هل يمثّل قيس سعيّد قطيعة مع ماتريكس الهيمنة؟
شمس رضواني عابدي
يتداول الجميع، مقولة، أو قولة، أو بيتا شعريّا، للصغيّر ولاد حمد يقول فيه: إن كنت شعبا عظيما، فصوّت لنفسك في اللّحظة الحاسمة. مرّت هذه الجملة أمامي عشرات المرّات، ربّما مئات المرّات، و في كلّ مرّة وجدتني أبحث في نفسي عن معنى للحسم، ذلك الحسم الّذي عهدته في نفسي عندما كنت في الاتّحاد العامّ لطلبة تونس، ذلك الحسم الّذي عهدته في نفسي عندما كنت في اتّحاد الشّباب الماركسي اللّينيني، ذلك الحسم الّذي قاطعت به انتخابات المجلس التّأسيسي في 2011، واصفة إيّاها بالمسرحيّة و المهزلة، واضعة نفسي في صفوف الـ « WOKE » من شيوعيّين و أناركيّين.
تأتي انتخابات 2019، و بالأخصّ رئاسيّات 2019، تحديدا في الدّور الثّاني، لتطالبني بنفس ذلك الحسم، لتطالبني بالتّصويت إلى قيس سعيّد، و هو ما كنت سأفعله، لولا بروز مشكل بسيط، و هو أنّ اللّحظة لم تكن حاسمة.
لست مهووسة بالانتخابات، و لا بطابعها الـمروّع، و لا بطابع نتائجها الجَبري. لست مولعة بالهرع باكرا إلى مكاتب الإقتراع أيّام الأحد. فالانتخابات في ذهني، منذ 2014، قد سقطت عنها صفة الأهميّة المتأصّلة، و التصقت بها صفة الأهميّة المكتسبة و التحفت تجربتي معها بسؤال دائم التّجدّد: ما هي الانتخابات؟ و ما هو دورها التّاريخي؟
قبل تطرّقنا إلى إلى ظاهرة قيس سعيّد، و إلى ظاهرة عدم هرولة البعض منّا للتّصويت له في الدّور الثّاني من رئاسيّات 2019، علينا أوّلا أن نفهم كيف ينظر البعض منّا إلى الإنتخابات كلحظة تاريخيّة، كحدث، هدفه المباشر تعليب التّاريخ الحديث للدّول. ما نعنيه بالدّور التّعليبي للإنتخابات هو اعتبار هذه الأخيرة كوسيلة لغويّة و براغماتيّة تسمح لنا في دراستنا للتّاريخ بتقسيمه إلى علب، أو أجزاء، جزء ما قبل الانتخابات و جزء ما بعد الانتخابات، و كأنّ الانتخابات تنبئ قطعا بزمن جديد، و كأنّ التّاريخ قد تجمّد و بقي ينتظر النّتائج، و كأنّه خطيّ، طوليّ، واضح الوجهة و الملامح، و ليس بديناميكيّ، متحرّك، و فوضوي في بعض الأحيان. و لئن دلّ هذا الدّور التّعليبي على شيء، فإنّه يدلّ على أنّ أهميّة الانتخابات، أو أهميّة الفعل الانتخابي، هي ذات صفة مكتسبة لا ذات صفة متأصّلة. أي أنّ الفعل الانتخابي، باعتباره فعلا سياسيّا، ليس مهمّا بطبعه، بل أنّه يكتسب تلك الأهميّة من خلال وضعه تحت الأضواء سياسيّا و اجتماعيّا و ثقافيّا، في وسائل الإعلام و الجامعيت و غيرها من المؤسّسات و المنصّات الرّسميّة و غير الرّسميّة. و ما يمكن قوله هنا هو أنّ الانتخابات هي عبارة عن حدث سياسيّ، و لكنّها ليست بالحدث السّياسي، و أنّ الفعل الانتخابي هو فعل سياسيّ و لكنّه ليس بالفعل السّياسي. فما الّذي يجعله إذا أكثر أهميّة من الأفعال السّياسيّة الأخرى؟ ما الّذي يجعله أكثر أهميّة من الأفعال السّياسيّة الّتي أقوم بها يوميّا؟ ربّما تكمن الإجابة في هوس البنى الإجتماعيّة و السّياسيّة و الإقتصاديّة، أو هوس الثّقافة المهيمنة، بحصر ممارسة الفرد للسّياسة في ممارسته للفعل الانتخابي، مقزّمة بذلك الأفعال السّياسيّة الأخرى، مثل التّنظّم و الاحتجاج و العمل و . الجنس و التّعبير عن الهويّات الجندريّة اللّامعياريّة، و هي أفعال مناهضة للهيمنة، من شأنها ربّما تغيير الواقع المعاش أكثر من الانتخابات نفسها.
