موضوعات ما بعد – ماركسية: حول المادية التاريخية

مصطفى العلوي

 

 

« لقد تعيّن على علم الطبيعية الحديث أن يقتبس من الفلسفة مبدأ لا زوالية الحركة ؛ وبدون هذا المبدأ ما كان ممكنا أن يقوم.ولكن حركة المادة ليست الحركة الاوالية البسيطة فقط، ليست مجرّد تغيير المكان ؛فانها الحرارة والنور،التوتر الكهربائي والمغناطيسي، التركيب والحل الكيميائي،الحياة وأخيرا الوعي. »

فريديريك أنجلس، ديالكتيك الطبيعة، مدخل، من كتاب ‘حول الدين’،
دارا لطليعة، بيروت ،1974

 

 

« إنّك تسمع في كتب الحكماء قولهم : ‘إنّ الإنسان مدنيّ الطبع’… ومعنى هذا القول : أنّه لا تمكّن حياةَ المنفرد من البشر، ولا يتمّ وجودُه إلّا مع أبناء جنسه، وذلك لما هو عليه من العجز عن استكمال وجوده وحياته، فهو محْتاج إلى المعاونة في جميع حاجاته أبدا بطبعه، وتلك المعاونةُ لا بدّ فيها من المفاوضة أوّلا، ثمّ المشاركة وما بعدها، وربّما تفضي المعاملةُ عند اتّحاد الأغْراض إلى المنازعةِ والمشاجرةِ، فتنشأ المُنافَرة والمُؤَالَفة، والصَّداقة والعداوة، وتؤول إلى الحرب والسِّلم بين الأمم والقبائل، وليس ذلك على أيّ وجه اتّفق، كما بين الهَمَل من الحيوانات، بل البشر بما جعل الله فيهم من انتظام الأفعال وترتيبها بالفكر كما تقدّم، جعل ذلك منتظما فيهم، ويسَّرهم لإيقاعه على وجوه سياسيّة وقوانينَ حكميّة، ينكِّبُون فيها عن المفاسد الى المصالح،وعن القبيح الى الحسن، بعد أن يميزوا القبائح والمفسدة بما ينشأ عن فعل ذلك عن تجربة صحيحة وعوائد معروفة بيهم، فيفارقون الهمل من الحيوانات، وتظهر عليهم نتيجة الفكر في انتظام الأفعال وبعدها عن المفاسد… »

عبد الرحمان بن خلدون، المقدّمة، الجزء الخامس، الفصل الثاني عشر:
في العقل التجريبي وكيفية حدوثه

 

 

تقديم:

 بعد الموضوعات الأولى حول ‘ الطبيعيّة التاريخية’ (1) التي انتقدنا فيها ‘المادية الجدلية ‘ والموضوعات الثانية التي انتقدنا فيها تصور أنجلس حول ‘أصل الانسان’ في مقاله ‘ دور العمل في تحول القرد الى انسان ‘ (2)، ننتقل الآن الى الجزء الثالث حول ‘المادية التاريخية ‘ ونبدأ في هذا القسم الأول بما يسمى ‘المسألة الأساسية في الفلسفة ‘ وتطبيقها على ‘المادية التاريخية’ من خلال مقولتي ‘الوجود الاجتماعي’ و’الوعي الاجتماعي ‘.

نذكر هنا، قبل أن نبدأ، كون فريديريك أنجلس صاغ ‘المسالة الأساسية في الفلسفة ‘ صياغة أونطولوجية كاتبا

«  انّ المسالة الأساسية الكبرى في كل فلسفة (... كما في الدين)، وبخاصة في الفلسفة الحديثة، هي مسألة العلاقة بين الفكر والوجود (…)، وتبعا للاجابة التي يقدّمونها على هذا النحو أو ذاك عن هذه المسألة، انقسم الفلاسفة الى معسكرين ؛ أولئك الذين أكدوا على أولية الفكر بالنسبة للطبيعة والذين قبلوا بالتالي، في آخر الأمر،خلق العالم أيا كانت صورة هذا الخلق (…) يشكلون معسكر المثالية. أما هؤلاء الذين يعتبرون الطبيعة بمثابة العنصر الأولي فينتمون الى مختلف مدارس المادية .(..). لكن لمسألة العلاقة بين الفكر والوجود جانبا آخر. ما العلاقة القائمة بين أفكارنا عن العالم المحيط بنا وهذا العالم نفسه؟ هل فكرنا قادر على معرفة العالم الواقعي؟ هل نستطيع في تمثلاتنا ومفاهيمنا عن العالم أن نعطي انعكاسا صادقا عن الواقع؟ هذه المسالة تسمى في اللغة الفلسفية مسألة تطابق الفكر والوجود، وان الاغلبية الكبرى من الفلاسفة أجابت عنها بصيغة ايجابية(3). »

