المرضى اللّي جاو الكلّ، لاباس عليهم

فتحي بن الحاج يحيى

لم أشعر، أبدا، في حياتي مثلما شعرت، أمس الاثنين 4 ماي، بذلك الإحساس الذي يصيب لاعب كرة القدم عندما يخطئ الرّمية في ضربة الجزاء الأخيرة التي كانت لترشّح وطنه لولا تصدّي الحارس، ابن الـ…. وطن الآخر، للكرة. شعور بخذلان أمّتك وأهلك وذويك، وإحساس بضرب موعد في غير أوانه، كأن تضرب وعدا بالتلاقي مع بنت، ولا أحلى، عند غروب الشّمس ضمانا لرومانسية الموقف التي قد تخونك فيه الكلمات أو تتعطّل فيه القريحة التعبانة من أصلها فتستنجد، على الأقلّ، بجمال الطبيعة لتركيب بعض جمل ركيكة،

تقضّي النّهار في تهيئة النّفس بين الحلاّق، وحانوت الغسيل بالشائح لجلب قميصك الأصفر المخصّص لكبرى المناسبات، وبعض متممّات أخرى… ثمّ تأخذ صرّة ثيابك شاقّا طريقك إلى الحمّام وأنت تجرّ نفسك جرّا، لا تعبا، وإنّما تناغما مع ما يسمح به لك نعلك البلاستيكي المنفلت في كلّ خطوة من قدميك، وقد لبست أرثّ ما تملك من الثياب التي سترمي بها إلى الغسيل، على كلّ، بعد خروجك من الحمّام… وإذا بك تتقابل مع الحلوة، كفّا وغرزة، دون سابق إنذار، وهي في أوج فتنتها، وأنت في أسفل مراتب الجاهزية. لقاء على غير موعد. تماما كذلك الوجع الذي أصابني في أذني ونحن في حالة كورونة واضحة.

الحكاية أنّني أصبت ببعض تقرّح في أذني، وخفت، نظرا لماض لي مع قلّة السّمع والطّاعة، أن أُصاب بالطّرش فأُحرم من سماع أصوات بلدي وأهل بلدي، وأُحرم من متابعة مداولات نوّابي وهم يدافعون عن قيمتي كمواطن، وسمعتي كتونسي، ومصيري ككائن حيّ، ومستقبل ابنتي كمشروع بناء واعد لهذا البلد، ولربّما أيضا فريقي المفضّل في كرة القدم، فتحاملت على نفسي وعلى خجلي من نفسي في زمن يحوم فيه شبح الكورونا على البلد بما لا يدع المجال لأيّ تونسيّ أن يتبجّح بأيّ مرض آخر.

– السّكري، غلظ الدّم، الكلاوي، القلب، السّرطان، الكبدة… موش مهمّ.

– الرّسمي: تكحّ؟ عندك السّخانة؟ ضيق النّفس؟ تحسّ روحك فاشل؟ Non؟ برّه روّح. واللّه كاركم تحشموا على أرواحكم، توّا هذا وقتو؟

تحدّيت تأنيب الضّمير وغامرت بالذّهاب إلى المستشفى، اليوم الثلاثاء 5 ماي، على الساعة العاشرة صباحا. قصدت المنجي سليم. ليس لي معابر تجتاز بي الضفّة إلى المستشفى العسكري المخصّص للعسكر وللصّفوة من حماة الحمى.

وصلت الباب وأنا أكاد أعتذر عن الإزعاج. باب واحد مخصّص للدّخول حتّى يتسنّى رصد الحاملين للفيروس وفق توصيات المنظّمة العالمية للصحّة. سألني الحارس بالباب إن كنت مررت بالفحص. قلت له: آنا فحص زاده، وقد قفزت إلى ذهني، دون استئذان، عبارة الفحص الشّرجي.

أجابني: – التَّاسْتْ…التاست… برّا للبرّاكة غادي باش يسرّحولك تدخل.

– إيه ما قوللي تاست من الأوّل، علاش هكّا يا خويا.

الرّجل لم يفهم شيئا من ردّة فعلي، ولا أنا فهمت شيئا من تنفّسي الصّعداء لمجرّد سماع كلمة تاسْت.

البرّاكة ليست برّاكة من برّاكات بلدي. إنّها رولوت بأتمّ معنى الكلمة كتلك التي ينزل بها بعض السّواح الجوّالة المغرمين بالطبيعة ويشدّونها إلى سياراتهم منزلا متنقّلا كامل الأوصاف والمعدّات واللّوازم.

جاء دوري في الصّف. كان أمامي ثلاثة أشخاص وورائي حوالي الستة أو السبعة أنفار. لم يكونوا متباعدين اجتماعيا بالنّظر إلى هيئتهم وما يبدو عليهم من ضيق الحال المتّسع على غيرهم. كانوا، تقريبا في الهوى سواء من حيث العلاقة مع سباق آخر الشّهر وأشياء أخرى من نوع التي جعلهتم يقاطعون المصحات الخاصّة حتّى عندما يشتدّ بهم المرض، ولا أعتقد أنّ في الأمر مساندة منهم للقطاع العامّ في معركته الوجودية مع القطاع الخاصّ. كانوا فقط على مسافة تباعد متري محترم لم يغيّر شيئا من تقاربهم اللّصيق في المرتبة الاجتماعية.

