« صباحا… مساء °37.2 » بقلم فتحي بن الحاج يحيى
أمينة السبوعي، وجابر الماجري، وعلاء الدين اليعقوبي « ولد 15 » : بنت وولدان لا علاقة بينهم سوى أنّهم في زهر الشباب و”فيهم النيّة” عندما ذهب بهم الظّنّ أنّ ثورة الشعب قطعة حبل جابْها الواد. النيابة العمومية التي لاحقتهم والقضاء الذي حكم في أمرهم أرادا، حتما، أن يلقناهم درسا، لهم ولغيرهم، مفاده أنّ بابا نوّال لا يناسبه العيش في البلاد الحارّة، وكان الأحرى بهم أن يدركوا ذلك بمجرّد الانتباه إلى معطفه الأحمر الذي لا يستقيم لباسا تحت خطّ العرض 36° وفي درجات حرارة قد تبلغ أحيانا 37.2° صباحا.
نحن في بلد سيدنا الأخضر الذي يزور الأتقياء منّا في المنام دون سابق إنذار فينتصب ملكا في حلته الخضراء، غير متنكّر، ولا يدخل البيوت من مداخنها ليطيِّح قَدْره مع الذّراري ويوزّع الهدايا جزافا على من اهتدى ولم يهتد. ليس عندنا فوضى من هذا القبيل، وحركة السير داخل أذهاننا تخضع إلى ضوابط ونواميس وشرطة مرور صارمة تمرّست عبر قرون من الزّمن واكتسبت من الهويّة ما يؤهلنا لرسم حدود تخوّل لنا التعايش السلمي مع الحرية، فإن عرفت قدرها قدّرناها، وإن تطاولت علينا أوقفناها عند حدّها ومن أنذر قد أعذر. موثّق عندنا أنّ النّظام يسبق الحرية ويقيدها وليس العكس.
تاريخنا السّمح يشهد لنا بتسامحنا مع أهل الذّمة، والنّسوة، وشواذّ المجتمع، بل حتى مع الحرية. فلا أحد يزايد علينا. لنا تقاليدنا ولهم تقاليدهم. ولنا معتقداتنا ولهم صناعاتهم. ولهم المادّة…الشّخمة ولنا الإيمان الصّادق. ولهم سبق الوصول إلى القمر، ولنا وعد ما وراء العرش… ولو إلى حين، وما يِسْبَق للسّوق كان الخضّار.
أمينة، وجابر، وعلاء، مجرّد تفشة في حكاية الثورة، وذبابة في مربض الخيول العربية الأصيلة التي أذن ربيعها لترتع في مراكض الهوية واسترداد الكرامة المهدورة والعزّة المسلوبة.
ولكنّها قد تكون القشّة التي ستقصم ظهر البهيمة والذّبابة التي ستدرّع الخلايق لا سيما إذا ما استوت البهامة إسمنتا يؤلّف بين العباد ليكونوا كالبنيان المرصوص.
قوّة الإزعاج والإرباك التي أحدثها كلّ من هؤلاء الشبان الثلاث (ومعذرة لأمينة والنساء عامّة على جمعهم على المذكّر رغم وجود أنثى بل حتى ألف أنثى مقابل فحل واحد لأسباب لغوية ذكرية يطول الخوض فيها ولا قدرة لي عليها) تحيل إلى أكثر من تساؤل، ولعلّه من هنا يبدأ فعل الثّورة.