و انطلاقا من هذه النّقطة، و إيمانا منّي بأهميّة أفعالي السّياسيّة الّتي أمارسها كفرد أو كمجموعة خارج خلوة الاقتراع، بنيت موقفي من انتخابات الدّور الثّاني للرّئاسيّة في 2019، موقف يمكن تلخيصه في جملتين: لن أصوّت لقيس سعيّد، أتمنّى أن يهزم قيس سعيّد نبيل القروي. و لسائل أن يسأل، ماذا لو ربح نبيل القروي، أو ما يعرف بمرشّح المافيا؟ فليربح. لأنّ التّاريخ يستمرّ مهما كانت النّتائج. و من المهمّ التّنويه هنا أنّني لا أعتبر موقفي المقاطع موقفا بطوليّا، و لا موقفا صحيحا على الجماهير اتّباعه و الانخراط فيه. و رغم احساسي بحنين إلى 2011 باتّساع أفقه و وضوح رؤيته و صلابة مواقفه، إلّا أنّني اليوم أعتبر موقفي المقاطع مساهمتي البسيطة في كتابة تاريخ هذا الوطن، إذ أنّ هذه الكتابة، في اعتقادي الخاصّ الضّبابي من تواتر الأحداث من حولي، هي في حاجة إلى تجارب عديدة متعدّدة.
إنّ تونس، هذا الوطن، مهما كان تعريفنا له، سواء كان رقعة جغرافيّة، مجموعة من الأشخاص، فكرة مثاليّة، أو حتّى طوباويّة يصعب تحقيقها، هو الآن بصدد كتابة سرديّته الوطنيّة، تلك السّرديّة الّتي سيتناقلها أبناؤه و بناته، و الّتي ستدرّس في المدارس و المعاهد و الجامعات. و آن لنا أن نسأل: كيف نريد لهذه السّرديّة أن تكون؟ هل نريدها سرديّة أحاديّة متجانسة تحوم حول صورة الأب المنقذ، كتلك الّتي تحمل عنوان بورقيبة نحّالنا القمل، أم أنّنا نريدها سرديّة متعدّدة عديدة الأوجه؟ هل نريدها سرديّة أحاديّة متجانسة يشارك فيها كلّ التّونسيّن و التّونسيّات في اختيار قيس سعيّد، رئيس الملايين و أب المحقورين، أم نريدها سرديّة متعدّدة الأوجه و التّجارب و الملاحظات؟
أظنّ أنّنا اليوم، و نحن سنة أولى “د” انتخابات، في أمسّ الحاجة إلى تعدّد التّجارب في علاقة بالدّور الثّاني لرئاسيّات 2019. نحن في حاجة إلى قصص المشاركين و المشاركات، و قصص المقاطعين و المقاطعات، في تعدّدها و ثرائها و ليس في تصتيفها في تناقض ثنائيّ ركيك. نحن أيضا، و أكثر من أيّ وقت مضى، في حاجة إلى كلّ تلك السّرديّات الخارجة عن المألوف، المقاومة حينا و المطبّعة أحيانا، سرديّات المحقّرين و المحقّرات، سرديّات السّود، سرديّات الأطفال، سرديّات النّساء، سرديّات عاملي و عاملات الجنس، سرديّات المثليّين و المثليّات، سرديّات الرّجال و النّساء التّرانس، سرديّات من هم تحت، من هم في الدّرك الأسفل من سلّم الامتيازات، سياسيّا و اجتماعيّا و اقتصاديّا.