أطلّ شابّ من شبّاك صغير في أعلى البرّاكة الأوروبية، ذكّرني بحكاية صالح الخميسي في مطلع أغنيته الشهيرة « يا بودفّة شبحتنا ». ربّما لحاجتي وقتها للترويح عن النّفس من كثرة ما تصيبني الكآبة عند مدخل المستشفيات، أو لقطعة مقروض تراءت لي في المشهد بسبب قرصة جوع أحسست بها في يوم رمضاني لا حيلة لك فيه لأكل ولو لقمة صغيرة أمام أعين المارّة الذين لا أحد يعلم نسبة الفاطرين منهم من الصائمين.

سألني الشابّ وهو ينظر إليّ في وضع جانبي يوحي بأنّه لا يتفرّس في ملامحي، ولا تهمّه كثيرا هيأتي. كان أعلى رأسي في مستوى العارضة السفلى للشبّاك. كنت أنتظر أن يُخرج جهاز قيس الحرارة ليضعه على جبيني أسوة بما شاهدت في التلفاز في مطارات العالم وحتى في وطني العزيز. أعجبتني الحكاية ثمّ ارتبكت قليلا. فالنّهار كان بطبعه شديد الحرّ، وأنا مشيت طويلا على القدمين، من باب الترويح الرياضي، وما زلت أتصبّب عرقا مثلي مثل العجوز الواقفة ورائي والذي يبدو أنّها قدمت من مكان أبعد بدافع الضّرورة التي لا علاقة لها بالتّرويح الرياضي. كنت أشعر أنّ الزّئبق سيتخطّى بالضّرورة السابعة والثلاثين درجة سليوس الموافقة لثمانية وتسعين فاصل ستة فارينهايت، ووقتها سيقبض عليّ حتما لوضعي في الحجر الصحّي بإحدى المبيتات الطلابية برأس الطابية مثلا التي لي معها ذكريات مشرقة.

هممت بالتأخّر وترك مكاني للعجوز الواقفة قفاي، فعالجني الشابّ المعلّق في الشباك العالي بالسؤال:

– قدّاش عمرك؟

– خمسة وخمسين (تذكّرت حكاية الحاجز الزّمني بين الحرية والحجز، فخصمت لوحدي، دون أن يلحّ عليّ أحد، إثنا عشر عاما من عمري أو بالأحرى أضفت إلى نفسي هذا الكمّ من السنوات بغية حياة أطول وخوفا من إلقاء القبض عليّ من جديد في هذه السنّ التي لا ترحم). الولد لم يحرّك ساكنا، وأنا اعترتني غبطة المتصابي الذي لا يخذله مظهره. والحقيقة أن الولد المعلّق في الفضاء لم يحاول أن يقيس شيئا، لا الحرارة ولا العمر على قسمات الوجه، وأخاديد العمر في البدن. إنّه لا يصلح أن يكون مرجعا للفرح. مرّ إلى السؤال الموالي:

– عندك السّخانة.
– لا
– تكحّ
– لا
– عندك ضيق النّفس
– أبدا
– عندك فشلة
– مَاهَا
– اتفضّل
– آكَهُوْ
– آكهو، آهَوْكا الباب من غادي.

سحبت نفسي، نصف فرحٍ بنجاحي في هذا الامتحان العسير، ونصف منذهل من صرامة تعليمات المنظمة العالمية للصحة.

فجأة قفز في ذهني سؤال وأنا لم أكد أتنحّى عن مكاني لفسح الطريق أمام العجوز ورائي.

تساءلت عن الأبله الذي يئنّ وجعا بسبب داء ما، ويأتي المستشفى من باب التمنّي والترجّي، لا لاعتقاد راسخ يسكنه في أنّه سيبرأ من علّته، ثمّ يقف أمام الولد المعلّق ليُسِرّ له بما قد يمنعه من دخول الباب ويجبره على البقاء مراقَبا في منزله أو في إحدى دور الحجر الصحي لمدّة أسبوعين.

طبعا ستكون الإجابة بـ »لا » عن كلّ سؤال مادام غير مرفق بوسيلة تثبت عكس ذلك.

استدرت نصف استدارة وسألت الشاب:

– بجاه ربّي، خويا، فمّا شكون سألتو لحدّ توّا، وقالك عندو حاجة في بدنو.

كان يجهّز نفسه لإعادة نفس الأسئلة، بنفس الرّتابة، بنفس النّسق، بنفس الضمير المهني الذي يلحّ عليه بأن لا ينسى واحدا، وألاّ يهتمّ بالشخص المعني بأسئلته، أكان كهلا أم عجوزا، رجلا أو امرأة، أشقر أم أسمر، عربيا أم أعجميا، فلا فرق بينهم سوى بحسن الإجابة وسرعتها تجنبا لمضيعة الوقت.

المرأة العجوز لم تتقدّم تماما لتأخذ مكاني احتراما لمسافة الأمان، وأنا تنحيت قليلا عن موقعي دون أن أنسحب تماما. فالمكان أمام الشاب المعلّق كان شبه شاغر. والشاب نظر في ذلك الاتجاه تحديدا، حيث الفراغ من كلّ جسد حيّ ليقول وكأنّه يحدّث نفسه دون أن يسمع صوته:

– واللّه بالحقّ… من البارح، المرضى اللّي جاو الكلّ، لاباس عليهم. الكلّهم دخلوا يداويوْ !

Afficher plus
Bouton retour en haut de la page