الطريقة الوحيدة لجمع الاثنين هي التوحد تحت راية “المملكة المجهولة، مملكة الجمهورية”: السبيل الوحيد ليكون الواحد ملكيا بشكل عام وهو أن يكون جمهوريا. أو ليس الامر نفسه بالنسبة للدين؟ هنا، أيضا، لا يمكن للمرء أن يكون دينيا بصفة عامة، لا يمكن للمرء إلا الايمان ببعض الآلهة على حساب آلهة أخرى. يثبت فشل كل الجهود لتوحيد الأديان أن الطريق الوحيد ليكون المرء متديّنا بشكل عام هو الانضواء تحت راية “الدين المجهول، دين الإلحاد”. وكما يبين ذلك مصير المجموعات المسلمة في الغرب، لا يمكنها الازدهار إلا تحت هذا الشعار. وبالتالي فإن هناك نوعا من العدالة الشعرية في أن يعقب غضب المسلمين ضد الدانمرك الكافر مباشرة عنف شديد بين السنة والشيعة، الفصيلان المسلمان، في العراق. أليس الدرس من الشمولية أن الصراع ضد العدو الخارجي عاجلا أم آجلا يتحول دائما إلى انقسام داخلي وإلى صراع ضد العدو الداخلي؟
عندما يكون الرب موجودا، فكل شيء مباح!
بعد الضجة حول العودة “مابعد العلمانية” للديني، وحول حدود غياب البعد السحري والحاجة إلى إعادة اكتشاف المقدس، ربما ما نحتاجه حقا هو شيء من إلحاد الايام الخوالي. يقدّم أيضا الغضب الناجم عن الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد في المجتمعات المسلمة دليلا آخر على أن المعتقدات الدينية قوة لا يستهان بها. مهما كان عنف الحشود المسلمة باعثا للأسى ، يجب أن يتعلم منها الليبراليون الغربيون المتهورون الساخرون هذا الدرس: حدود خيبة الأمل العلمانية. أو هكذا قيل لنا.
هل هذا هو حقا الدرس الذي يمكن تعلمه من الجموع التي تقتل وتنهب وتحرق باسم الدين؟ قيل لنا طويلا أنه لولا الدين لكنّا نزلنا إلى مستوى حيوانات أنانية تقاتل من أجل الحياة، مع مبدإ أخلاقي وحيد هو ميثاق الذئاب، وأن الدين وحده هو الذي يمكن أن يرفعنا إلى مستوى روحي أعلى. واليوم، والدين يبرز كالعامل الاساسي للعنف القاتل في جميع أنحاء العالم، يحس الواحد نفسه مرهقا من التأكيدات على أن الأصوليين المسيحيين أو المسلمين أو الهندوستان هم فقط الذين يستغلون أو يحرّفون رسالة عقيدتهم الروحية النبيلة. ماذا عن إعادة الكرامة للإلحاد، ربما تلك فرصتنا الوحيدة للسلام؟
منذ أكثر من قرن، حذر دوستويفسكي في كتابه الأخوة كارامازوف، من مخاطر الاخلاقية العدمية الملحدة: “إذا كان الله غير موجود، فكل شيء مباح”. بل وطبق “الفيلسوف الجديد” الفر نسي أندريه قلوكسمانAndré Glucksman نقد دوستويفسكي للعدمية الملحدة على أحداث 9/11، كما يوحي بذلك عنوان كتابه، دوستويفسكي في مانهاتن. ليس أفدح من هذا الخطأ: درس إرهاب اليوم هو أنه إذا كان هناك إله، فكل شيء مباح، أي حتى تفجير مئات من المارة الأبرياء، مباح لأولئك الذين يدعون العمل نيابة عن الرب مباشرة، كأدوات لمشيئته، بما أنه ومن الواضح أن وجود صلة مباشرة مع الرب يبرر انتهاكنا لأي قيود أو اعتبارات “إنسانية ” بسيطة. والشيوعيون الستالينيون “الملحدون” هم الدليل القاطع على ذلك: كل شيء كان مسموحا لهم لأنهم يعتبرون أنفسهم الأدوات المباشرة لالاههم، الضرورة التاريخية للتقدم نحو الشيوعية.
