لا شيء يبقى للأبد: هكذا سقط الأسد – بقلم ناجح داود

مصدر النص: www.madamasr.com


ما كان ضربًا من ضروب الخيال أصبح الآن واقعًا، وفي عشرة أيام فقط.

الواقع الآن هو أن حكم عائلة الأسد في سوريا انتهى بعد أكثر من خمسة عقود. مكان بشار الأسد، الرئيس السوري السابق، ظل، طوال اليوم، مجهولًا، حتى أفادت وكالة تاس، قبل قليل، نقلًا عن مصادر في الكرملين أن بشار وأفراد عائلته وصلوا إلى موسكو «وتم منحهم حق اللجوء بناء على اعتبارات إنسانية»، وذلك بعدما أشارت  وكالة رويترز، صباح اليوم، إلى احتمال أنه استقل طائرة ليلًا، وأنها اختفت فجأة عن الرادارات.

كيف يمكن لنظام بدا وكأنه انتصر على ثورة وحرب أهلية، بل ومضى في السنوات الأخيرة بحثُا عن فرص لإعادة دمجه في الساحة الدولية أن يشهد انهيارًا سريعًا بهذا الشكل؟

الكثير من التفاصيل لا تزال غامضة، بينما يسيطر على الجميع صدمة ودهشة، إن لم يكن من هذا التغيير التاريخي، فعلى الأقل من سرعته. أمر واحد لا شك فيه: من كانوا يُعتبرون حلفاء أساسيين للنظام السوري توافقوا على أن الوقت قد حان لرحيل الأسد.

بعد السنوات الأولى من تحول حماسة ثورة 2011 إلى حرب أهلية، شهدت سوريا حالة من الجمود بحلول عام 2018، حين أصبحت البلاد مقسمة إلى مناطق نفوذ،  تخضع كل منها لسيطرة عسكرية -وأحيانًا إدارية- لفصائل مختلفة.

لكن هذا الجمود انقلب فجأة رأسًا على عقب. بينما يبدو التغيير -ظاهريًا- مفاجئًا حدث خلال الأيام العشرة الماضية فقط، إلا أن التقدم السريع للفصائل المسلحة من شمال شرقي سوريا إلى قلب دمشق، فجر اليوم، كان يتشكل منذ أشهر. بعيدًا عن الخطط العسكرية أو الشعارات الثورية، ما جرى خلال الأيام الماضية كان نتيجة تقاطع عوامل عدة أدت إلى انهيار التحالف الذي حافظ على نظام الأسد طوال العقد الماضي.

تحدث «مدى مصر» مع مصادر متنوعة داخل سوريا وفي المنطقة لمحاولة فهم كيف تحقق المستحيل، وكيف حدثت آخر العواصف الجيوسياسية في عام حفل بها.

***

دراما الأيام العشرة الماضية كانت قيد الإعداد طوال أشهر ماضية. تمكنت الفصائل المسلحة، والتي كانت في صراع فيما بينها سابقًا، من الاتفاق على هدف واحد: إنهاء حكم عائلة الأسد. استعدت هذه الفصائل وتدربت بانتظار «اللحظة المناسبة». «اللحظة المناسبة» هذه تحمل أبعادًا داخلية وإقليمية ودولية مختلفة.

يمكن العودة بهذه اللحظة إلى ما قبل 14 شهرًا، عندما ضربت عاصفة أخرى المنطقة: في السابع من أكتوبر 2023، فاجأت حركة حماس العالم وهاجمت إسرائيل. ما تلا ذلك كان حرب إبادة على غزة، امتدت ألسنة  نيرانها إلى لبنان، ما استدرج قوى إقليمية كبرى، على رأسها إسرائيل وإيران، إلى صراع أدى إلى تساقط سلسلة من قطع الدومينو، آخرها ما نشهده الآن في سوريا، وسط احتمالات استمرار تأثير هذه التداعيات في منطقة تُصبح أكثر هشاشة كل يوم.

