الدولة والهوية والنسب وأشياء أخرى

بقلم سامي البرقاويى

الكلمة التي ألقاها الباجي قايد السبسي، يوم تسليم مهام رئيس الحكومة الى حمادي الجبالي، شد انتباهي بقوّة تأكيده على أن الحكومات تتعاقب والسياسات تختلف من عهد لآخر ولكن الدولة دائمة ومتواصلة وذلك سر نجاح تونس وثورتها. فهم الأغلب ذلك على أنها ملاحظة من رجل كان يتمنى أن يبقى أكثر في منصبه وربما هناك شيء منه. ولكن الحادثة ذكرتني شخصيّا ومباشرة بكتاب تاريخي محتقر من طرف مؤرخي الجيل السابق لنا، المؤنس في تاريخ تونس، الذي أصدره ابن أبي دينار آخر القرن 17.

 كان الكتاب محتقرا لكثرة أخطائه اللغوية ومستواه العام الضعيف ولنقله بدون ابتكار عمن سبقه من المؤرخين. لم يكن له من فائدة حسب رأيهم سوى أنه في آخره احتوى معلومات حول أحداث القرنين 16 و17 لم تذكر قبله. ولكن المؤنس أيضا كان أول كتاب يؤرخ، في مصَنَّف واحد، لتاريخ افريقية، أي تقريبا تونس اليوم، من دخول المسلمين إليها إلى عهده، مسطرا بذلك إطارا تاريخيا وزمنيا لم يسبقه إليه أحد. فالمؤرخون قبله، في أغلبهم، يقتصرون على تاريخ الدول – أي العائلات المالكة – أو الفترة التي يعيشونها. وفي بعض الحالات المميزة، كحالة ابن خلدون، يكتبون تاريخ العالم من بدء الخليقة. وفي أغلب كتب هؤلاء لا تجد شيئا عن تاريخ ما قبل الإسلام، بينما كان ابن أبي دينار ممجّدا لتونس في العهد القديم، مفتخرا بحناياها العجيبة وبعاداتها الفريدة بين الأمم، وان لم يكن لديه الكثير من الوقائع التاريخية. ولا تحوز الفترة العثمانية عنده، وهي التي كان يعيش في ظلها، أكثر من ثلث الكتاب. طبعا، يمجّد ابن ابي دينار باي عصره، بل كان من أنصاره ضدّ أخيه، ولذلك ظنّ المتسرعون من المؤرخين أنه ليس إلاّ واحدا من جيش الانتهازيين المتملّقين.  في الواقع، وبطريقته تلك في رسم الاطار الزمنيّ والجغرافيّ لافريقية، يقول ابن أبي دينار لأهل عصره وللباي نفسه، أنّ الدول تتعاقب، والاشخاص يتداولون على السلطة، ولكن افريقية باقية دائمة، بثقافتها الخاصة، وعاداتها المميزة، وأمجادها التاريخية، من قبل الإسلام ومن قبل العثمانيين ومن قبل البايات المراديين أصحاب السلطة آنذاك.

كان الباجي إذا يحيي من جديد  فكرة وفاء تونس لنفسها، لهوية لطالما أكدها البورقيبيون،  هوية تونسية قبل كل شيء. يعتبر هؤلاء تونس بربرية وقرطاجية ورومانية ومغاربية وعربية واسلامية ومتوسطية وأشياء أخرى في نفس الوقت، تتعايش بلا نزاع. ربما ما يقولونه حقا، هو أن تونس لا تقلقها مشكلة الهوية و يتقبلون طبيعتها الهجينة بدون إشكال. بدا وكأنّ قايد السبسي يذكر الجبالي بان لا فائدة في اتباع سياسة مبنية على الإيديولوجيا والهوية، إذ تونس لا تهتم بذلك،لأسباب متعددة ولا شك، منها أن ذاكرة أبنائها لا تنسى أن للتونسيّين أصولا مختلفة ومتنوعة. ربما لهذا السبب، عرّج قايد السبسي على أن نكران الأصل يعتبر من الوضاعة. لم ير في ذلك أغلب المحلّلين إلاّ نوعا من الاستهزاء بوزير حاضر آنذاك  غيّر لقبه لصعوبة تقبله اجتماعيا (وهو أمر يمكن تفهّمه ومارسه بورقيبة على نطاق واسع من باب سياسة “تهذيب الأسماء”)، في حين ان الباجي حافظ على لقب يذكر بماضي أسرته الخادمة لشخص البايات وفي وظيفة لا يمكن أن نعتبرها من الوظائف المجيدة وهي محصورة فقط في المماليك، وهو ما قد يفسر استطراده الغريب حول الموضوع.  نعم، كان الباجي يذكر بأنه كتونسي – بل هو محسوب على “البلدية” –  لا ينكر انحداره من مملوك في خدمة البايات، إذ تونس هجينة، وسُلّمها الاجتماعي مفتوح دائما وللجميع، ويتداول فيها على الحكم أهل تونس أحيانا ثم أهل الساحل وربما جاء الآن دور أهل الجنوب. ولكنها دوما تتمسّك بمؤسسة الدولة الدائمة عبر العصور وترفض مبدأ الأصول والهويات في بناء شرعية الدولة.

