محمد الكيلاني « التاريخ المنسي، مذكرات مناضل وطني »

 مقدمة كتاب محمد الكيلاني "التاريخ المنسي، مذكرات مناضل وطني" منشورات "كلمات عابرة" - جمعية "نشاز بدعم من مؤسسة روزا لكسمبرغ.

تمهيد
بقلم فتحي بن الحاج يحي
من علامات هذا الزّمن الذي لا أجد نعتا يليق به، أن يبادر، مثلا، بعض القرّاء من الأجيال الشابة أو الأقل شبابا من غير المهتمين كثيرا بتاريخ النضال السياسي، وليس بالسياسة فحسب، بالبحث في غوغل عن محمد الكيلاني للتعرّف عن صاحب هذا الكتاب الذي سيمثّل، دون ريب، حدثا في مدوّنة الأدب السياسي التونسي وإضافة إلى سردية اليسار، تحديدا.
وحرصا منّي على رفع كلّ التباس فإنّي أنبّه إلى عدم الخلط بين رفيقي « الكي » ومحمد الكيلاني الآخر، المصري الجنسية، والذي ورد تعريفه في غوغل كالآتي: « محمد الكيلاني من مواليد 1983 هو مغني، وممثل مصري ظهر لأول مرة في كليب « أكيد » في مصر، كما شارك هيفاء وهبي وخالد النبوي في مسلسل مريم 2015 ، تزوّج من مي سليم قبل طلاقه منها ».
فرفيقي ليس من مواليد 1983 بل ولد قبل ذلك بقليل… دون دخول في التفاصيل.
وهو ليس بمغنّي، فلطالما هدّدناه في السّجن بأشدّ العقوبات في حالة أن تُسَوِّل له نفسه مجرّد التفكير بالتفوّه بأيّ نغم، ثوريّ كان أم طربي أو ما شابه ذلك.
وهو لم يشارك هيفاء وهبي في أيّ مسلسل أو غير مسلسل، ولا أقولها بلهجة الشّامت بل تلك هي الحقيقة، للأسف. كان فقط مُسَلْسَلا في برج الرّومي صحبة محمد معالي، والمنجي اللّوز، والنّوري بوزيد، وحمة الهمامي، والشريف الفرجاني، وعزالدين الحزقي، محمد الخنيسي، وحميد عيادة، والمنصف بلحسن، وجلبار نقّاش، ونور الدين بن خضر، والصادق بن مهنّي، ورشيد بللونة، وعمران علوان، وعبد الجبار اليوسفي، وعبدكم الحقير وشخصيات أخرى كثيرة لا علاقة لها، مورفولوجيا وإستيتيقيا، بهيفاء وهبي رغم معزّتنا لها وتقديرنا لوقوفها المشرّف جنب السيّد نصر اللّه في حرب الجنوب سنة 2006، وأثَرُ ذلك، على ما يبدو، على مآل الحرب وانتصار الحقّ.
وهو لم يتزوّج من مي سليم بعد قصّة حبّ عنيفة، بل كانت له قصص أخرى لا تقلّ رومانسية، وصدقا، وإثارة، وعقبات لا بدّ منها في قصص الغرام، مع جميلات تارة ومع الشعب طورا، ولم تنته بالطّلاق لكنّه دفع لأجلها الثّمن باهظا. ولشدّة تواضعه، بل تعفّفه أصلا، لم يورد منها في مذكراته هذه شيئا !
على الباحثين في شبكة النات أن يهتدوا، إذن، إلى الشّخص الصّحيح. والـ »كي » كان « صْحيحْ » بالمعنى التونسي الدّارج. كان أقرب في مخيلة الشباب الطلابي الذي عرفه في مطلع السبعينات إلى روبن هود النّازل لتوّه من جبل عبد الرّحمان، حاملا معه قوّة البنية الجسدية، وبراءة الجبليّ غير الملوّث بأهواء المدينة، وصفاء الريفي الذي لا يهادن، وفيه من الحلم، وسعة الصّدر، وقوّة الاحتمال، وتقديس الصداقة… ما يُختزل في تربيجة « الكي ».