يروي إيف لو بروتون أنه أثناء حملة الملك سانت لويس الصليبية، التقى مرة بعجوز في الشارع تحمل طبقا مليئا بالنار في يدها اليمنى ووعاء مليئا بالماء في يدها اليسرى. وعندما سئلت عن السبب، أجابت أنها ستحرق الجنّة بالنار حتى لن يبقى شيء منها، و بالماء، ستخمد نيران الجحيم حتى لن يبقى شيء منها: “لأنني أريد أن لا يفعل أحد حسنة لأجل الحصول على مكافأة الجنة، أو خوفا من الجحيم؛ بل فقط حبا في الرب” وكأن هذا الموقف المسيحي جدا لا يزال حيا فقط في الإلحاد.
يفعل الأصوليون (ما يعتبرونه) الحسنات استجابة لإرادة الرب ولاستحقاق الخلاص؛ بينما يقوم الملحدون بذلك لأنه، ببساطة، هو الشيء الصحيح الذي ينبغي فعله. أو ليس هذا أيضا أول تجربتنا الأخلاقية؟ عندما أفعل عملا صالحا، لا يجب أن أفعله وبذهني نية الحصول على مكافآت الرب، بل لأنه لا يمكنني أن أفعل غير ذلك. إن لم أفعله، فلن أكون قادرا على النظر إلى نفسي في المرآة. الفعل الأخلاقي، ضرورة، ثواب نفسه. قدم ديفيد هيوم David Hume، وهو المؤمن، هذه النقطة بطريقة مؤثرة جدا، عندما كتب أن الطريقة الوحيدة لإظهار الاحترام الحقيقي في سبيل الرب هو العمل أخلاقيا مع تجاهل وجود الرب.
يقدّم تاريخ الإلحاد الأوروبي، بداية من أصوله اليونانية والرومانية (طبيعة الاشياء للوكريتيوس Lucretius) إلى الكلاسيكية الحديثة مثل سبينوزا، درسا في الكرامة والشجاعة. فهو يتّسم، أكثر بكثير من النوبات العرضية لمذهب المتعة، بالوعي بالنتائج المريرة لكل حياة إنسانية، بما أنه لا توجد سلطة أعلى تسهر على مصائرنا وتضمن النتيجة السعيدة. وفي الوقت نفسه، يسعى جاهدا لتشكيل رسالة الفرح الذي لا يأتي هربا من الواقع، بل من قبوله والإيجاد الخلاق لمكان ضمنه. ما يجعل هذا الإرث المادي فريدا من نوعه هو الطريقة التي يجمع فيها بين الوعي المتواضع بأننا لسنا سادة الكون، ولكن أجزاء فقط من كلٍّ أكبر من ذلك بكثير، متعرضون لتقلبات القدر، وبين الاستعداد لقبول العبء الثقيل المتمثل قي مسؤوليّتنا الكاملة لما نصنع بحياتنا. ألا نحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، وفي الافق تلوح أخطار كوارث لا يمكن التنبؤ بها، إلى مثل هذا الموقف؟
منذ عام أو نحوه، ، كان النقاش محتدما في أوروبا: هل ينبغي، ذكر المسيحية كمكون رئيسي للتراث الأوروبي في ديباجة مشروع الدستور ؟ كالعادة، أتخذ حل وسط حيث ذكرت المسيحية إلى جانب اليهودية والإسلام، وإرث العصور القديمة. ولكن أين الإلحاد، أغلى إرث لأوروبا الحديثة ؟ ما يجعل أوروبا فريدة من نوعها هو أنها الحضارة الأولى والوحيدة التي يكون فيها الإلحاد خيارا مشروعا تماما، وليس عقبة لتقلد أي وظيفة عمومية. هذا هو الإرث الأوروبي الذي يستحق القتال من اجله.
في حين أن الملحد الحقيقي لا يحس بأي حاجة إطلاقا لتعزيز موقفه الخاص بصدم المؤمن بتصريحات مسيئة لمعتقداته، فهو يرفض أيضا التقليل من مشكلة الرسوم الكاريكاتورية إلى مشكل احترام معتقدات الآخرين فقط. احترام معتقدات الآخرين باعتبارها أعلى قيمة لا يمكن أن يعني سوى احد شيئين: إما أن نتعامل مع الآخر بطريقة أبوية ونجتنب ايذاءه حتى لا ندمر أوهامه، أو أن نعتمد الموقف النسبي، أي تعدد “أنظمة الحقيقة”، مقصيين أي إصرار على الحقيقة على أنه فرض عنيف. ماذا عن إخضاع الاسلام – ألى جانب جميع الأديان الأخرى – إلى التحليل النقدي الصارم،الذي وحده يحترمه ؟ هذا، وهذا فقط، هو السبيل لإظهار الاحترام الحقيقي للمسلمين: التعامل معهم كبالغين جديين مسؤولين عن معتقداتهم.
