مستطاع غزّة ومستطاعنا، بقلم ماهر حنين

جريدة المغرب، 14 نوفمبر 2023

مصدر النص: lemaghreb.tn


1

غزة بالمؤشرات السوسيولوجية مجال حضري فقير كثيف السّكان إلى حّد الاختناق،

اقتصادها ضعيف و نصف قاطنيها أطفال عطّل الاحتلال و الحصار طاقتهم الطبيعية على الحلم، و صادر قدراتهم علي تحويل رغباتهم المشتهاة ككل أطفال الدنيا , الي عالم الخيال , العيش فيها صعب على الكلّ , الحياة في غزة لا تشبه الحياة في أي مكان على وجه الأرض , هي تمدّ كلّ قامتها على ضفاف البحر, و تعيش بين بوابتين , مغلقة على المكان مفتوحة على الوقت

كلّ الدلائل كانت تشير أن موتا بطيئا سكن الغزاويين و الغزاويات، و الأرض خرساء بلا ملح و اللغة لم تعد تجدي نفعا للتواصل بين أهل غزة و العالم، لكن كانت غزة طوال ما يقارب العقدين تقاوم حينا و تتعب حينا , يحتاج مقاتلوها قليلا من الوقت للعلاج و التدرب للمعركة القادمة في صمت , ينام صبايها كتومات صابرات على كلّ شيء , تفتح مساجدها و كنائسها للصلاة و لبقاء الروح على قيد الحياة للقاء الرّب راضية مرضية . الصلاة في غزة مقاومة هي أكثر من تعبّد هي تثبيت للهوية الصامدة في وجه الهوية المستوطنة المدجّجة بالسلاح. دروس المعلمين في المدارس مقاومة، مساعدة قابلة أما على وضع وليدها مقاومة، الأكل والشراب لما يبقي على قيد الحياة مقاومة. لعب الأطفال بالحصي مقاومة.. كلها مقاومات تزيد جنون العدوّ الذي لا يحتمل وجود غيره على أرض فلسطين.

2

رغم كلّ وهنها وتعبها وقسوة تضاريسها لم تترك لنا غزة مرثيتها غاضبة منا، رافضة أن نرثيها نحن بكلام لا يليق بها حين تسلم الروّح، بل ولدت من جديد، من جرحها، من بحرها، من برّها، من سماءها، دون استئذان من أحد. كانت وحدها قادرة على المستحيل، ضربت العدو في مقتل نرجسيته واعتداده بنفسه، هم صبية كبروا فيها ومعها زادهم إيمانهم بالحق هدي والغضب الدفين طاقة، فانفجروا في وجه الظالمين كبركان من قوة صادمة

3

مجتمع غزة الكثيف شدّ العالم، وحمل فلسطين بعيدا حيث لا يتكلم الناس العربية ولا يدينون بدين محمد ولا يقرؤن القرآن ولا تربطهم بالجامع الأقصى أي علاقة رمزية. ثمة حدس مواطني عالمي بأن انتصار غزة فاتحة عودة العدالة للعالم، الحرب عليها غطت على كلّ الحروب الأخرى، وهي اليوم تقاتل من أجل عزّتها وعزّة المضطهدين، من كان يخشي المقاومة فصبرا جميلا وانتم تئنون تحت وخز ضمائركم , أنصتوا الي ضمائركم ولا تكترثون بمن يتهمكم بالتطرف في الحق . ومن كان يؤمن بها فالمقاومة حية لا تموت، تتعب ولا  تموت.

4

غزة جزء من فلسطين وهي كما قال درويش الأكثر جدارة بالحب و جزءا من الأمة و جزءا من عالم المضطهدين نساؤها، رجالها، شباباها و فلاحوها , رعاتها , بحارتها , عمّالها , طلبتها , وتلاميذها و معطلوها عن العمل , حماسها الإسلامية و كلّ فصائل مقاومتها منا وإلينا , قد نختلف مع كتائب القسام غدا في كلّ شيء حول شؤون الدنيا وقضايا الآخرة , ولكننا اليوم نلتقي معها في معركة التحرر الوطني , المقاومة إبداع المقاومين و بنت أهلها هي ضمير الوطن وصورته الروحية الصاعدة . لذلك نقول والحرب لم تضع أوزارها بعد : ما مستطاع غزة ؟ و ما مستطاعنا نحن ؟