خلال الأشهر الأولى من الحرب، واصل حزب الله إطلاق صواريخ على شمال إسرائيل لتخفيف الضغط عن غزة، وكذلك عن نفسه استجابة للنداءات الشعبية في المنطقة التي طالبت بتدخله. تبادلت إيران وإسرائيل الضربات بشكل مدروس. لكن في سبتمبر، قررت إسرائيل التصعيد على الجبهة اللبنانية. شنّت إسرائيل حملة تدمير واسعة النطاق، استهدفت مناطق جنوب البلاد وشرقها. وتسببت في نزوح أكثر من مليون شخص من الجنوب، معظمهم من الشيعة. تعرضت بيروت لقصف ليلي متكرر حوّل أحيائها الجنوبية إلى أنقاض. واغتالت إسرائيل، الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، وخليفته هاشم صفي الدين، إلى جانب معظم قيادات حزب الله البارزين.

بالنسبة للبنان وحزب الله، كانت الحرب كارثية بلا شك، على الرغم من تمكن مقاتلي الحزب من صد التقدم الإسرائيلي الضاري. لكن مستقبل البلاد يظل غير واضح،  في ظل اتفاق وقف إطلاق نار هش ينذر بالتهاوي في أي لحظة، تهدف بنوده الرئيسية إلى إضعاف الوسيط السياسي والعسكري الأكبر في لبنان.

لكن تأثير الدومينو للمواجهات بين إسرائيل ومحور المقاومة لم ينتهِ بوقف إطلاق النار.

بعض الأنظمة الإقليمية حاولت استغلال رغبة الأسد في تجنب التورط في صراعات جديدة قد تهدم الجهود المضنية التي بذلها للخروج من المأزق الذي أوقع نفسه فيه، وبدأت في التقرب من النظام السوري لإبعاده عما يُعرف بـ«محور المقاومة».

وفقًا لدبلوماسي إقليمي تحدث إلى «مدى مصر»، قدّمت إسرائيل عرضًا للأسد بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، يتضمن مساعدته في تخفيف العقوبات إذا أوقف إمدادات إيران لحزب الله في لبنان.

هذا العرض كان الأخير في سلسلة عروض مشابهة. وكالة رويترز نقلت أن الإمارات، التي عززت علاقاتها مع دمشق خلال العام الماضي، شاركت أيضًا في جهود الضغط هذه، بمباركة من الولايات المتحدة.

ومع ذلك، يقول الدبلوماسي الإقليمي إن الأسد لم يلتزم بالكامل بالعرض «نظرًا لحاجته الواضحة للدعم الإيراني».

لكنها كانت، بالنسبة للأسد، عملية توازن دقيقة. ولم تكن لعبة التوازن تلك كافية في لحظة مفصلية تتطلب من كل طرف تحديد مواقفه بوضوح.

لهذا، وعلى الرغم من أن الأسد غير مستعد بشكل كامل لإغلاق طرق الإمداد التي تمر عبر الأراضي التي يسيطر عليها النظام السوري، فإن ألعابه أثارت غضب إيران التي شعرت بقلق متزايد من أن سوريا ربما تقف وراء بعض التسريبات الاستخباراتية الرئيسية التي أعاقت عمليات المقاومة في الأشهر الأخيرة.

ووفقًا للواء في الجيش السوري تحدث إلى «مدى مصر» مشترطًا عدم الكشف عن هويته، فإن طهران واجهت الأسد في وقت سابق من هذا العام بشأن اعتقادها بأنه كان متساهلًا مع شبكة تجسس متنامية في سوريا. يضيف المصدر أن طهران كانت ترى أن هذه الشبكة سرّبت معلومات استخباراتية حساسة عن حزب الله وكوادره وأسلحته في سوريا.

في البداية، استجاب الأسد لمطالب إيران وبدأ حملة ضد بعض الشخصيات المشتبه بها، وفقًا للمصدر.

وعندما اندلعت الحرب في لبنان، أواخر سبتمبر، قام وزير الخارجية الإيراني، عباس عرقجي، بجولة إقليمية شملت بيروت ثم دمشق والرياض والقاهرة.