ما يجب علينا دائما أن نأخذه في الاعتبار هو واقع أن الاحتجاجات (والعنف المرافق لها) أثيرت بطرق التمثيل، عن طريق الكلمات والصور (الرسوم الكاريكاتورية، التي لم يرها الغالبية العظمى من أولئك الذين احتجوا، ولكن قرؤوا أو سمعوا عنها فقط). لم تردّ الحشود المسلمة على الرسوم الكاريكاتورية في حد ذاتها، بل كان رد فعلها ضد شكل/صورة متشعبة لـ “الغرب”، ما اعتبر موقفا وراء الرسوم. الذين اقترحوا مصطلح “الاستغراب” نظيرا معاكسا لمصطلح إدوارد سعيد “الاستشراق”، محقون إلى حد ما: ما نحصل عليه في البلدان المسلمة هو صورة إيديولوجية معينة للغرب تشوه الواقع الغربي كما تفعل الصورة الاستشراقية للشرق (وإن بطريقة مختلفة). ما انفجر في العنف يمثل نسيج عنكبوت معقد من الصور والرموز والمواقف (الإمبريالية الغربية، والمادية الملحدة ومذهب المتعة، ومعاناة الفلسطينيين إلخ) التي أصبحت عالقة بالرسوم الكاريكاتورية الدانمركية، وهو ما جعل الكراهية تتوسع من الرسوم إلى الدانمرك كبلد، ثم إلى البلدان الاسكندنافية، فأوروبا، فالغرب. كما لو أن هذه الإهانات والإحباطات تجسدت كلها في الرسوم. ومرة أخرى، ينبغي للمرء أن يضع في اعتباره أن هذا التجسيد هو معطى من معطيات اللغة، معطى بناء وفرض مجال رمزي معين.
هذا الواقع البسيط والواضح جدا يجبرنا على أن نعتبر إشكاليةً الفكرةَ (التي نشرها هابرماس مؤخرا، وإن ليست غريبة عن لاكان) التي مفادها أن اللغة أي النظام الرمزي، وسيلة للمصالحة / الوساطة، والتعايش السلمي، منافية لعنف المواجهة المباشرة الاولية: في اللغة، بدلا من ممارسة العنف المباشر على بعضنا البعض، نناقش، ونتبادل الكلمات، وهذا التبادل، وإن كان عدوانيا، يفترض مسبقا وجود حد أدنى من الاعتراف بالآخر. الفكرة هي أن اللغة إن تسرب إليها العنف، فذلك يحدث تحت تأثير ظروف عرضية “مرضية” تشوه المنطق الجوهري للتواصل الرمزي. لكن، ماذا لو أن البشر يتجاوزون الحيوانات في القدرة على العنف لأنهم يتكلمون؟[8] وكما سبق أن أدرك ذلك هيغل جيدا، هناك شيء عنيف في عملية ترميز الشيء، يعادل الحطّ منه، وهذا العنف يعمل على مستويات متعددة. اللغة تبسّط الشيء الذي تعيّنه، لتنزل به إلى “سمة الأحادية”، بل تقطع أوصال الشيء، وتدمّر وحدته العضوية، متعاملة مع أجزائه وخصائصه كما لو كانت مستقلة، وتدرج الشيء في حقل من المعنى هو في نهاية المطاف خارج عنه.
عبر لاكان عن هذا الجانب من اللغة بمفهومه الدال-السيد الذي “يلفّ”، وبالتالي يجمع حقلا رمزيا. وهذا يعني، بالنسبة للاكان (على الأقل بالنسبة لنظريته حول الخطابات الاربعة التي بناها أواخر الستينات)، أن التواصل الإنساني في بعده القاعدي والأساسي لا ينطوي على فضاء تبادل ذاتيات مساواتية (egalitarian intersubjectivity)، فهو ليس “متوازنا”، ولا يضع المشاركين في مناصب متماثلة تكون فيها المسؤولية متبادلة، وأين يجب على الجميع اتباع نفس القواعد وتبرير ادعاءاتهم بأسباب. على العكس من ذلك، ما يشير إليه لاكان بمفهومه حول خطاب السيد كالشكل الأول من الخطاب ، الافتتاحي والتأسيسي، هو أن كل فضاء ملموس،”موجود فعلا”، للخطاب يرتكز في نهاية المطاف على فرض عنيف لدالّ-سيد هو فعلا “غير عقلاني”: لا يمكن أن تجذّره بمزيد من الأسباب، النقطة التي يمكن للمرء أن يقول فيها شيئا غير أن “هنا النقطة النهائية للمسؤولية”، النقطة التي، حتى يتوقف التراجع إلى ما لا نهاية له، يقول شخص ما “هو كذلك لأنني أقول هو كذلك!”.