في هذا الظرف بالذات، وكنت ابحث عن بعض المعلومات لمعرفة أدق لسلفيي تونس، إذ صادفت ترجمة لأحد وجوههم بل ربما أشهرهم، وهو ينتمي إلى تيار الجهاديّين ونعت انه من غلاة التكفيريّين. وتعطي الترجمة اسمه بداية من كنيته – وهو رجوع إلى ممارسة تخلى عنها علماء الدين عندنا منذ أكثر من قرن –  مرورا بأسماء آبائه وأجداده اسما اسما إلى جدّه الولي الصالح المستقر بقرية من ولاية سيدي بوزيد سمّيت باسمه. وهو بدوره يدعي انه من سلالة الادارسة من الحَسنيّين أي المنحدرين من الحسن ابن علي وفاطمة. هناك طبعا بعض السخرية الإلهية أن ينحدر السلفي الوهابي، المكفّر للمؤمنين ببركة الأولياء،  من سلالة وليّ، ولكن ما أريد تبيانه انه قبل قرن ونيف، كان يُنعت أمثاله بالشرفاء –أي المنتمين إلى سلالة الرسول عبر فاطمة وعلي – وكان لهم اعتبار اجتماعي في المدن والأرياف. غير أن الترجمة تذهب أكثر من ذلك، إذ تقدّم الرجل على أنه من نفس السلالة وملوك المغرب بل هو اختار أن يكون اسمه المتداول “الإدريسي” وبه يُبحث الآن عنه في الانترنت. في المغرب، تستند شرعية الملك منذ القرن السادس عشر على مزاعم الإنتماء للشرفاء الأدارسة ولم ينجح أحد في فرض شرعية مختلفة. عكس ذلك لم يكن لهذه الفئة كبير اعتبار سياسي في تونس عبر كل تاريخها. كان الحكام هنا من المماليك وأحفادهم منذ القرن السادس عشر : المراديّون ينحدرون من مملوك من جزيرة قرصيكا البائسة، انتقل إلى الإسلام وسمي مرادا، والحسينيون من بعدهم وهم أيضا أبناء مملوك من جزيرة كريت الأشدّ بؤسا. ولم يكن بورقيبة ذي الاصل الطرابلسي المغمور ولا بن علي بدوره يتباهيان بأصل عريق في الشرف أو لا حتى الوجاهة. وكذلك المرزوقي أو الجبالي اليوم لا أحد يبحث أو يبالي إن كانوا من عائلات “مجيدة”. في تونس، لا يعتبر التباهي بالأصول، وان كان موجودا اجتماعيا، معطى مؤهلا بذاته لتبوء دور سياسي، بل إن فقدان الأصول العريقة هو بالضبط ما ميّز حكامنا منذ قرون. الفرق بيننا وبين المغرب يُفهم بلا شك بتطورات تاريخية، إذ كان حكامنا من مماليك الدولة العثمانية ولا شرعية لهم، خاصة في بداياتهم، إلا تلك التي يستمدونها من السلطان. ذلك السلطان الذي لا يمكنه بدوره أن يدّعي الإنتماء لسلالة الرسول، بما انه كان في نفس الوقت يضع في الواجهة ألقابه و انتماءه التركيين، إذ بنى امبراطوريته على تلك العصبية التركية قبل كلّ شيء. الشرعية التي بناها حكامنا محلّيا، لا يمكن لها أن تدّعي العراقة إذا ولكن يمكنها الاعتماد على رضا الأهالي وسندهم، أو كما يقال آنذاك، مبايعتهم. كان حسين بن علي وسلالته يتباهون بأنه لم يفتك الحكم بل ولم يطلبه، وإنما أذعن للطلب الملحّ للأهالي ثم مبايعتهم له. ويقدّم ابن أبي الضياف ذلك كأنه نوع من الانتخاب.

ولما بلغت المنهزمة إلى الحاضرة، جزع أهلها، وخافوا هجوم العدو عليهم، وهم فوضى بلا أمير يجمع عصابتهم، ويدافع بهم عنهم. فتفاوضوا في هذا الامر الواجب شرعا وعقلا، وهو البيعة لإمام، واتفق أهل الحل والعقد من العلماء وأكابر الجند ووجوه الحاضرة على المبايعة لحسين بن علي، لما يعلمون من حميد خلاله وحزمه… فخرج إليه أهل الحل والعقد وكثير من أهل الحاضرة، وطلبوا منه قبول بيعتهم وجمع كلمتهم، فامتنع مصرّا على عدم القبول. فقال له العلماء يجب عليك القبول لاسيما والحالة هذه، فأجاب دعوتهم ودخل معهم الحاضرة لقبول البيعة… فبويع باتفاق الملأ وأُعين عليها إذ لم يطلبها…                                                                          

 إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان،أحمد ابن أبي الضياف  ج 2، ص. 86-87