وفي دمشق، يقول المصدر العسكري السوري، وجّه وزير الخارجية الإيراني للأسد توبيخًا حادًا بسبب ما اعتبرته طهران فشلًا في حماية مصالحها. وبينما أبدى الأسد تفهمًا واستعدادًا للتعاون خلال الاجتماع، يقول المصدر إنه «عاد ونكث بالوعد»، وأغلق مكاتب لحزب الله في عدة مناطق.

استمرت إسرائيل في تنفيذ سلسلة من الاغتيالات لقادة إيرانيين في سوريا ومسؤولين بارزين في حزب الله يعملون بين البلدين، وقصفت طرق إمداد أساسية بين سوريا ولبنان. يقول مصدر عسكري آخر إن سوريا «تخلت عن إيران»، مشيرًا إلى إغلاق سوريا عدة مكاتب رئيسية مرتبطة بحزب الله، أبرزها  في دمشق وطرطوس واللاذقية، خوفًا من تصعيد الضربات الإسرائيلية على سوريا.

«عند هذه اللحظة، تأكدت طهران أن الأسد يلعب على الحبلين لحماية منصبه»، يقول المصدر العسكري الأول.

لهذا، وبعد التوصل إلى وقف إطلاق النار في لبنان، وجهت إيران أنظارها إلى مشكلتها المتفاقمة في سوريا.

وفقًا لخمسة مصادر -دبلوماسي إيراني في المنطقة، ولواء بالجيش السوري، ومصدر عسكري سوري آخر، ومصدر سياسي سوري، ومصدر سوري دبلوماسي يعمل بشكل وثيق في التنسيق مع روسيا في سوريا- قررت إيران أن الأسد لم يعد حليفًا يمكن الاعتماد عليه، واستبداله بشخص آخر من النظام من شأنه أن يكون أكثر فائدة لمصالحها، مع ضمان بقاء سوريا ضمن محورها للمقاومة.

بحسب المصدر القريب من روسيا والمصدر العسكري الثاني، كانت إيران تجري محادثات مع ضباط علويين موالين لطهران للإطاحة بالأسد في الأسابيع الأخيرة.

كانت هذه بداية النهاية للأسد، لكن بطريقة لم تكن متوقعة.

***

لفهم الانهيار الحالي لنظام الأسد بشكل كامل، من الضروري العودة إلى نشأة التحالف الذي ساهم في دعم هذا النظام وترسيخه على مدار الأعوام.

بدأ هذا التحالف في التشكل أوائل عام 2012، عندما أرسلت إيران وحزب الله مقاتليها لسوريا، في تدخل اتخذ طابعًا أكثر تعقيدًا في السنوات التالية.

قاد قاسم سليماني، القائد الراحل لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، التدخل الإيراني الضاري في سوريا. وكان في طليعة حصار منطقة بابا عمرو ونسّق استعادة القصير، في مايو 2013، بدعم كبير من حزب الله.

تحت إشراف سليماني، تمكّن النظام من استعادة مساحات واسعة من الأراضي من المتمردين.

لكن بحلول عام 2015، تعرض النظام لسلسلة من الهزائم، فقرر سليماني أنه بحاجة إلى تعزيز قواته المقاتلة. الإجابة كانت روسيا.

سافر سليماني شخصيًا إلى موسكو لشرح الوضع المتدهور في سوريا للمسؤولين العسكريين الروس، حيث كان تقدم المتمردين نحو الساحل يشكل تهديدًا لقلب الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد، بالإضافة إلى تهديد القاعدة البحرية الروسية الوحيدة في البحر المتوسط في طرطوس.

كانت الخطة بسيطة: مع زيادة الانتشار الإيراني على الأرض ودعم الطائرات الحربية الروسية، يمكن للنظام قلب خسائره المتسارعة، فيما تضمن روسيا حماية قاعدتها الحيوية في طرطوس.

حتى مع إعلانات التحالف الإيراني-الروسي في هذه السنوات الأولى، كانت مشاركة روسيا محدودة.

