حاجب العيون: حين تروي الجهات الداخلية سرديات لا مرئية

منيرة بلغوثي

« لا بديل لنا عن هذا العالم لكنّنا نملك بديلا داخل العالم نفسه »
طوني نيغري

 

وفيات وإنعاش وفقدان للبصر، تلك هي كلفة العطر المسموم التي حوّلت الاحتفال بالعيد إلى حداد في مدينة حاجب العيون. إحساس بالغبن سرعان ما تحوّل إلى حراك احتجاجيّ متواصل إلى اليوم. وهذا ليس بجديد على منطقة في رصيدها تاريخ احتجاجيّ عريق. وهو تاريخ إخفاق الدولة « الوطنيّة » بحكوماتها المتعاقبة ومناويلها في معالجة الملفّ الاجتماعيّ، ويكشف أكاذيب سياسة امتصاص الغضب الاجتماعيّ ومسكّناتها التسويفيّة.

قال « منور صمادح » الذي عاش فترة في حاجب العيون ناقدا شعار المرحلة البورقيبيّة في دولة الاستقلال: « شيئان في بلدي قد خيبا أملي: الصدق في القول والإخلاص في العمل ». كانت كلفة هذا البيت على الشاعر التتبّع الأمنيّ الذي انتهى به إلى المرض النفسيّ، ولم يشفع له رصيده النضاليّ ولا مشاركته في حركة التحرّر الوطنيّ ضدّ الاستعمار. هذه الآثار المتبقّية من الماضي مهمّة جدّا في اعادة تشكيل تجربتنا كقرّاء للسرديّات التاريخيّة واقعيّا، على طريقة بول ريكورPaul Ricœur. لمدينة حاجب العيون إرث ثقافيّ ومخزون حضاريّ وتربة خصبة تنكّرت لها  » « الذاكرة الممنوعة »[1]، فكان نصيبها، لعقود من السياسات المتتابعة منذ دولة الاستقلال، اللاّمبالاة والتناسي.

شعور جماعيّ مشترك بالغبن والتهميش والإقصاء يوحّد اليوم الذوات الثائرة في حاجب العيون، يقول الدكتور أحمد الطريفي أحد الفاعلين في الحراك الاجتماعيّ: « في حاجب العيون، كلّنا موتى وعندنا برشا …غير كلّ مرّة يجي سبب باش تفيقو بجماعة منّا …المرّة هاذي السبب القوارص… ».

في محاولة لفكّ العزلة الجغرافيّة والتاريخيّة والسياسيّة على جهتهم، ينخرط اليوم مواطنو حاجب العيون في فعل جماعيّ مناهض للتهميش المبرمج. وهي محطّة أخرى تثري استمراريّة الحراك الاجتماعيّ منذ الثّورة والذي تجاوز حدود الحركة الاحتجاجيّة المطلبيّة نحو تغيير جذريّ للسياسة التنمويّة بالجهة.

محنة حاجب العيون

تنتمي معتمدية حاجب العيون ترابيّا إلى ولاية القيروان. وحسب مرصد المنتدى التونسيّ للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، القيروان تتصدر غالبا المرتبة الأولى على مستوى الاحتجاجات وكذلك على مستوى حالات الانتحار ومنسوب العنف. وحسب الإحصائيات الرسميّة تتذيّل « رابعة الثلاث » المراتب الأخيرة في التّنمية. وهي نسب تكشف عن أسباب الاحتقان الاجتماعيّ في مواجهة بين مناطق الهامش ومناطق المركز دفاعا على شروط إمكان العيش الكريم، عن حقّ المواطنين في الصحّة والماء والتشغيل. ففي سياق خيارات سياسيّة تمييزيّة على أساس جهويّ وفي غياب منوال تنمية عادل اقتصاديّا واجتماعيّا وثقافيّا، تبقى تونس الأعماق غير تونس الساحليّة كما يقول المؤرّخ الهادي التيمومي، وحاجب العيون ليست سوى نموذج لتونس المنسيّة التي حرم سكانها من كلّ ممكنات الحياة.