أن يكون للسبب (reason, ratio) والعرق(race) نفس الجذر ربما يعني لنا شيئا: اللغة، وليس المصالح الأنانية البدائية، هي المُقًسّم الأول والأعظم، اللغة هي السبب في أننا وجيراننا (يمكن أن) “نعيش في عوالم مختلفة” حتى وإن كنا نعيش في نفس الشارع. ما يعنيه هذا هو أن العنف اللفظي ليس تحولا فرعيا، بل هو الملجأ النهائي لكل عنف مميز للبشر. لنأخذ مثلا المذابح المعادية للسامية (أو، بشكل أعم، العنف العنصري). فمرتكبوها لا يتفاعلون (أي ما لا يطيقونه ويثير غضبهم) مع الواقع الفوري لليهود، ولكن مع صورة / شكل الـ”يهودي” التي تشكلت عندهم والمتداولة في تقاليدهم. الفكرة الهامة هنا بالطبع، هو أن المرء لا يستطيع أن يميز ببساطة بين اليهود وصورتهم التي أنتجتها المعاداة للسامية: هذه الصورة تحدد تماما تجربتي مع اليهود الحقيقيين أنفسهم (بل أكثر، تؤثر حتى على تجربة اليهود مع أنفسهم). ما يجعل اليهودي الحقيقي الذي يصادفه المعادي للسامية في الشارع “لا يطاق”، ما يحاول هذا الأخير تدميره عندما يهاجم اليهود، والهدف الحقيقي لغضبه، هو هذا البعد الفنتازمي. والشيء نفسه ينطبق على كل احتجاج سياسي: عندما يحتج عمال ضد استغلالهم، فإنهم لا يحتجون ضد واقع فقط، ولكن ضد تجربة معينة ذات مغزى لمحنتهم الحقيقية. الواقع في حد ذاته، في كونه تلك الحقيقة الفعلية الغبية، لا يكون أبدا ممّا “لا يطاق”: اللغة، التي هي ترميز له، هي التي تجعله كذلك. لذا وبالخصوص عندما نتعامل مع مشهد حشد غاضب، يهاجم المباني والسيارات ويحرقها ويمثل ببعض الناس إلخ، فلا ينبغي أبدا أن ننسى اللافتات التي يحملونها، والكلمات التي تحفظ أفعالهم و تبررها[9].
[1] للاطلاع على النص الاصلي: http://www.lacan.com/zizantinomies.htm#_ftn6. وفي الواقع، هناك نشرات متعددة لهذا النص، ربما أهمها مجموعة مفالات المؤلف :Violence, Picador, 2008
[2] Peter Sloterdijk, “Warten auf den Islam,” Focus, 10/2006, p. 84.
[3] Rousseau, juge de Jean-Jacques, first dialogue
[4] Jean-Pierre Dupuy, Petite métaphysique des tsunamis, Paris, Editions du Seuil, 2005, p. 68.
[5] نسبة إلى مونتي بايثون Monty Python، مخرجو الفيلم الساخر عن حياة المسيح المسمى حياة برايان The life of Brian (المترجم).
[6] Alain Badiou, Circonstances, 3. Portées du mot “juif,” Paris, Lignes, 2005, p. 89-90.
[7] هنا مشكلة أكثر عمقا، تتعلق بديمقراطية الدولة الحديثة في حد ذاتها: أليس المفهوم المجرد للديمقراطية (“جميع الناس بقطع النظر عن الجنس أو العقيدة أو الثروة أو الدين …”) يستند دائما إلى رواسب واقع عرضي متسترة في شكل شيء وطني (“الشعب… الأمريكي / الفرنسي”)؟ وألا تعود تلك الرواسب في أطروحات باديو المجردة من القومية الفرنسية ؟
[8] Clement Rosset, Le réel. Traité de l’idiotie, Paris, Les Editions de Minuit, 2004, p. 112-114.
[9] والشيء الحاسم الذي يجب إضافته طبعا هو أنه ليست لدينا ثقافات متعددة، كل منها تسكن في دائرتها المغلقة: كل ثقافة تخترقها “استحالتها” التي في جوهرها، في صدام مع نفسها في المقام الأول. كل عنف عنصري أو”أصولي” دائما، وبحكم تعريفه، لديه طابع “المرور إلى الفعل” العنيف، طابع الهروب إلى فعل عنيف حتى يقنّع/ يحوّل مأزقا رمزيا.