«منذ بداية تدخلها عام 2015، قيّدت روسيا مشاركتها بشن غارات جوية عنيفة على مناطق المسلحين، دون أن تتحمل المسؤولية الكاملة عن سوريا. واعتمدت، بدلاً من ذلك، على القوات البرية لحزب الله ومستشاري الحرس الثوري الإيراني، إلى جانب الدعم الدبلوماسي من الإمارات للإبقاء على الأسد في السلطة»، يقول جلال حرشاوي، زميل مساعد في معهد الخدمات الملكية المتحدة في لندن.

ومع ذلك، أحدث الدعم العسكري الإيراني والغطاء الجوي الروسي فرقًا. وبدأت إيران وحزب الله والنظام السوري في تغيير مسار الحرب. بحلول أواخر عام 2015، أحرز النظام تقدمًا كبيرًا في جنوب حلب، واستولى على العديد من معاقل التمرد. وفي أوائل عام 2016، شنّت فرقة المدرعات الرابعة التابعة للجيش السوري، بقيادة ماهر الأسد، هجومًا في ريف حلب، بدعم من هذا التحالف المتنامي، لتنهي حصارًا استمر ثلاث سنوات على نبل والزهراء، وتقطع طرق إمداد رئيسية للمسلحين.

وقع الهجوم على حلب وسط محاولات متكررة للتوصل إلى اتفاقيات وقف إطلاق النار، بدأت بين روسيا والولايات المتحدة، ثم لاحقًا بين تركيا التي تولت تدريب الجيش السوري الحر وربطتها تقارير بدعم جبهة النصرة التابعة للقاعدة، وروسيا، والتي عُقدت في أستانا بكازاخستان.

سمحت هذه الاتفاقيات لجميع الأطراف فعليًا بترسيخ مكاسبها الرئيسية عبر تأسيس «مناطق خفض التصعيد» التي أدارتها شكليًا جهات متعددة، بينما تركت للنظام ثغرات للتوسع التدريجي واستعادة المزيد من الأراضي.

في السنوات التالية، انتقل القتال إلى شمال غرب سوريا في منطقة إدلب. وشهد عام 2020 تطورات بارزة، منها اغتيال قاسم سليماني، الذي شكّل التحالف الداعم للأسد، وتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في إدلب بين تركيا وروسيا.

لكن بعد 2020، لم تعد الحرب تتصدر المشهد السوري. برزت تجارة مخدر الكبتاجون المزدهرة كمصدر دخل كبير للنظام، على الرغم من الغضب الذي أثارته في الدول المتضررة من تدفق هذه المخدرات إليها. وكان النظام السوري يعاني تحت وطأة العقوبات الأمريكية التي حوّلت سوريا إلى دولة منبوذة. وفي ظل ذلك، سعى الأسد إلى استعادة مكانته على الساحة السياسية الإقليمية والدولية.

ركز الأسد جهوده أولًا على العودة إلى جامعة الدول العربية. وبعد سنوات من المناورات الدبلوماسية، شكّل الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا في أوائل 2023، وما نتج عنه من حاجة إلى مساعدات إنسانية، نقطة تحول هامة. كانت السعودية أول من رحب بعودة الأسد، تلا ذلك انفتاح الإمارات التي أرسلت، في يناير 2024، سفيرًا إلى دمشق، لأول مرة، منذ اندلاع الثورة السورية في 2011.

يقول مصدر برلماني سوري لـ«مدى مصر» إن هذه التحركات أثارت استياء إيران، التي شعرت بخيبة أمل من توجه الأسد نحو تعزيز علاقاته الإقليمية. وظهرت شائعات داخل النظام السوري، منذ 2021، بأن حقبة النفوذ الإيراني الكبير قد ولّت، وأن الحرب انتهت وبدأت مرحلة جديدة في سوريا.

***

حافظت تركيا طوال السنوات الماضية على وجود كبير في سوريا، سواء من خلال التمويل المباشر أو بتوفير شبكة واسعة من الميليشيات. في مقدمة هذه الشبكة يأتي الجيش الوطني السوري، الذي يضم مجموعات ووحدات محلية من محافظات دمشق وحمص ودرعا. بعض هذه الفصائل داخل الجيش الوطني متحالفة بالكامل مع تركيا، مثل فرقة السلطان سليمان شاه، وفرقة الحمزة، وفرقة السلطان مراد، في حين أن فصائل أخرى، مثل الجبهة الشامية، وجيش الإسلام، وأحرار الشام، تسعى إلى تحقيق توازن بين مصالحها وعلاقاتها مع أنقرة.