كغيرها من مدن الهامش التي طرحت من حسابات السّاسة بقيت الأولويّات الاقتصاديّة والاجتماعيّة للقيروان المهمّشة تدور في حلقة معزولة، متفرّقة ومتكرّرة من الحركات الاحتجاجيّة المطلبيّة، تتبنّاها ذوات فاعلة أقلّيّة خاضت معارك سيزيفيّة وكان مصيرها تجاهل السلطة التي وجدت نفسها محصّنة بشرعيّة انتخابيّة شرعنت لـ”السيستام” المواصلة في إباحة التمييز السلبيّ في مجال التنمية إزاء الجهات الداخليّة.

فيما وراء الزربية وجامع عقبة والمقروض سرديّة أخرى تحدّث عنها الهادي التيمومي في كتابه المغيّبون في تاريخ تونس الاجتماعيّ حيث كان يوجد خبز للفقراء وخبز للأغنياء. عنف رمزيّ ومادّيّ ممارس على الأحياء الشعبيّة المعزولة، يعيش متساكنوها على هامش المدينة وعلى هامش الحياة ويمنعون حتّى من الدخول إلى المدينة، شبابها غارق في شمّ التّاكيلا والسيراج والكحول المخلوطة بالسمّ، زطلة وحبوب مخدّرة، والنتيجة هي الارتماء في أحضان اليأس، انتحار، جريمة، هجرة سرّيّة وانتماء للجماعات الجهاديّة، وهذه كلّها تصنّف ضمن التعبيرات الاحتجاجيّة الشبابيّة ضدّ لامبالاة الدّولة.

تقع الحاجب على مسافة رمزيّة وجغرافيّة من المركز، وهو ما يقدّم لنا مفاتيح لفهم أنطولوجيا الهامش بالمقاييس التي يحتكم إليها المجتمع الاستهلاكيّ، فعوامل البطالة والفقر والأمّيّة المتفشّية شكّلت وعي هذا الإنسان الهامشيّ ووجوده. وقد كانت ومازالت علاقته بالمركز منذ الاستقلال قائمة على اللاّإندماج سواء من جهة وجوده في معزل عن مدينة ذات رمزيّة تاريخيّة إسلاميّة تشكو هي نفسها من تهميش، أو من جهة تموقع هذه المدينة الإسلاميّة نفسها حول مخزون سوسيو-بسيكولوجيّ راكم لقرون تمثّلات التّمييز العرقيّ والعنصريّ، لتكون القيروان في متخيّل « البلديّة » نقطة تمركز عرقيّ يشرعن تمثّلات التفوّق لألقاب تتقوقع على خصوصيّة ورمزيّة معالم أثريّة مهملة ومتروكة دون برنامج سياحيّ، والحال أنّ أعماق القيروان تزخر هي الأخرى بتركة أثريّة مهملة، فمسكيلياني (الاسم الرومانيّ لحاجب العيون) غنية بالمعالم الرومانيّة، وقصر « سويسين » وحمّام « سيدي معمّر » والعيون المائيّة في الحاجب، مثلها مثل بقيّة الجهات في أعماق القيروان يفترض أن تكون مسالك سياحيّة تساهم في حلحلة واقع التّهميش. فسيفساء وتماثيل وحمّامات تعود إلى الحقبة الرومانيّة والبيزنطيّة والبونيّة، قصر لمسة والمسرح البيزنطيّ في الوسلاتيّة، مغاور يعود تاريخها إلى العصر الحجريّ بعين جلولة والمدينة الأثريّة بالكبّارة في نصر الله والتي تمّ اكتشافها منذ سنتين، وغيرها العديد من المواقع الأثريّة والأيكولوجيّة المهملة.

هذا بعض مما شكّل مواضيع للاحتجاج الاجتماعيّ على غرار رفض المواطنين في عين جلولة بناء معهد ثانوي على أنقاض منطقة أثريّة. وهذه عيّنة تقيم الدّليل على أنّ مفتاح فهم حقيقة الواقع الاجتماعيّ هو تمثّلات الفاعلين الاجتماعيّين لذواتهم ولواقعهم، فوحدهم دون غيرهم مؤهّلون للوعي بوجود الهامش على حافّة المركز وتحت قبضة طبقة سياسيّة لا ترى فيه سوى خزّان انتخابيّ، وهو ما ينعكس في برودة وتجاهل الخطاب الرسميّ ولامبالاته بمجتمع الهامش.