ولقد وضحنا في القسم الأول من هذه الموضوعات موقفنا من طريقة طرح ‘المسألة الأساسية في الفلسفة ‘ هذه بوصفها طريقة أنطولوجية موروثة عن الدين وكون الفلسفة، بوصفها ‘حب الحكمة ‘ يجب أن تفعل ‘ مثل ‘ العلم فتركز على العلاقة بين الذات العارفة وموضوع معرفتها الذي قد يكون،أنطولوجيا، سابقا للذات أو مزامنا لها أو لاحقا عليها، وأن تعالج ما كان يعتبر مسالة أنطولوجية معالجة تاريخية طبيعية واجتماعية لا غير، هذا مع العلم أن الموضوع قد يكون هو عينه الذات التي،في هذه الحالة، ليست فقط غير سابقة لنفسها أنطولوجيا بل كذلك غير منفصلة عن نفسها بوصفها موضوعا وانما تقع فحسب موضعتها منهجيا، وذلك كلّه حتى تتجاوز الفلسفة الطرح الفلسفي الكلاسيكي القديم وتصبح حديثة فعليا عبر تركيزها على الجانب الابستيمولوجي ولكن تحديدا عندما يتعلق الأمر بالمعرفة الباحثة عن الحقيقة، مع اختلاف المقاربة بين الذات والموضوع عندما يتعلق الأمر بالبحث عن الفضيلة والجمال مثلا، حتى لا تتحول الفلسفة الى مجرّد علم للحقيقة وحتى تبقى كذلك حبّا لها وللخير والجمال،الخ. كا رأينا أن مبدأ ‘وحدة العالم’، وهو مبحث قديم له علاقة حتى بمبدأ ‘وحدة الوجود’ الميتافيزيقي الى حد الصوفية، لا يجب أن يبقى مختزلا في صيغة تشبه اختزاله القديم في الله وتقلبه ليختزل في المادة. وانه رغم الفرق بين المفهوم الفلسفي للمادة ومفاهيمها العلمية المختلفة، يجب التأكيد على كون وحدة العالم تكمن في تعدديته الطبيعية والاجتماعية، بعيداعن الاختزالية الواحدية والثنائية القديمتين.

ومع أننا سنعود أحيانا الى المسألة، ننتقل الآن الى التركيز على تطبيقات هذا الأمر في ‘المادية التاريخية ‘ بعد التذكير بأهمّ ما كتبناه في الموضوعات الثانية حول اشكالية ‘أصل الانسان ‘.

1– تذكير نقدي حول ‘أصل الانسان’

نلاحظ في البداية كون ماركس وأنجلس ،على خلاف ما فعله أنجلس لاحقا في مقاله ‘ دور العمل في تحول القرد الى انسان ‘، كانا قد كتبا في ملاحظة جانبيية في آخر الفصل الأول من ‘ الايديولوجيا الألمانية ‘ في الفقرة الشهيرة حول التاريخ بوصفه العلم الوحيد الذي يعترفان به :  » ان تاريخ الطبيعة ،أو ما يسمى العلوم الطبيعية ،لا يهمّنا هنا ...(4 )  » بحيث نفهم أن المادية التاريخية تهتم حصرا بالتاريخ الانساني بوصفه تاريخا غير طبيعي على عكس ما فعله أنجلس في ‘دور العمل في تحول القرد الى انسان’ في تفاعل مع كتاب داروين ‘أصل الانسان والاصطفاء الجنسي’ الذي هو كتاب في العلوم الطبيعية، بحيث ادرج مقال أنجلس ذلك في كتاب ‘ ديالكتيك الطبيعة ‘ تحديدا. وقد كنا نبّهنا في الموضوعات السابقة لخطورة الأمر باعتباره اسقاطا للمادية التاريخية على العلوم الطبيعية موضوعا ومنهجا وهدفا.