حافظت أنقرة كذلك على علاقات وثيقة مع هيئة تحرير الشام، وهي مظلة تضم عددًا من المسلحين الإسلاميين تشكّلت عام 2017، وشملت جبهة النصرة التي كانت تابعة تنظيم القاعدة. يتزعم الهيئة أبو محمد الجولاني، القائد السابق لجبهة النصرة، إلا أن هذه العلاقات ظلت معقدة.

المصالح التركية واضحة. لأسباب سياسية داخلية، كانت تركيا تسعى أيضًا إلى إيجاد حل لملايين اللاجئين السوريين الذين تستضيفهم حاليًا، ولا تستطيع أنقرة كذلك قبول وجود كردي، خاصة إذا كان مسلحًا مثل ذلك المدعوم من الولايات المتحدة، على طول حدودها مع سوريا.

يقول مصدر سياسي تركي لـ«مدى مصر» إن أردوغان حاول احتواء الوجود الكردي في أحياء حلب والمناطق المحيطة بها، مثل مدينة عفرين.

في تحليلها للتدخل التركي في سوريا عام 2020، كتبت عالمة الاجتماع سينم أدار أن ملامح جهود تركيا في حلب اتخذت شكل «بناء الدولة».

«تشبه الممارسات الديموجرافية والإدارية والعسكرية التركية في المناطق التي خضعت لسيطرة تركيا والجيش الوطني السوري خلال التدخلات العسكرية التركية في 2016 و2018 و2019 المراحل الأولى لتشكيل الدولة. تشمل هذه المناطق شمال محافظة حلب، ومقاطعة عفرين، والمنطقة الواقعة شرق نهر الفرات بين تل أبيض ورأس العين»، طبقًا لها، مضيفة أن «ما يثير الدهشة وغالبًا ما يُغفل عنه في النقاش حول الوجود التركي في شمال سوريا هو أن الممارسات الإدارية والعسكرية لأنقرة في سوريا تخلق مستفيدين سياسيين واقتصاديين داخل تركيا، كما تمكن حزب العدالة والتنمية الحاكم من قمع التمثيل السياسي الكردي وتقليص الحقوق المدنية والسياسية محليًا».

لكن ذلك لم يكن كافيًا لأن الوضع يتطلب حلًا سياسيًا أكبر. لهذا «أجرى أردوغان قبل عام مباحثات مع الجانبين الروسي والسوري لضم مدينة حلب ضمن جهود الإحياء الاقتصادي والاجتماعي والعمراني»، يقول مصدر سياسي تركي لـ«مدى مصر»، «في خطوة تهدف لجذب مئات الآلاف من اللاجئين السوريين، وهي الفكرة التي يراها أردوغان مهمة ليتخلص من ثلاثة ملايين لاجئ سوري لديه عبر نقلهم بأمان إلى حلب وحماه دون تعرضهم لأي أذى من قبل النظام السوري. ولذا حين تكون حلب تحت سيطرة الأتراك ستكون عملية الانتقال أضمن بكثير».

من جانبها، كانت روسيا تحاول تحقيق تقارب بين تركيا وسوريا بعد سنوات من القطيعة الدبلوماسية.

وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف صرح لصحيفة حرييت التركية، في أوائل نوفمبر الماضي، أن «تطبيع العلاقات التركية-السورية مهم جدًا لتحقيق الاستقرار المستدام في سوريا والأمن الإقليمي في الشرق الأوسط». وأضاف أن روسيا تبذل جهودًا مستمرة لحل النزاعات بين أنقرة ودمشق، مشيرًا إلى أن القضية نوقشت مع نظراء أتراك وإيرانيين خلال اجتماع مسار أستانا في نيويورك، سبتمبر الماضي.