إنّ ما قاله والي القيروان يدخل في باب المبرّرات التي يقدّمها خطاب السّلطة لتبرير الانسحاب من المسالة الاجتماعيّة، لقد تحدّث عن منطقة مجهولة لا يعرف عنها سوى أنّها « مشهورة » بتعاطي متساكنيها لمادة القوارص، وهذا ليس غريب في « سيستام » يهرب من المواجهة بالاستعانة بثقافة لوم الضحيّة وتجريم الحراك الاجتماعيّ. كعادته يسعى خطاب السّلطة إلى صناعة رأي عامّ غير متعاطف لمزيد شرعنة نبذ الهامشيّين، وهي محاولات بائسة للتغطية على فشل السياسات التنمويّة وانخراطها في لعبة الليبراليّة وارتهانها للبنك الدوليّ.

إنّ ما قاله والي القيروان يدخل في باب المبرّرات التي يقدّمها خطاب السّلطة لتبرير الانسحاب من المسالة الاجتماعيّة، لقد تحدّث عن منطقة مجهولة لا يعرف عنها سوى أنّها « مشهورة » بتعاطي متساكنيها لمادة القوارص، وهذا ليس غريب في « سيستام » يهرب من المواجهة بالاستعانة بثقافة لوم الضحيّة وتجريم الحراك الاجتماعيّ.

تجاهل خطاب الوالي أنّ المؤسّسات الصحية العموميّة التي ترتادها الفئات الهشّة في وضعيّة كارثيّة: تعطّل كلّيّ للمشاريع الصحّيّة في كامل الولاية، تلكّؤ في انجاز المستشفى الجامعيّ، وفي نصرالله وبوحجلة وحفوز تشكو المستشفيات المحلّيّة من نقص في الموارد البشريّة يقابله ايقاف للانتدابات، سوء في  البنية التحتيّة إضافة الى تعطّل إنجاز العديد من الوحدات الصحّيّة الأساسيّة بالمعتمديات ونقص في التجهيزات، عدم تسوية ملفّ الحضائر الجهويّة للصحّة… كلّها أسباب عطّلت إنقاذ أرواح ضحايا « القوارص »، فسيّارة الاسعاف الوحيدة في حاجب العيون لا تعمل نظرا لتعطّل مناظرة السوّاق وعدم وجود انتدابات منذ 5 سنوات.

كلّها عوامل عزّزت ارتباط المعاناة الاجتماعيّة باستبطان الخصاصة والهشاشة الاجتماعيّة والإحساس باللاّمساواة، من هنا تتشكّل هويّة ملتبسة حول الذّات تعمّقها الفوارق الاجتماعيّة وتجعلها تتخبّط في الاستلاب والعبث. أزمة الشباب أعمق بكثير من شرب « القوارص »، فالشرب هو نتيجة إحساس بالعبء على العائلة والمجتمع يزكّيه اللاّإعتراف والوصم الاجتماعيّ، إحساس كفيل بأن يجعل أبناء الحاجب وأمثالهم من مواطني « تونس الاعماق » –كما يسمّيها الهادي التيمومي- مدرجين في خانة الوصم الملصق بسكّان الأرياف، أزمة تعمّق فيهم الشّعور بالحيف والإقصاء وهاجس الخوف من مستقبل مجهول.