خمس سنوات جنبا إلى جنب بين جناح الزنزانات بـ9 أفريل وبعض سجون البلاد نهاية إلى برج الرّومي، أظنّها كافية لمعرفة الشّخص، ظاهرا، وباطنا، ومعدنا. وأنا لست هنا عليه سوى شهيدا.
هذا على الحساب، والآن، وبعد أن قرأنا الكتاب: مسيرة طويلة امتدّت على أكثر من خمسين سنة طوتها صفحات هذا الكتاب المليء إثارة، ومعلومات، وإضاءات، وإشكالات خاصّة. فيه تأكيد وإضافات لما كتبه رفاق له آخرون عن حكاية ترحال اليسار بين محلات سلامة أمن الدولة، وسجون تونس على امتداد تونس الخضراء. وقلم الكي لا يعترف بالتعقيدات، والمتاهات، والدّخول في أزقّة الذّهن واللّغة المفخّمة، فهي كتابة واضحة المعالم، صافية المعاني صفاء شخصية صاحبها في تواضعه عندما يحكي عن ذلك الشاب الذي دخل السياسة من باب إقرأ وربّك الأكرم ليجد نفسه وجها لوجه مع ماركس وإنجلز وهيجل ولينين وصعوبات تهجّي لغة ما كنّا لننفذ إلى معانيها لولا إسراع الرفيق العزيز ماوتسي تونغ ليرحمنا بما تيسّر من التّبسيط حتّى نفهم من الأساسي ما من شأنه أن يشدّ رباطة جأشنا ويمنحنا من القوّة والإيمان ما يشدّ الأزر ويهوّن سنوات السجن الطويلة قبل أن تفتح أمامنا مراتب أخرى في سلم العلم والمعرفة والثقافة.
هذا النّصف الأوّل من الكتاب تقريبا. أمّا الشّطر الثاني، فطرافته أو فرادته أنّه يسرد علينا لأوّل مرّة مسيرة ما تبقّى من اليسار بعد الخروج من السّجن. وأنا لا أعرف كتابات كثيرة تناولت هذه المرحلة، على الأقلّ بتلك التفاصيل ومن مواقع النّضال الأولى. حكاية نشوء حزب العمال الشيوعي التونسي، والعلاقة مع زين العابدين بن علي، والتجاذبات الفكرية الإيديولوجية داخله، وملحمة السرية وحكاياتها، والانشقاق الكبير بين زعيمي اليسار الكي وحمّة، وطبيعة العلاقة بينهما، ونشوء الحزب الاشتراكي اليساري التونسي ألخ.
وأخيرا، أقف عند الجزء المتبقي والأكثر إثارة للجدل وتحفيزا للتفكير وفتحا لنقاش عميق لا يهمّ اليسار فحسب، بل جميع مكونات المشهد السياسي والبلاد بأسرها وهو عندما يتناول محمد الكيلاني الثورة التونسية أو الانتفاضة كما يسميها، ويحسم أمره من الأطروحات السائدة حولها حين يختار النّظر إليها ضمن رؤية جيو ستراتيجية إقليمية وعالمية على وجه العمق الشعبي الأصيل للانتفاضة بقطع النّظر عن التسميات والمسميات وإن كانت ثورة أو تمرّدا أو انتفاضة ودون استبعاد دخول قوى خارجية على الخطّ. ربّما يعزى ذلك إلى حرص رفيقي على مقاومة الشعبوية التي سرت في تربة البلاد من جنوبها إلى شمالها، وربّما تعب من يسراوية وطفولية رفاقه السابقين في حزب العمّال، فلعب مع ماضيه لعبة ليّ الذّراع لتعديل الكفّة، وهي لعمري لعبة خطرة، فطاحت الكفّة على ظلّها أكثر من اللّزوم…
وواللّه، أختي القارئة الكريمة وأخي القارئ الكريم، لن أزيدنّكم كلمة أخرى واحدة سوى: اقرأوا واستمتعوا !
27 أكتوبر 2020
Afficher plus
Bouton retour en haut de la page