جمنة لن تخسر… البتّة
فتحي بن الحاج يحيى
بين الأحلام التي ولّدتها الثورة وحالة البلاد اليوم مسافة تقاس بجهاز ضغط الدّم، ومستويات السكري في البدن. كان الأمل الوحيد في الأيّام الأولى التي تلت الرابع عشر من جانفي أن نصنع من معنويات التونسيين الطّاقة التي ستحملنا إلى الأفضل وتصوغ من واقع حياتنا اليومية تفاصيل التحوّل.
أشياء كثيرة تحقّقت في الأثناء في حقل الحريات الفردية والجماعية رغم التراجعات وبعض الانتكاسات التي أفهمتنا أنّ الطّريق أطول مما نعتقد. يبقى الفشل الأكبر في باب المكاسب الاقتصادية-الاجتماعية وهو ما ساعد على إشاعة نوع من الحنين إلى الماضي حيث يلعب النسيان دوره، فتسقط ذاكرة الخوف والذلّ الذي كان يعيشه أغلب التونسيين في ظلّ النظام النّوفمبري، وننسى المدى الذي بلغه فساد القصر، وزوجة صاحب القصر، والأصهار، والإخوة، والأقارب.
ولأنّ اللاعبين السياسيين لا يفوتون في شيء مستوى لاعبي الأندية التونسية التي خرجت مهزومة من المسابقات القاريّة بل لعلّهم أكثر صلفا وغباء، فإنّ الإحباط وانعدام الأمل حلاّ محلّ الخوف المشاع سابقا.
بقينا نعيش على انتظار لحظة فرح أو مؤشّر أمل، ولو كان سرياليا، كأن نهتزّ لقدوم باخرة سياحية ترسي في المياه العميقة وينزل ركابها على اليابسة فنستقبلهم بالطبل والمزمار، والوالي والمعتمد، والأمن السياحي وفرق مقاومة الإرهاب، ونبذل من المصاريف أضعاف العملة التي ينفقونها في جولتهم السياحية وهم على عجل، والتلفزة تنقل الحدث دون خجل.
ولأنّ ربّك كريم، رغم نفاق الناطقين باسمه في ربوعنا، يحدث أن يطرأ حدث له من الدّلالات والرمزية ما يجعله أعسر من أن تتلقّفه أجهزة الإعلام أو تتوقّف عنده الأحزاب السياسية لا سيما إذا كان غير قابل للتجارة السياسية والمقايضة البرلمانية.
غرّة نوفمبر 2017. واحة جمنة. يسمّونها هناك هنشير « الستيل » نظرا لأنّه كان على ملك الشركة التونسية لصناعة الحليب منذ أيّام التّعاضد قبل أن تعود إلى أملاك الدّولة التي ظلّت تسندها، حسب الأهواء والميولات، إلى بعض الخواصّ بأثمان زهيدة.
البتّة معلنة على التاسعة صباحا. وصلنا الواحة حوالي الثامنة بطلب من لطفي الذي حرص على حضور الحدث وتصويره في إطار شريط عن منطقة قبلّي. أرادنا أن نكون حاضرين قبل ساعة على الأقلّ ليتمكّن من تحسّس المكان والسيطرة عليه. حوالي العشرة أنفار من العملة يحمّلون التراكتور بالكراسي البلاستيكية. انتابني نوع من التخوّف من فشل اللّحظة وخفت على نفسي من إخفاق آخر، وأنا القادم إلى جمنة بقليل من الشكّ وكثير من التّفاؤل.
لم يدم الارتباك طويلا. فما هي إلاّ ساعة حتّى غصّ المكان بالخلق. إنّهم أهل جمنة نساء وأطفالا وشبابا ورجالا وشيوخا جاؤوا من كلّ حدب ليعيشوا حدثا ستدوّنه حتما ذاكرة البلدة.
حالة الأمل منتشرة على مدى امتداد الجموع الجالسة على الكراسي، والمفترشة الأرض، والواقفة تأهّبا لفرح بعد أن أعيتها المفاوضات مع الحكومة وأتعبها التماطل وخوف أهل الإدارة من أهل الأرض. صابة الدّقلة معروضة للبيع بالمزاد العلني. وخلافا للسنة الماضية، هدأت مؤقّتا المعركة بين جمعية حماية واحات جمنة والحكومة ممثّلة في وزارة أملاك الدّولة ووزارة الفلاحة في انتظار تسوية نهائية للقضية. كانت الظروف هذه السنة أفضل ولا خشية على الشّاري والبائع من تجميد أرصدتهما وتعطيل مصالحهما. الجميع كان ينتظر أن ترتفع قيمة العرض إلى مليارين من المليمات على الأقلّ متجاوزة سعر العام الماضي الذي قارب المليار والثمانمائة ألف دينار.