 الملفت للنظر إذا أن يسترجع هذا السلفيّ دعوى الانتماء لآل البيت، ذلك الادعاء الذي خفت كثيرا في تونس حتى أن شبابنا لم يعد يعرف معنى كلمة “أشراف” بتاتا، وإن بقي نوع من تمجيد ذلك لدى بعض العائلات، فقد أصبح إلى الطقس السرّيّ أقرب. فمن عجائب هذا الظرف الذي نعيشه تنامي مفارقات تبدو مستحيلة: ذلك الشعب الذي صنع الثورة، القائم ضد التمييز على أساس القرابة أو الجهات، كيف يمكنه أن ينتج أيضا وفي نفس الوقت، دعاوي لها أنصارها ومؤيدوها – من غير علية القوم – مبنية على التمايز القرابيّ ؟ كيف يمكن أن تنمو مطالب المساواة والديمقراطية، أي الحكم للجميع وتنمو أيضا في نفس الساحة ادعاءات حصر الحكم في بني هاشم أو قريش؟ كيف نفهم  ما ورد في “الدستور الصغير” من تنصيص على حرمان غير المسلم من التونسيين من التقدم لمنصب رئاسة الجمهورية، ولماذا كان الاتفاق شبه كامل على إنّ تونس لغتها العربية ودينها الإسلام مع إسقاط أبعاد أخرى من هويتها، في حين أن الثورة قامت لتسوّي بين المواطنين، أي لينسى الجميع أنهم ينحدرون من أمازيغ ويهود ومسلمين وعرب وترك ووندال ووثنيين وإغريق وأنواعا مختلفة من السود  والقائمة لا حدّ لها ؟

يحلو لي إذا أن أرى في كلمات الباجي تأكيدا على أن الدولة تأتي قبل الحكام والأشخاص، و أن الأمر لم يكن مجرّد تذكير بقدر ما هو دفاع عن موقف أمام ما يعتبره أخطارا قد تهدد مكسبا ثقافيا ومؤسساتيا شُيِّد عبر التاريخ، ولعلّها أيضا محاولة في قطع الطريق على رؤية قد تحمل في طياتها خطر الإمساك بالتاريخ في منتصف مساره، أو دون ذلك، وتقليص جغرافيا التاريخ إلى القيروان.  الدولة هي الأولى، والحكام، منذ قرون، مارّون والهوية سراب والويل لمن ينسى ذلك.

تعقيب فتحي بن حاج يحيى

على إنّه هناك قراءة أخرى ممكنة لما ورد في كلام قايد السبسي من إيحاءات لئن لا تنفي ما أتاه نصّ سامي من استنتاجات وجيهة جدّا من حيث الآفاق التي فتحها وبنية النص المتمثلة في مسك خيط رفيع من الحاضر للوصول به إلى “كبّة” (لفّة) الماضي والتاريخ، فهي تسائل (هذه القراءة) مدى قدرة الباجي على تحمل ما لا يطاق من راديكالية الموقف في قضية الهوية واستحضار تاريخ تونس بما يدعو لتأسيس إحدى أهمّ المعاني من هزّة 14 جانفي ألا وهو بناء الذّات الجماعية بمواد الحاضر والماضي دون استعمال الإيديولوجيا لفرز هذه المادّة أو تلك وإسقاط لبنة والاحتفاظ بأخرى بما يوفّر راحة الضمير في بناء ذات عربية مسلمة نقيّة من الشّوائب والتخلّص من عقدة الانتماء إلى منطقة مغاربية نُظر إليه دوما من قبل الشرق كـ”جناح” أو كفضاء هجين يقع خارج قلب العروبة النّابض وبعيدا عن مركز ثقل الإسلام وكأنّ في الأمر عودة لاستكمال أسلمة لم تبلغ أغراضها في هذه الرّبوع، واستلام مشعل من عقبة لإنجاز ما وعد.

ربّما يكون سي الباجي عبّر بطريقته الإنجليزية في التهكّم المترجم إلى دارجة تونسية تصيب حينا وتخطئ أحيانا عن امتعاضه من رؤية الرّعاع يقتحمون القصر للمسك بمقاليد الحكم وهم فقراء التقاليد فذكّرهم بأنّ للحكم أصوله ولهذه البلاد حكايتها الطويلة مع الزّمن وأنّ للتاريخ عظاته فاقرؤوه يغنيكم اللّه، وأنّ للمصطلحات دلالاتها وفروقها كالفرق بين الثورة والغزوة، وبين الدّستور والشريعة، وبين المرأة والأمَة ألخ…

هي إذن أقرب إلى نصائح بلْدي حنكته الأيّام والنّوائب ويرى الحكم يخرج من بين أيادي من لا ناقة لهم ولا جمل في شؤون الدّولة ولا في فهم من تكون تونس أصلا وفصلا فلا هي مؤهلة لأن تكون إمارة إسلامة، ولا هي بالمستعمر الأوروبية المطلوب تحريرها وإنّما هي تونس و بَسْ، الأصيلة في هجانتها، المتمركزة في توسّطها، المتجانسة في اختلاط الأصول والأعراق فيها إلى درجة يصعب معها منحها بطاقة تعريف مبسطة : بلد لغته العربية ودينه الإسلام !

Afficher plus
Bouton retour en haut de la page