رفض آلان تورين Alain Touraine كلّ التحليلات الاجتماعيّة القائمة على مبدأ ثقافي غير اجتماعيّ مثل التحليلات المتعلّقة بحادثة « القوارص » والتي أساسها « ميتاـ اجتماعيّ »(méta-social ) [2] أخلاقويّ لاهوتيّ، وهي تحليلات تتقوقع على التّهميش وتعيد إنتاج النّسق بالإبقاء على أسبابه دون معالجة جذريّة. تقوم سوسيولوجيا الفعل عند تورين على المراهنة على أنّ قوّة الحركات الاجتماعيّة تكمن في قدرة المجتمع على إنتاج ذوات فاعليه الحقيقيّين بما هم جوهر ديناميّة المجتمع في سيرورة الانتقال تاريخيّا من الهويّة الدفاعيّة إلى الهويّة الهجوميّة. فقيمة الحركة الاجتماعيّة، كما حدّدها تورين، تتميّز بقدر من التّنظيم والاستمراريّة بما هما عنصران تسعى من خلالهما الفاعليّة الاجتماعيّة إلى إعادة تشكيل الأنساق الاجتماعيّة من خلال التأثير في الرأي العام والضغط على السياسات نحو التّحرّر من قيود الهيمنة والتّحكّم، وهذا ما يمكن اختباره في التزام الفاعليّة ومسؤوليّتها واعترافها بالآخر وبحقّه في العيش بكرامة.

اتّخذت الحركات الاحتجاجيّة أشكالا متعدّدة على مدار سنوات وكان لها القدرة على الحشد والتّعبئة على الرغم من عفويّتها. استمدّت هذه القدرة على التعبئة فاعليّتها من مشروعيّتها التجريبيّة أي من التعايش « الأمبيريقيّ » مع الواقع كما يسميه دافيد سنو  Snow  David، وهذا ما خلق تناسبا خبراتيّا مع الشعارات المرفوعة. يتحدّث سنو كما العديد من المتخصّصين في الحركات الاجتماعيّة، في هذا السياق، عن خاصّيّة أساسيّة للتّعبئة تتمثّل في المصداقيّة السّرديّة[3] (fidélité narrative) للذّوات الفاعلة في الحراك الاجتماعيّ، أي الدّقة في سرد وقائع التّهميش التاريخيّة منذ الاستعمار، وهذا عامل مهمّ في توسيع دائرة الاحتقان على وسائل التّواصل الاجتماعيّة وإلى مناطق أخرى تشترك في نفس مشاغل الحيف والتّمييز والهشاشة.

جندرة الهامش

غير أنّ ما يلاحظ في الحراك الاجتماعيّ في حاجب العيون وغيرها من مناطق الدّاخل، هو غياب الفاعلات النّساء عن الفضاء العامّ رغم أنّهنّ من يتحملن العبء الأكبر من واقع الهشاشة. وهيمنة الذكور هذه تعكس واقع الحيف المسلّط على النساء في مناطق الهامش، فهن محاصرات بالعنف الاقتصاديّ والرمزيّ من مداخل عدّة، إمّا بسبب تأنيث الفقر، فواقع التهميش يقع بكلّ حمولته عليهنّ وتدفعن كلفته الباهضة باستمرار، وإمّا بسبب التمثّلات الاجتماعيّة للفضاء العامّ وجعله حكرا على الذّكور، فالهيمنة وإعادة إنتاجها ممارسة ملازمة لوجودهنّ، وهي سياقات لا تخرج من دائرة العلاقات السّلطوية التي تنكر على النساء الحقّ في الفضاء العامّ، رغم أنّ الشّهادات التي نقلتها وسائل الإعلام حول الحادث تشير إلى أنّ النّساء كنّ الحلقة الأضعف في حادثة « القوارص » فالخالة « هذبة » الأمّ التي توفّي أبناؤها الثلاثة في الحادث، تقول إنّها كانت تجمع الحلفاء من الجبل لكي تعيل أبناءها وزوجها المقعد، كما أنّ إحدى الأرامل التي توفّي زوجها في نفس الحادث تعاني من الخصاصة في حياة زوجها وقد ترك في كفالتها أبناء قصّرا. وهذه بعض من سرديّات النساء في دوائر الهامش.