أمينة لم تتجاوز الثامنة عشر من عمرها وسبق أن نشرت صورا لها عارية النّهدين إعلانا على انتمائها إلى حركة “فيمن” العالمية التي انتهجت هذا الشكل من الاحتجاج الصدامي والتمرّد على تشييء جسد المرأة وتحويله إلى مساحة احتلام وفونتازم، فاختارت طريقة المعالجة بالصّدمة الكهربائية وبلوغ المنتهى عملا بحكمة “ما دواء الفم الأبخر كان السّواك الحارّ” كحلّ ممكن لقضية الانتصاب الفوضوي. وعوض أن نستلهم معالجتنا لهذه الظّاهرة من تراثنا المجيد وتعاليمنا السّمحة باعتماد القياس في طارئ لم يتعرّض له سلفنا بسبب تأخّر ظهور الأنترنات، والتويتر، والفايسبوك، كقولك : لهم نهودهم ولنا انتصابنا، ونأخذ المسألة نصبة وإبداعا مستحضرين أشعار بشّار أو بن ربيعة التي لا تقلّ إثارة، وطاح الكفّ على ظلّه، أو نعتبرها بلاء من عنده ونكون من الصّابرين، أو نقول أنّ الزّمن قد حان لنشرع في ثورة ثقافية تبدأ من تفقّد سراويلنا والتساؤل عن الأسباب التي تجعل مصائرنا ومعاني حياتنا تلعب تحت الحزام، وجميع ردود أفعالنا تنبع من ثمّة. فعندما تسري مثل تلك الرّعشة العطشى في جسد المجتمع بأسره أمام بنت نصف عارية، وكتابة شعار “فيمن” على حائط مقبرة من قبل هذه البنت بالذّات، بل ربّما بسبب وجودها أصلا في مدينة القيروان المشحونة رمزية في المخيال الشعبي، فإنّ التساؤل يفرض نفسه عن نفسيتنا الجماعية وما يخفيه تعاملها مع تراتبية المفجع والصّادم والمحرّم من الأشياء وإلاّ كيف نفهم إعلاء قضية أمينة إلى مرتبة الفاجعة التي أحرجت الرأي العامّ بما في ذلك العديد من الأطراف الديمقراطية التي انبرت تقدّم عدم موافقتها بل شجبها لما أتته من صدم للمشاعر قبل أن تطلب لها التخفيف ومراعاة سنّها ومراهقتها…وربّما مداركها العقلية. والحال أنّنا أمام الحقّ في حرية الضمير الذي المدرج في مشروع الدّستور الجديد الأعرج، بعد لأي وجهد، وأمام زوايا أولياء صالحين أحرقت ودنّست، وسلاح يتجوّل في البلد والأحياء، وشرطة موازية بلباسها الأصفر الحامل لعناوينها تجوب الشوارع وتتعاون مع البوليس على تأمين الوطن قبل أن تتفرّع إلى خلايا مرابطة بالجبل وتفجّر الجيش والحرس، وميليشيات قادتُها أشهر من نار على علم تزرع الرّعب في نفس كلّ من لا يحبّ الحكومة التي تحبّ اللّه وتشتغل بالقياس المنطقي الأرسطوي القائل بأنّ التونسيين يحبّون اللّه، والنّهضة تحبّ اللّه، إذن كلّ التونسيين يحبّون النّهضة…
كلّ هذا لم يهزّنا كما هزّتنا نهود مراهقة وحيدة منفردة.
جابر هو الآخر امتحان للثورة فيما إذا أتت بالحرية أو بعسكرة الأذهان على وقع القياس المنطقي الآنف الذّكر. كتَبَ على مدوّنته فقرات في الإلحاد ونكران وجود اللّه دون أن يعلم أنّ المشكلة ليست في وجود الخالق من عدمه، فذلك يبقى موضوعا فلسفيا كنّا نقرأه في قسم البكالوريا قبل أن يصحّح وزير التعليم محمد المزالي المسار باتّجاه مكة، بل المشكلة تكمن في حقيقة وجود حرسه والمتطوّعين للدّفاع عنه دون تفويض معرّف الإمضاء، وفي الأمر علاقة بالفلقة أكثر من العلاقة بالفلسفة. شعوب تقوم بثورة وترتاع من فرد، وحداني ليس موحّدا، عنّ له التساؤل عن سرّ الوجود، والانخراط في فرضيات تأمّلية أوردها على مدوّنته التي يكون الدّخول إليها طوعيا. ومرّة أخرى يصاب التونسيون بهول الفاجعة، وتتحرّك النّيابة العمومية والعدالة لتقول كلمتها في الحكم على كلمات بسبع سنوات ونصف عاجلة التنفيذ مخافة أن تسقط السماء على الأرض وقبل أن تبدأ بفتح ملفات الرشاوى والتملّق والخنوع الذي ينخر كيانها، ودون أن يعلو الحياء وجهها بعد ما سلّطته من مظالم على العباد في العهد السابق إرضاء للأمير.