نحن في حاجة إلى أن نسأل: هل يمثّل كلّ هؤلاء جزءا من الشّعب الّذي يتوجّه له قيس سعيّد في خطابه؟ و هل يمثّل قيس سعيّد بالنّسبة لكلّ هؤلاء قطيعة مع النّظام؟
عندما كنت تلميذة بالمدرسة الابتدائيّة، كان والدي كريما في وقته، يحدّثني مطوّلا عن الثّورة، عن ماركس و انغلز و لينين و روزا و كروبسكايا و كلارا و غيرهمنّ، كان يحدّثني مطلوّلا عن الفلسفة، عن الثّورة، عن العمّال، عن الشّعب، عن أصدقاء الشّعب و أعدائه، و سرعان ما أصبح هذا الشّعب متمثّلا تمثّلا جليّا واضحا في مخيّلتي، بدا لي شاحب الملامح، متعب التّاريخ، و لا يقبل التّصريف في غير المذكّر. و بقي الحال على ما هو عليه، بعد المدرسة الابتدائيّة، في المعهد، في الجامعة، في التّنظيمات السّياسيّة الّتي احتككت بها، في الإتّحاد العامّ لطلبة تونس، في النّقابات، في التّحرّكات الاقتصاديّة و الاجتماعيّة، في الخطابات العلنيّة، في الحلقات السّريّة، قبل الثّورة، بعد الثّورة، في خطابات قيس سعيّد: يأبى الشّعب التّصريف في غير المذكّر.
يتّجه سعيّد في خطابه إلى “الشّعب”، مستعملا شعار الثّورة “الشّعب يريد” كشعارا لحملته الإنتخابيّة، عفوا، التّفسيريّة. يخاطب سعيّد الشّباب، يستمع إلى الشّباب، إلى مقترحات الشّباب، يحمل مشروعا، مشروع الشّباب، و ما نسي أن يفعله صديق الشّباب في كلّ مرّة، هو أن يجيب على سؤال بسيط يتنطّط في ذهني: من هو الشّعب؟ و من هم الشّباب؟
لا أعرف الإجابة على هذا السؤال، و لكنّني لا أفقد الأمل، ربّما سيجيبنا قيس سعيّد يوما ما. و لكن ما أعرفه هو أنّنا قد نجرم في حقّ أنفسنا، إذا ما ظنننا أنّ هذا الشّعب ثابت لا يتحرّك في الزّمان و المكان، أو إذا ما ظنننا أنّ الشّباب همنّ كتلة واحدة أحاديّة، لا فوارق بينها و لا امتيازات، يتخبّطون و يتخبّطن في نفس الأوهام، يحلمون و تحلمن بنفس الأحلام.
رغم أنّه لم يثلج صدورنا بإجابة تشفي الغليل خلال حملته “التّفسيريّة” إلّا أنّني أردت أن أعطي إلى قيس سعيّد ميزة الشّك، فقلت في نفسي، ربّما يعني بالشّعب ملايين المقهورين، و المضظهدين، و المحقّرين، و العاطلين، و العاملين، أولئك الّذين أجرمت في حقّهم سياسات دولتنا اللّاوطنيّة و اللّاإجتماعيّة و اللّاإنسانيّة. ربّما التمست شيئا من هذا القبيل في خطابه، و هو ما جعلني، في لحظة تماه مع حلم مجتمع عادل، أفكّر في التّصويت له، لحظة سرعان ما تنتهي فور انتباهي أن قيس سعيّد، لا يكترث، و لو في خطاباته، بالمقهورات، و المضطهدات، و المحقَّرات، و المعطّلات، و العاملات، و غيرهنّ. “إن كنت شعبا عظيما، فصوّت لنفسك في اللّحظة الحاسمة.” لم تكن اللّحظة أشدّ حسما من يوم ممطر عليّ أن أصل فيه باكرا إلى قاعة الدّرس الباردة الرّثّة، فاليوم أشرع في تدريس كتاب السّيّدة دالاواي لفيرجينيا وولف، و لم يكن الشّعب العظيم واضح الملامح و الأوصاف في مخيّلتي، و الأهمّ، لم أجد نفسي الّتي سأصوّت لها في خطابات قيس سعيّد، فخيّرت أن لا أضع إصبعي في الحبر، حفاظا على طلاء أضافري.
يقول أصدقائي، و بعض من صديقاتي، أنّ قيس سعيّد هو مرشّح القطيعة مع النّظام. و إن كانت ملامح هذا النّظام العدوّ واضحة في تمثّلاتي عنه و معيشي وسطه، إلّا أنّني لم أرَ في قيس سعيّد ضربا من ضروب مقاومتها.