5

كلنا نخجل من أنفسنا حين نستمر في الحياة بسطحية عاجزين، نبكي كلّ ساعة بين صورة وصورة مؤلمة موجعة، و أمام وجه طفلة دام. صبّ جيش الاحتلال منتقما على غزة أطنانا من القنابل فاقت حجم الجحيم، لا وقت في غزة للحداد وتقبّل العزاء من فرط سرعة الموت، غابت أمكنة العزاء بين الأنقاض وضاقت المقابر، يدفن الأب ابنه و الأب اباه و الأم فتاها و الطبيب أهله و الصحفي أسرته ويستأنف الرحلة ما دام على قيد الحياة. الكلّ يعلم أنه قد يقتل بعد ساعة ولا بدّ من فعل شيء ما قبل سقوط القذيفة القادمة .

نبصر من بيوتنا نحن عشاق فلسطين المفجوعين، قافلات دواء وغذاء في معبر رفح تنتظر، لم يملك حتي الأمين العام للأمم المتحدة رغم اعتداله القوة القانونية و المعنوية لإد خالها، وهو عجز يدق مسمارا جديدا في نعش النظام العالمي القديم. ربما ننام قليلا بين نشرتي أخبار لنصحو على كابوس جديد، على محرقة أو على فاجعة .

عدّ الشهداء و الجرحى بعد كلّ قصف يؤجج فينا حقدا وغضبا لا نعرف مداه و مآله، ساخطون نحن على عالم لم يعد لنا نحن العرب و نحن المسلمون نحن شعوب المستعمرات القديمة المحرّرة نحن اللاّغربيون نحن المستضعفون والمبعدون من حسابات العولمة اقتصادا وثقافة وسلما وحربا. غزة بيان الحق ساطعا بين ما به نكون نحن وما به يكونون هم. لا فصل بين الدين والدوّلة  حين يتعلق الأمر بإسرائيل ولا بالمساواة بين البشر، ولا بالسلام. تهاوت الأصنام وسقطت الأقنعة. لكننا لا نريد أن نتخلى عن يتوبيا الحرية و العدالة و المساواة مع كلّ أخوتنا في الإنسانية ليس مستقبل العالم في صعود الفاشيات الجديدة في الشرق و الغرب .

6

لن ينسي العدو زلزال 7 أكتوبر لأنه كسر شوكة جيشه بعقيدته وعدته وعتاده، حين أتاه المقاومون من حيث لا يحتسب و كسر شوكته بالمعني الأبعد عن العسكري , 7 أكتوبر هو انتصار صلابة الإرادة وجوديا عن عماء القوة، فالضعيف في صراع الحياة و الوجود ليس ضعيفا، حين يختزن لأجيال وجع الظلم و طاقة ردّ الاعتبار يورثها جيلا بعد جيل، و القوي أوهن من بيت العنكبوت و يمكن إصابته في مقتل .

من صدمه عنف المقاومة وأثر فعلها وتألم بصدق قلبه وهو على حق لصور المدنيين الإسرائيليين قتلي و أسري , عليه أيضا حتي يكون كامل الإنسانية و حفاظا على التوازن مساءلة القتلة على جرائمهم منذ عقود قبل أن يتهم الفلسطينيين بالهمجية و البربرية . فرانتز فانون على حق أيضا حين فهم عنف المظلومين كحدث متداخل يمكنه إزالة مشاعر الإهانة إن العنف المنتقم لدي الشعوب المستعمرة، هو حقها لاستعادة الشعور بالذات التي دمّرها الاستعمار.

لا نستطيع إتهام المقاتل من أجل الحرية بالإرهاب فنساوي بينه وبين الإرهاب الجهادي التكفيري المدمّر و المرفوض غير أن في هذا الإصرار على تقديم حماس كتنظيم معادي لليهود لا كحركة فلسطينية وطنية استرجاع خبيث لدي الغرب لزمن فصامه العنصري الذي يعطي فيه الحق لنفسه في الحرية و ينكرها على غيره . منذ رفضه ثورة عبيد هايتي و حقوق الهنود الحمر و ثورا الجزائر وثورة الإيرانيين المدنية والروحية على الشاه وثورة تونس 2011 قبل انتصارها بساعات وصولا لغزة العنيدة .