كانت الأجواء أجواء عرس بأتمّ معنى الكلمة : ماجورات قصر هلال اللاّتي لا يفرّقهنّ عن زميلاتهنّ بأمريكا وأوروبا سوى بضع أشبار زيادة في طول التنورة، وعدد من الأحجبة على رؤوس بعض الصّبايا أمّا ما تبقّى ففولة واتْقِسْمِتْ على اثنين. وحتّى عصا قائدة الفرقة هي نفسها تقريبا ونظيراتها في البلدان الباردة، فضلا عن آلات موسيقية، نفخية وإيقاعية، متشابهة في مكونات التّصنيع لكنّها متنافرها في الأداء، والنّغم لأسباب في الهويّة، طبعا، وفي عدم اتفاق بيننا وبينهم على قراءة السلّم الموسيقي بنفس الطريقة، وأشياء أخرى…
كما حضر الفنّ التّشكيلي ليضفي على الجوّ مسحة براءة ويرسم صورة عن أحلام الأهالي الباحثة عن تجسيد لها في إيقونوغرافيا الجنّة المفقودة لتحوّل جمنة إلى الجنّة المرتجاة، فجاءت الرسوم العملاقة للرسّام صالح سعيد الجمني أقرب إلى الفنّ التجسيدي المعروف بالفنّ العفوي naïf، وأصدق تعبير عن المناخ السائد يومها في علاقات النّاس ببعضها البعض، وصفاء انتظاراتها، وطيبة توقّعاتها.
وطبعا كان للخيّالة أيضا حظّهم من الفرجة دون نسيان فرقة من الجيش الوطني جاءت لتعزف النشيد الوطني الرّامز إلى وحدة الوطن في جنوب بات يتساءل عن معنى وطن يتعثّر في درس الحساب كلّما تعلّق الأمر بعملية قسمة… عادلة !
لن أطيل أكثر عن تفاصيل ومجريات البتّة والزيادات وشدّ الأعصاب وارتفاع وتيرة الأمل وانخفاضها مع كلّ زيادة أو مع كلّ صمت يطول وتردّد في إسناد البتّة إلى آخر مزايد على أمل أن تتجاوز، على الأقلّ، قيمة العام الفارط. يكفي الاطّلاع على التغطية المباشرة بالصوت والصّورة على موقع « نشاز » www.nachaz.org إضافة إلى التقرير القيّم المنشور على موقع « نواة »
تجربة-جمعية-حماية-واحات-جمنة-بالأرقام/http://nawaat.org/portail/2016/10/14/
والقيمة لم تتجاوز المطلوب ! لكنّ قيما أخرى طفت على السّطح. أرست البتّة على صاحب الوعد بحوالي المليار والنّصف. فارق ليس بالهيّن. ولكن في أهل جمنة حكمة تجلّت عند كلّ من حاورناهم، من كلّ الأعمار والأجناس والميولات: لم يرتفع السّعر بسبب مماطلة الحكومة في إيجاد حلّ مبكّر قد جعل الوقت يلعب ضدّنا لأنّ التجّار الكبار سبق أن استثمروا أموالهم في شراء صابات أخرى منذ شهر أو شهرين، وهو ما جعل الحظوظ تتضاءل. قالوها بكثير من الرّصانة كما قدّموا أسبابا أخرى متنوّعة لكنّهم كانوا جميعهم مبتهجين لهذا الإنجاز الذي سيطبع ذاكرة البلد، وسيتسلّل حتما إلى باقي البلاد ولو بصيغ مختلفة مردّها الأوحد : شعب يأخذ مصيره بأيديه. جميعهم حكوا لنا عن المنافع التي عمّت البلدة بفضل المرابيح التي جنتها الواحة تحت تصرّف الجمعية : تعشيب ملعب كرة القدم، بناء سوق بلدي مغطّى أصبحت النساء تؤمّنه بعد أن كانت شبه محرومات من الخروج إلى الشارع (وتلك سمة من سمات جمنة، على ما يقال، بدأت تتغيّر بتغيّر الأوضاع ونشأة جمعية نسائية كان لنا مع ممثلاتها حديث مطوّل سيكون موضوع مقطع من الفلم القادم)، بناء قاعة رياضية مغطّاة، بناء أقسام داخل عدد من المدارس وصيانة المعهد الثانوي، المساهمة في شراء سكانر للكشف المبكّر عن سرطان الثّدي، ألخ…
توجّه كهذا، لن يلعب فيه الوقت ضدّ الأهالي مهما طال أو قصر. فالوقت يلعب ضدّ من ظلّ مصمّما على ألاّ يفهم.
هم أهل الأرض، يعيشون على نسق الطبيعة وتعاقب الفصول ومنها يستمّدون نوعا من الواقعيّة في التّعامل مع الأحداث دون أن يمرّوا بالمعاهد العليا للعلوم السياسية والدّراسات الجيوستراتيجية والتوقّعات الاستشرافية. هناك من يدرس ويتوقّع ويحلّل ما سيحمله الزّمن، وهناك من يصنع الزّمن حتّى وإن سكن نقطة غير مسجّلة بالبنط الغليظ على خارطة ميشلان للبلاد التونسية. وقد يبتسم البعض من ضربهم موعدا مع الزّمن، ويخاف آخرون من ركوب حلمهم خشية أن يسقط من أعلى سحابة عابرة. فلنا مع هؤلاء وأولئك ومع الزّمن موعد.