من هو النّظام؟ يتساءل صديقي خليل عبّاس، ثمّ يجيب: هو تمثّلات كلّ جوانب الواقع السّيّئة. تلك الّتي تقمعنا دون إذن، تلك الّتي تؤذينا دون سابق إنذار، تلك الّتي تسرقنا قوتنا و أحلامنا، تلك الّتي تجتاح أفكارنا، تطمسها، تؤدلجها، تحوّل مسارها نحو القمعي و المهيمن، تلك الّتي تقتلنا دون أن تعطينا فرصة أن نحيا. أن نكون ضدّ النّظام، أن نريد أن نسقط النّظام، يعني إذن، ربّما، أن نطالب بالحياة، أن نحيا، و أن نعمّم السّعادة و النّشوة. في أكثر من لقاء صحفيّ، يلخّص قيس سعيّد لقاءاته بشباب تونس في جملة: لهؤلاء الشّباب مطلب واحد، هم يقولون (و يقلن؟) : نحبّو نعيشو كيفكم.
لهذه الجملة وقع خاصّ في قلبي، ربّما أنّها تلخّص كلّ أفكاري، كلّ النّداءات الباطنيّة الّتي في داخلي، للحياة، للعمل. هي تعني ربّما تحقيق العدالة الاجتماعيّة، للجميع، دون استثناء، و تعميم الحياة و الأحلام، على الجميع، دون استثناء. و لكن، يبدو أنّنا، نحن النّساء، نحن كلّ من لا يقبل التّصريف في المذكّر المعياري، يبدو أنّنا الإستثناء.
تصف باتريسيا هيل كولينز، باحثة علم الإجتماع، اليساريّة السّوداء، السّيستام بالآلة، بالماتريكس، و تسمّيه تحديدا ماتريكس الهيمنة. تقمع ماتريكس الهيمنة الأفراد و المجموعات استنادا على جملة من الصّفات الموجودة فيهمنّ، منها الطّبقة الاجتماعيّة، و العرق، و الجنس المنسوب عند الولادة، و الهويّة الجنسيّة، و الهويّة الجندريّة، و القدرة الجسديّة و غيرها، و تعتمد هذه الماتريكس على جهاز الدّولة و غيره من الآليّات في ممارستها لقمعها. يصنّف المواطنون و المواطنات داخل هذه الماتريكس حسب امتيازاتهم، و نعني بالامتياز تلك الصّفة الّتي تمنح صاحبها أو صاحبتها حياة أسهل، و أقلّ قمعا و تعقيدا، داخل الماتريكس. فنجد الرّجال السّيس الأغنياء البيض، على سبيل المثال، في أعلى سلّم الامتيازات، كما تقبع النّساء التّرانس السّود، أيضا على سبيل المثال، في الدّرك الأسفل من هذا السّلّم. بينما يتجوّل الأخريون و الأخريات بينهما، يمارس عليهمنّ القمع بمختلف أشكاله. فإذا ما كانت البطالة تقمع الرّجل السّيس صاحب الأوصاف الذّكوريّة مرّة، فإنّها تقمع النّساء مرّتين، إذ أنّ البطالة تحلّ عليهنّ مصحوبة بعنف ذكوريّ يمارس عليهن في جلوسهنّ في المنزل أو في رحلة بحثهنّ عن العمل. بل و تقمع النّساء التّرانس المعطّلات عن العمل ربّما أكثر من مرّة، مرّة من طرف سياسات الدّولة الّتي تهمّشهنّ كمواطنات و كنساء، و مرّة من مؤسّسات الدّولة و قوانينها الّتي تعتبرهنّ مجرمات، أو تمثّلات مرضيّة لا اجتماعيّة في أحسن الأحوال.
و هنا لي أن أسأل، هل يمثّل قيس سعيّد قطيعة مع ماتريكس الهيمنة؟ تلك الآلة الّتي تقمعني و تقمع أصدقائي و صديقاتي، و رفاقي و رفيقاتي، الّتي اجتمعت بهمنّ في محطّات نظاليّة عدّة؟ أظنّ أنّ الإجابة سهلة: لا.