ولقد كنّا ذكرنا في الموضوعات السّابقة التي اعتنت بمقال ‘دور العمل في تحول القرد الى انسان’ لفريديريك أنجلس ان

– 1- تاريخ الانسان كنوع له حوالي 7 ملاين عام وتاريخ ‘الهوموسابينس’ أو الانسان الحديث له حوالي 700 الف عام، و- 2 – ان الانسان بيولوجي وتشريحي وفيزيولوجي ونفسي وانتروبولوجي وجنسي وديمغرافي واقتصادي واجتماعي (بما في ذلك طبقي) وثقافي وتاريخي، و

– 3 – انه لا يوجد علم من العلوم التي تحلل هذا الكائن العجيب – مهما كان مختصا في نقطة صغيرة داخل هذا الكل – حاصل فيه اتفاق بين جميع العلماء بل ثمة أحيانا عشرات المدارس في العلم الواحد، و

– 4 – ان الفرضيات والنظريات الجديدة -الجزئية على الأقل – هي دائما موجودة ولا ضرر في ذلك، و

– 5 – انه لا واحد من العلماء في الموضوع -اذا كان بالفعل عالما – يدعي الوصول الى الحقيقة النهائية لأن البحث العلمي سيبقى دائما مفتوحا، و

– 6 – انه لا توجد في العلم محرمات مقدسة أو ممنوعات دنياوية الا الالتزام بالموضوع وبالمنهج العلمي في البحث، و

 – 7 – انه في البحث العلمي ذاته – وليس بالضرورة في استعمالاته-لا يوجد التخوين بالمعنى الديني والاخلاقي والسياسي، و

-8 – ان الانسان لم يكن عاشبا، وان اليد لا تفسر استقامته/انتصابه لوحدها، وان صنع الأدوات ليس خاصية انسانية صرف ولا يفسر وحده أنسنة القرد، وان ‘الهومو ايريكتوس’ (الانسان الواقف) و’الهومو آبيليس’ (الانسان الماهر) انقرضا – مع ثلاثة وعشرين صنف آخر من البشر القدامى – كي لا يُبالغ لا في تثمين ‘انتصاب الهيئة الواقفة ‘ ولا في تثمين ‘صنع الأدوات باليد’ – وانه لم يبق سوى ‘الهومو سابينس’ (الانسان العاقل) ليدل بقاؤه ان قيمة الدماغ الجسدية وقيمة التفكير

الاجتماعية كبيرة جدا في تعريف وتطور الانسان، ولكن دون ‘مثالية ‘ لأن الدماغ، وان كان لا يعمل الا مُجتْمَعًا،

يبقى عضوا ماديا فيزيولوجيا، ولأن الأفكار، حسب ماركس نفسه نقلا عن سان- سيمون، ‘ تتحول الى قوة مادية عندما تؤمن بها الجماهير’، و

– 9 – انه من غير المعقول، بالتالي، أن يحلل هذا الكائن الخاص المعقد بتاريخه الطويل ذي الملايين من السنين، وبتنوعه وتعقّده، بجملة واحدة تقول ان ‘الاقتصاد هو العامل الحاسم في نهاية المطاف’ في تحليل كل تاريخ الانسان هذا وكل أبعاده وفي كل مجتمع وكل مرحلة الى الدرجة التي يحلل فيها التطور الطبيعي الأقدم عنده (انتقاله من قرد الى انسان) بالاقتصاد الذي تعتبره المادية التاريخية كان ولا يزال حاسما منذ سبعة ملايين سنة.

و-10 – انه على الماركسي ،على الأقل، التمييز بين ‘المادية التاريخية ‘ التي وضعت لدراسة التاريخ الاجتماعي بالأساس، وبين علوم أخرى تهتم بدراسة الانسان من زوايا أخرى منها الطبيعية أو القريبة منها ( كالبيولوجيا وعلم التشريح والفيزيولوجيا وكالباليونطولوجيا والباليو- أنتروبولوجيا ووالأركيولوجيا المقارنة والايطولوجيا المقارنة …)، فلا تتدخل فيها كلها بعاملها الاقتصادي المحدد حصريّا (في آخر التحليل) والضيق تقنيا (صنع الأدوات) وجسديا ( دور اليد) بحيث يصبح عاملها المحدد هذا عندها مثل الله عند المتديّن : هو الكائن القدير الأزلي الذي يفسر خلق وتطوّر كل شيء، في كل مكان، وفي كل زمان .