7

غزة أعطت ما تستطيع ولا تزال تكابر ولم تهزم، هي صدقا ثكلي وجريحة ولكنها تعرف أنها اليوم مركز العالم الجديد لذلك تملكت من القوة ما لا طاقة لغيرها به. أما نحن فسنترك للدمع حتى ان جف مجري العين طليقا، ولكننا لا بد ان ننبثق من جديد لا خيار. المقاومة سيرا في الشوارع، و شعر ا , و حرفا , ورسما , و صمتا , و سرا , و لحنا , و فكرا , لا يستطيع الواحد منا امتطاء صهوتها وحده , نحن في حاجة الي أ نفسنا العميقة , والي توائم ارواحنا لنحيا , والي الأصدقاء كلهم حيثما كانوا , المعركة ليست معركة عدد بل معركة وقت وأرض . وهي معركة بوصلة لبناء رؤية جديدة تحصننا من الاقتتال الدّاخلي وقد جربنا قسوته وهي معركة تضمن للمقاومة أن تعبر عن نفسها دون وصاية وأن تتخذ الشكل الذي تريد فلا خير في ثقافة ديمقراطية تطأطئ الرأس للغرب غاصبا محتلا ومهمينا ولا خير في مقاومة تكمم الأفواه وتستخف بالحق في التفكير و الإختلاف باسم علو صوت المعركة قداسة الزعيم. الطريق صعبة وعسيرة لكن لا مفر.

8

غزة جسرنا نحو اللاّغياب, غزة حقنا ان نكون ما نريد وما نشتهي وحقنا في الحضور , لا معني لشيء آخر دون غزة , سيغفر الرّب لكل الشعراء و الشاعرات جنونهم يوم القيامة من فرط حبهم لغزة , حين يشق على قلوبهم حيث الروح مغمسة بثرى غزة . و الأنظار تلمح ثرياها نجمة لامعة في السماء .

لا نستطيع ولا نريد ان نشفي من حب غزة ولن نحبّ من لا يحبّ غزة بعد اليوم، فيا عامل المقصلة لا تقطع رأس القصيدة، وأجّل حكمك القاسي بالفناء حتى لا تموت ويموت شاعرها حزينا.. دعه على حافة الحياة حالما بالمستحيل الممكن: النوم قليلاً بعد المعركة عند الغروب في حضن البرتقال فرحا أو متعبا .

غزة هي المعركة الأخيرة قبل الانتصار إن لحظة التغيير آن لها أن تضيء، إنها الثورة يا سادتي الأعزاء لكنها  »الفلسطينية  » هذه المرة، لعل هذه الهوية الفلسطينية للثورة قد غابت عن زخم الانتفاضات العربية بموجتيها الأولي والثانية و آن الأوان أن تمّد هامتها، لا ثورة ممكنة في حياتنا كثوار دون فلسطين، فكيف ننساها ونحن اللذين كبرنا على دبكة فرقة العاشقين، كم جميلة أنت يا فلسطين لأنك قادرة على الشهادة والولادة وعلى نشر إيقاع العشق في كلّ حياتنا. دورنا أن نقاوم الجدار الحديدي لليأس وأن لا نأخذ حكامنا مأخذ الجد، فهم عاجزون عن فعل شيء و عاجزون عن دفعنا للانتحار كمدا .

9

صبرا آل غزة صبرا آل فلسطين النصر على مرمي حجر فكوفيتكم صارت زينة الرجال و النساء في الكوكب كله، نتألم من صمت العالم القديم ومن استخفاف الجيوش و البنوك و الحكومات اليمينية، بالقانون الدولي ولكننا صدقا فلسطين نسمع دقات قلب العالم الوليد فيك وفي بطنك الخضراء يا ولاّدة .

Afficher plus
Bouton retour en haut de la page