وبينما كانت هذه المحادثات تجري، كانت تركيا تستعد للطريقة التي يمكن أن تمارس بها الضغط على نظام الأسد وتحقيق مزيد من المكاسب في المفاوضات الدبلوماسية، وهي خطط كانت روسيا على دراية بها إلى حد ما، وفقًا للمصدر الدبلوماسي السوري الذي يعمل مع الدبلوماسيين الروس.

هنا جاء دور التحضيرات المستمرة من قبل الفصائل المسلحة المختلفة، لا سيّما هيئة تحرير الشام.

وفقًا لمصدر سوري معارض في تركيا، فإن الهجوم الذي أطاح في نهاية المطاف بالأسد كان من المقرر أن يبدأ في منتصف أكتوبر خلال حرب لبنان، لكن تركيا ضغطت لتعليق الهجوم في محاولة أخيرة لإعطاء الأسد فرصة للتفاوض. لكن الأسد رفض.

***

عندما وصلت أنباء التوجه الإيراني لاستبدال الأسد إلى الأطراف المختلفة، أصبحت اللحظة حاسمة: الآن أو لن يحدث أبدًا. في النهاية، منحت تركيا الضوء الأخضر للفصائل المسلحة لبدء هجومها. يقول المصدر السوري المعارض إن تركيا أوقفت ضغوطها على هيئة تحرير الشام، ما سمح ببدء الهجوم.

في 27 نوفمبر، وضعت هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري والقوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة خلافاتها جانبًا، وأطلقت هجومًا عسكريًا متزامنًا ضد مواقع خاضعة لسيطرة النظام السوري وإيران. (لكن هذا لا يعني أنهم شكلوا تحالفًا، فتركيا لا يمكنها تحت أي ظرف قبول وجود قوة كردية مسلحة، وهو ما تبين بعد أيام قليلة من الهجوم، حين هاجمت الفصائل المدعومة من تركيا أيضًا القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة).

ورغم ذلك، فوجئ الجميع بالسرعة التي انهارت بها قوات الحكومة السورية وتقدم الفصائل المسلحة.

بالنسبة لإيران، سادت حالة من الذعر. كانت طهران تخطط لاستبدال الأسد، لكنها لم تكن تتوقع انهيار نظامه بالكامل.

ومع تقدم هيئة تحرير الشام والمخططات التركية لتوسيع سيطرتها، أصبحت إيران الآن في موقف ترى فيها مخططاتها للتوغل في سوريا تنهار بسرعة وتضطر لتسريع خطواتها حتى لا تخسر موطئ قدمها كاملًا في سوريا.

يقول مصدر إيراني لـ«مدى مصر» إن طهران اتخذت كل الإجراءات اللازمة لزيادة عدد مستشاريها العسكريين في سوريا وإرسال قوات إضافية.

عائلات ثلاثة من مقاتلي حزب الله قالوا لـ«مدى مصر» إن الحزب أرسل نحو ألف مقاتل من بيروت والبقاع وجنوب لبنان إلى سوريا، منذ حوالي ثلاثة أيام لمحاولة وقف تقدم المتمردين.

وأضافت المصادر أن عشرات من مقاتلي حزب الله تم إرسالهم إلى حمص لتركيز انتشارهم هناك، مشيرة إلى أن الحشد الشعبي العراقي يتواجد كذلك في حمص في محاولة لتعزيز ما وصفوه بـ«الجيش السوري غير الكفء».

لكن وتيرة الأحداث كانت أكبر من محاولات في اللحظات الأخيرة. قال مصدر في الأمن العام اللبناني لـ«مدى مصر»، اليوم، إن حزب الله سحب حوالي 2000 من مقاتليه من سوريا قبل سقوط دمشق، وعادوا إلى لبنان عبر معبر المصنع الحدودي.

أما حسابات روسيا، فكانت مختلفة. يرى المحلل في مجلس الشؤون الدولية الروسي، كيريل سيمينوف إنه «إذا كانت إيران غير قادرة أو لا ترغب في إنقاذ الأسد وإرسال قواتها أو الميليشات العراقية إلى هناك، فإن روسيا بالتأكيد لن تفعل ذلك بمفردها».