إن أردنا إذن، في حسب تقديري البسيط، أن نقاوم القمع، سياسيّا كان أو اقتصاديّا أو اجتماعيّا، أو أن نصوّت إلى مرشّح القطيعة مع السّيستام، يمرّ ضرورة عبر مقاومة ماتريكس الهيمنة. و إن كانت القمع متقاطعا، مثل التّقاطع بين الرّأسماليّة و الذّكوريّة و المعياريّة الجنسيّة و الجندريّة، فمقاومته عليها أن تكون بنفس ذلك التّقاطع. إذ أصبح النّضال ضدّ التّهميش الاقتصادي يمرّ حتما عبر النّضال ضدّ القوانين و الممارسات الرّجعيّة الّتي تحميه، و هو شيء لم يكن حاضرا في خطابات قيس سعيّد و هو ما يرفع عنه صفة القطيعة مع الماضي و التّأسيس للمستقبل. و عليه، فإن سألني سعيّد عن عدم تصويتي له في يوم من الأيّام، و هو أمر غير محتمل الحدوث، ستكون إجابتي: على خاطر نحبّو نعيشو كيفكم.
عندما تلقّيت اتّصالا من صديقاتي و أصدقائي في نشاز، لإلقاء مداخلة حول “قيس سعيّد: الظّاهرة و ما وراءها” لم أفكّر في البحث في الظّاهرة بقدر ما فكّرت في مدى اعتباري لها حدثا عاديّا يقترب من الملل في بعض الأحيان، إذ أنّني، كما أشرت سابقا، لا أستيقظ و بي شيء من الإثارة أيّام الإقتراع. أمّا في علاقة بما وراء الظّاهرة، فإنّتي لم أهتمّ بمسبّباتها بقدر ما اهتممت بالرّسائل الّتي تحمل في طيّاتها، أو وراءها، رسائل يمكن صياغتها في ملاحظات تليها استنتاجات، و هي عبارة عن تفكير بصوت مرتفع.
لا أنفي أنّ في قيس سعيّد شيء يخاطبني، ربّما تركيزه عن الجانب الاقتصادي و الاجتماعي و انحيازه للمحقّرين (و المحقّرات؟)، و هو ما يمكن وصفه بالنّزعة اليساريّة في خطابه. يمكننا اذا أن نعتبر أنّ الكثيرين ممّن صوّتوا و صوّتن لسعيّد همنّ في حقيقة الأمر صوّتوا و صوّتن لمثل يساريّة كان على اليسار اقتراحها و الذّود عنها. و إن لا يمثّل سعيّد أيّ ضربا من ضروب القطيعة مع الماضي و التّأسيس الجديد، إلّا أنّنا يمكننا قراءة صعوده كصعقة كهرباء طفيفة، مؤذية و منعشة في نفس الوقت، تطالبنا فيها بالتّأسيس الجديد الحقيقي، تأسيس يسار جديد، ذلك الّذي لا يتلحّف بفكرة القطيعة، بل يطرح القطيعة نفسها، مع النّظام و آلة قمعه المتشعّبة. و يمرّ هذا التّأسيس الجديد، فكرا و تنظّما، بمفهومين اثنين، ألا و هما التّقاطعيّة و العرضيّة. و في ايمانه بهاتين الفكرتين، يراجع التّأسيس الجديد مفهومه للحقوق و الحريّات، فرديّة كانت أو جماعيّة، فيعمل جاهدا على رفع صفتي اللّيبيراليّة و الفئويّة عنها ليمنحها ما تستحقّ من مدّ شعبي.
لا يمثّل لي صعود قيس سعيّد الشّيء من عدمه، ربّما تمنّيته قليلا، إذ أنّ قدرتي على احتمال منافسه من الممكن أن تتلاشى قبل انتهاء الفترة الرّئاسيّة. ربّما أيضا، و نحن ندرسه كظاهرة، أحسّ بامتنان نحو صعوده، فلقد كان من الجميل، رغم أنّني أحسست بشيء من الغيرة، أن أرى الفرحة في عيوني رفاقي و رفيقاتي ممّن صوّتوا و صوّتن له. و رغم ازدرائي لوضعيّة الأب المنقذ الّتي يتّخذها قيس سعيّد في الكثير من الأوقات، إلّى أنّني أرى فيه أحيانا نبيّا جاء ليرفع عنّا سبات فترة 2014 = 2019. أمّا الآن، و في الختام، صعد قيس سعيّد أو لم يصعد، ربح قيس سعيّد أو لم يربح، و كما قال سعد الله ونّوس: “هذه لا يمكن أن تكون نهاية العالم، فنحن محكومون بالأمل” و هي القوّة الخارقة الّتي يتميّز بها أبناء و بنات جيلي. بلغة أخرى “تولّي رئيس ولّا يـــ…” المسيرة تستمرّ.