إنّ النّساء كنّ الحلقة الأضعف في حادثة « القوارص » فالخالة « هذبة » الأمّ التي توفّي أبناؤها الثلاثة في الحادث، تقول إنّها كانت تجمع الحلفاء من الجبل لكي تعيل أبناءها وزوجها المقعد، كما أنّ إحدى الأرامل التي توفّي زوجها في نفس الحادث تعاني من الخصاصة في حياة زوجها وقد ترك في كفالتها أبناء قصّرا. وهذه بعض من سرديّات النساء في دوائر الهامش.

نحتاج في سياقات التّهميش المتعددة إلى استكشاف المحنة المركّبة لنساء الهامش وتفكيك آليات التّمييز الجندري انطلاقا من فهم التّجارب المركّبة للنّساء. من المهمّ أن نحلّل تقاطع مصادر الهيمنة المسلّطة عليهن، ففي غياب نساء الهامش عن الحراك الاجتماعي اختزال لأدوارهن على هامش الفضاء الخاص، والواقع أنهن مشاركات في أعمال المنزل وفي الفلاحة العائلية بجهد غير خالص الأجر، وخارج المنزل بالعمل الذي يغلب عليه في المناطق المهمّشة الطّابع الغير مهيكل، وكلنا نعلم حجم معاناة النّساء العاملات في القطاعات الهشّة وظروف العمل القاسية وتدنّي الأجور والعدد المريع لحوادث المرور التي تسبب فيها النّقل العشوائيّ للعاملات في الفلاحة وغياب التّغطية الاجتماعيّة… ورغم هذه المعاناة لا يمكنهنّ الاستغناء عن العمل لأنه مصدر إعالة لعائلاتهن التي يعاني أغلب أفرادها من البطالة أو من العمل بشكل متقطع، هؤلاء المنسيات يعملن دون انقطاع على تأمين الأمن الغذائي للدولة. نساء أخريات يعملن في مجال التّجارة الموازية والغير مهيكلة ويتنقّلن في رحلات فردية أو منظّمة، إلى الجزائر مثلا، لجلب البضائع وبيعها في محلاّت خاصّة أو في الأسواق الأسبوعيّة، وأخريات يعملن في صناعة الخبز أو الحلويات أو الخياطة أو الصّناعات الحرفيّة… وهي أنشطة غير مهيكلة ليس لها غطاء قانوني ينظمها ولا دخل مالي قارّ يضمنها. دون نسيان معاناة العاملات وفق قانون المناولة والحضيرة وصاحبات الشّهائد المعطلات عن العمل والمنقطعات قسرا عن التعليم… كل هذه السرديّات تحكي تهميشا متعدّد الأبعاد، تتداخل فيه أنظمة القهر والتّمييز والهيمنة وتتقاطع مع الجندر. إنّ محنة نساء الهامش مركّبة على نحو تُقرَأُ فيه بشكل يقع سرده بطرق متقاطعة، وهي تقاطعيّة نستطيع من خلالها تسليط الضّوء على المصادر المتعدّدة التي تتسلّط عبرها الهيمنة داخل بنى اجتماعية تجعل من النساء الأكثر هشاشة في واقع التهميش. هي محنة يتقاسمنها في تجارب مشتركة مع الرّجال ولكنّهن يعشنها في مستوى مخصوص تنفرد به النساء لتصبح محنة مركّبة، قهر مضاعف، حيف متراكم، متراكب ومتقاطع، عدم عدالة مضاعفة.

ضمن هذا الرأي يعدّ توفير مساحات للنّساء المهمّشات لسرد تجاربهنّ اثراء للحراك الإجتماعي وفق مبدأ المصداقيّة السّرديّة، حيث الذّوات الفاعلة منخرطة في شبكة من العلاقات داخل الديناميكيّة الاجتماعية، وحيث الاستماع إلى معيش النساء والرّجال ضمن هذا الإطار، يساعد على تحليل وفهم المشاكل الاجتماعيّة الدّافعة للاحتقان.