حتى تلك اللحظة، وعلى الرغم من مصالحها الكبيرة في سوريا واستثماراتها في نظام الأسد، بقيت روسيا متحفظة، واكتفت بالتصريح عقب سقوط حلب بأنها «تؤيد قيام السلطات السورية بإعادة النظام إلى المنطقة واستعادة النظام الدستوري في أقرب وقت ممكن».

مصدر قريب من دائرة الرئيس التركي أوضح لـ«مدى مصر» أن هناك تعاونًا بين روسيا وتركيا للحفاظ على مصالحهما الاستراتيجية داخل سوريا، ولكن هذا التعاون يتضمن تضاربًا في المصالح. يضيف المصدر أن تركيا تشعر بالثقة أنها ستكون لها اليد العليا في علاقاتها مع روسيا عند الحديث عن مستقبل سوريا، بحكم علاقاتها مع واشنطن.

ويتفق حرشاوي أنه، رغم تقارب البلدين، فذلك لا يعني بالضرورة وجود أية وعود تركية بالحفاظ على المصالح الروسية.

«على عكس باقي أعضاء الناتو، حافظت تركيا على تواصل يومي وثيق مع موسكو. ومع ذلك، فإن التواصل والتنسيق المتكرر لا يجعل تركيا حليفًا لروسيا أو حاميًا لمصالحها. هذه المرة، في سوريا، رأت تركيا فرصة واغتنمتها لتعزيز مصالحها الوطنية على حساب روسيا. حاليًا، ورغم أن تركيا لا تضغط على روسيا للتخلي عن أهم قواعدها في سوريا، إلا أنه لا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت روسيا ستتمكن من الحفاظ عليها. وإذا تنازلت روسيا، فإن تركيا لن تشعر بالقلق حيال ذلك»، يقول حرشاوي.

يضيف سيمينوف أنه «لم يُتخذ أي قرار بالتخلي عن مصالح روسيا»، مضيفًا أن روسيا، ببساطة، لا يمكنها القتال بدلًا من الأسد. روسيا لا يزال لديها قاعدتين عسكريتين في سوريا، لكن لم يُتخذ قرار بشأنهما بعد.

حتى قبل يومين، كان العديد من اللاعبين الإقليميين يعلقون آمالًا على حل سياسي. مصدر تركي في حزب العدالة والتنمية قال لـ«مدى مصر»، مساء الجمعة، إن تركيا استمرت في محاولة دفعها الحكومة السورية، والتي لم يتبق لها سوى العاصمة دمشق ومنطقة الساحل، للتفاوض مع المعارضة.

كما عقد وزراء خارجية إيران وروسيا وتركيا اجتماعًا طارئًا في الدوحة، أمس، لمناقشة مستقبل سوريا.

في الأثناء، كانت إسرائيل والولايات المتحدة تراقبان الوضع بشكل رئيسي، وفي النهاية، كان انهيار نظام الأسد أكبر الضربات المتتالية لإيران. تحركت إسرائيل لاحتلال المنطقة العازلة على حدودها مع سوريا، وشنّت سلسلة من الغارات الجوية لضمان عدم وقوع الأسلحة الكيميائية أو أي أسلحة استراتيجية في يد الفصائل المسلحة.

يقول سيمينوف إن الانهيار على جبهة حلب «كان مفاجئًا للجميع، لروسيا وتركيا»، مضيفًا أنه «بطبيعة الحال، ومع تقدم المتمردين، أصبح من الواضح أن جيش الأسد لن يتمكن من حماية نظامه، مما أدى إلى انهيار كامل».

هكذا تخلّت مختلف الأطراف عن الأسد خلال الأيام العشرة الماضية. انهار جيشه، واجتاحت الفصائل المسلحة مختلف المدن السورية، لتطلق سراح الآلاف من المعتقلين في سجون الأسد، في مشاهد اكتسبت تعاطف الملايين داخل سوريا وخارجها. وفي منتصف الليل، اختفى الأسد. في عشرة أيام فقط، ما اعتبره الجميع مستحيلًا وقع بالفعل. أخيرًا تحررت سوريا من عائلة الأسد.

Afficher plus
Bouton retour en haut de la page