ولد الكانز قضية أخرى رغم تشابه البهامة. هو لا يحبّ البوليس كما يحبّ والديه. وليس حبّ البوليس من الإيمان على ما أعلم لاسيما بالنّظر لماضيه القريب والبعيد. فالبطاقة عدد 3 لبوليسنا ليست بالنّظافة المطلوبة ولا تخوّل له أن يقاضي شابّا عبّر عن وجعه من المعاملة التي تلقاها من أمن لم يؤمنه من خوف ولا رحم جسده. الرّاب فنّ المشاعر الخامّ التي لا تمرّ من مصفاة التهذيب والعودة إلى البيت فرحا مسرورا. يكفي التذكير بأنّ هذا النّوع من الموسيقى قد نشأ في غيتو السّود بأمريكا ليعبّر عن الواقع الأسود لهذه الفئات بكلمات الوجع كما ينطق بها الوجع ليشير إلى مصدر الألم المباشر النّازل في أغلب الأحيان من عصا البوليس، وزنزانات البوليس وهمجيته، وأثر الجراح على الجسد. وهي مقابلة بين ضارب ومضروب لا تولّد بالضّرورة شعرا، وإيحاء، وبلاغة، واستعارات، وفلسفة عن حيرة الإنسان ومعنى وجوده. هو نوع من الموسيقى لا يشتغل على رباعيات الخيّام أو الأندلسيات، فطبيعي أن لا يعجب البوليس ويرى فيه تدنّ في الذّوق الفنّي لكثرة ما يسمع فيه صدى سبابه وشتائمه وطريقة مخاطبته المواطن المتّهم أو الذي هو في حالة اتهام إلى أن يثبت ما يخالف ذلك. والمشكل أنّ الوطن اليوم بين المطرقة والسندان، فإمّا أن يستعطف البوليس ليصبح جمهوريا، وديمقراطيا، ومتشبّعا بحقوق الخلائق من البشر (كما قال لي أحدهم) أو أنّ البوليس يأخذ في خاطره فيحلف أنّه لن يحمي بعد اليوم هذه الفئة أو تلك بونتو فيها، أحبّ من أحبّ وكره من كره، وإلاّ ترك الماء يسيل على البطيخ ووقتها سيدرك النّاس قيمته. بمعنى أنّه للسلع الرائجة في سوقنا السوداء تضاف عملية المقايضة والبيع والشراء مع بوليسنا الموقّر خارج إطار القانون ومفاهيم الجمهورية.
خلاصة القول : أمينة تزعج مجتمعا لا يدرك ذكوره أنّهم أشبه بنيقاتيف الصّورة التي توضع في سائل التحميض فيخرج البوزيتيف على هيئة أوتاد منتصبة ومشهد حشود في حالة نزو متواصل لا يهدأ.
وحكاية جابر تدعو إلى التساؤل عن إيمان يرتبك أمام مجرّد تساؤل عن معناه، ويحيل إلى مجتمعات تفضّل العيش على يقينياتها على مواجهة الحيرة والسؤال كمدخل لتوليد الذّكاء ورفع الخمول عن الأذهان.
أمّا قضية ولد الكانز فقد تكفّل أصحابه بالردّ من خلال أغنية “البوليسية قطاطس”.
وإنّها لثورة حتى… يَامِنْ عَاشْ.
30 جوان 2013