يحتاج الفاعلون الاجتماعيّون إلى فهم البنى الاجتماعيّة المحيطة بهم وتفسيرها، فبعض من فشل التّعامل السياسيّ مع المطالب يزكّيها الضّعف التّنظيميّ لديناميكيّة الحقل الاحتجاجيّ التي يحرّكها فاعلات وفاعلون، وحتّى تكون الديناميكيّة مرئيّة، على الفاعلين أن لا يغفلوا أو يتغافلوا عن الحضور الفعليّ والميدانيّ للفاعلات، وعلى الفاعلات افتكاك مكانهنّ وخلق مساحات تعبيرية لسرد واقع هشاشتهنّ اللامرئيّة. من هذه الزاوية لا يمكن الحديث عن رأسمال واحد لمواجهة الهشاشة بل لابدّ أن تتكاثف رؤوس الأموال كلّها لتتوفّر شروط إمكان المناعة المتمثّلة في أن تعمل بفعاليّة وبإبداع، وقد لاحظنا في واقع الهشاشة الصحّيّة التي أصابت العالم أنّ بعض الدول المتقدّمة التي راهنت على الرأسمال المادّيّ فشلت في مواجهة الجائحة لأنّها أهملت رأس المال الثقافيّ والبشريّ.

وهي صيغة اخرى للقول بأنّ تحديد الآليّات النّاجعة والضّروريّة للفعل ومواجهة الجهة التي تسبّبت في المشكل يشترط الانفتاح على القدرات التي تتوفّر لدى كلّ الأشخاص الفاعلين، فالفاعلات والفاعلون يساهمن/ون في خلق رأسمال ثقافيّ، اجتماعيّ وسياسيّ، تتمّ تعبئته من خلال القدرات التي تتوفّر لدى الأشخاص. وهذا ما يمكنه أن يوسّع حسبدافيد سنو عدد المشاكل التي يغطّيها إطار العمل، فكلّما اتّسع نطاق الحراك الاجتماعيّ، وكلّما تعاظمت القدرة على تعبئة هذا الإطار، توفّرت الشروط هي التي تمكّن من استمرار هذا « البراكسيس ».

إنّ قيمة الذّات الفاعلة كما يحدّدها آلان تورين تكمن في أنّها واحدة وكونيّة من جهة مراكمتها للفعل فيما هو كائن من أجل ما يجب أن يكون تأسيسا للمعنى، هذه هي قيمة البعد الانطولوجيّ للمقاومة لدى طوني نيغري Toni Negri، وهي قيمة يستدعيها اتّساع دائرة التهميش في ظلّ هذه العوامل المغذّية للاحتقان بغياب فرص العمل وغلاء المعيشة والفقر والتهميش. فهؤلاء الفاعلات والفاعلين على اختلافهم الإيديولوجي يلتقون في هدف مصيريّ هو التّغيير في سياق انخراط نضاليّ وميدانيّ وفي مسارات نضاليّة مختلفة وخلق آليّات احتجاج جديدة.

على القوى التقدّميّة أن تُدرج في قراءتها لواقع الهشاشة اليوم دراسات علميّة للظاهرة وفهم دلالاتها المنتجة للمعنى والإحاطة بديناميكيّة الفاعلات والفاعلين المنتجين للمعنى في سياقاتها. وعلى المنظّمات والجمعيّات الحقوقية أن تعمل على تطوير آليات رصد تمكن من استماع تضامني أقرب من هذه القصص المختلفة، ومن ورؤية أشمل لمشاكل الهشاشة ومن تدخّل أفضل في الدّفاع عن الحقوق الانسانيّة للإنسان، ومن تأطير أنجع للحراك الاجتماعيّ، ومن منهج أكثر فعاليّة لتفكيك آليات تقاطع مؤسّسات الهيمنة المتسبّبة في هذا التّهميش في حق مناطق تونس الأعماق.

 

[1]  Paul Ricœur : La mémoire, l’histoire, l’oubli, Seuil 2000, p. 66.

[2] آلان تورين، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، ترجمة جورج سليمان، مراجعة سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى 2011، ص 233 .

[3] Benford Robert D, Snow David A, « Processus de cadrage et mouvements sociaux : présentation et bilan », Politix, 2012/3 (n° 99), p. 217-255.

 

Afficher plus
Bouton retour en haut de la page