وبسبب ما سبق، يمكن اعتبار مقال ‘دور العمل في تحول القرد الى انسان ‘ دليلا على وجود مشكل معرفي كبير في الماركسية يمكن أن يكفي لوحده لزعزعة ‘ المادية التاريخية ‘ كنسق. ومع ذلك لا بدّ من التفصيل أكثر. وسنقوم في هذه الموضوعات الحالية بالتعرض لما سنسميه ‘ المادّولوجيا الألمانية ‘ التي عوّضت ‘ الايديولوجيا الألمانية ‘ في اشارة خاصة الى الفصل الأول من كتاب « الايديولوجيا الألمانية » (1845-1846) الذي ألّفه ماركس وأنجلس معا، وكذلك الى بعض الوثائق الهامة الأخرى لعل أشهرها مقدمة كتاب « مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي  » لماركس (1859) ومقدمات ماركس لكتاب رأس المال (1867 و1873)، الخ.

2- وضع المسألة : عرض نقدي أوّلي لطريقة وضع المسألة في ‘الايديولوجيا الألمانية’

 كان كتاب ‘الايديولوجيا الألمانية ‘ ردّة فعل على الهيغلية وبعض نقادها من شيوخها وشبابها – مثل فيورباخ والاخوة باور وماكس ستيرنر – على السواء بسبب ‘مثاليتها المطلقة ‘ كفلسفة وبسبب انتقاداتهم المحدودة لها بما في ذلك نقد فيورباخ الذي يلومه ماركس وأنجلس انه كان ماديا في تناول الطبيعة ولكنه بقي مثاليا في تناوله للمجتمع بسبب ‘ نزعته الأنتروبولوجية ‘، ولذلك كان ردّ الفعل أيضا ‘مادّيا مطلقا ‘ حسب راينا. فمنذ البداية كتب ماركس وأنجلس :

«  إن النقد الألماني لم يغادر ميدان الفلسفة حتى مساعيه الأخيرة ضمناً. إن جميع قضايا هذا النقد – البعيد جداً عن بحث مقدماته الفلسفية العامة – قد نشأت في تربة منهج فلسفي معين، عنينا به منهج هيغل. (…) كان الهيغليون الشيوخ يعتقدون أن كل شيء مفهوم بنظرهم، ما دام موضوعاً في إطار هذه المقولة المنطقية الهيغلية أو تلك. أما الهيغليّون الشباب، فقد كانوا ينتقدون كل شيء، مقحمين التصورات الدينية في كل مكان، أو معتبرين كل شيء لاهوتياً. إلا أن الهيغليين الشباب يشاطرون الهيغليين الشيوخ إيمانهم في كون الدين، المفاهيم، العلم، تسود في هذا العالم الموجود. (…). ولكنه لم يخطر على بال أي من هؤلاء الفلاسفة أن يتساءل عن الصلة بين الفلسفة الألمانية والواقع الألماني، عن الصلة بين نقدهم وبيئتهم المادية بالذات (الاي.الأل).  » ووصل ماركس وأنجلس بالتالي الى فكرة ‘ أولوية ‘ ما سمياه ‘ البيئة المادّيّة ‘ تعويضا لأولوية ‘الفكرة المطلقة’.

وإن تأكيدهما على ان «  إنتاج الأفكار والتصورات والوعي مشبوك مباشرة منذ بادئ بدء بنشاط الناس المادي وبمعاشرتهم المادية، بلغة الحياة الفعلية. (الاي.الأل) «  هو تأكيد صحيح ولكنه يبقى منقوصا ومصاغا بطريقة انفعالية مما جعلهما يواصلان القول :

ان «  تشكل تصورات الناس، وتفكيرهم، ومعاشرتهم الروحية هي هنا نتيجة مباشرة أيضاً لأفعالهم المادية. والشيء نفسه يصح على إنتاجهم الروحي، وعلى كيفية تجليه في لغة السياسة والقوانين والأخلاق والدين والميتافيزياء وإلخ.، لهذا الشعب أو ذاك. (الاي.الأل) « 

هنا انتقلنا من التشابك ،الترابط، التفاعل، الى السبب والنتيجة بحيث أصبح الاقتصاد سببا وأصبح الفكر نتيجة في حين كان يمكن الاكتفاء بفكرة السببية المتبادلة مثلا – أي على رأي داروين حول العلاقة بين الانتصاب وقوفا وتحرر اليد عندما حلل العلاقة بينهما بصيغة كون كل واحد منهما هو ‘ نصف سبب – نصف نتيجة‘ للآخر ( 5 ) – بشكل يوحي بما يمكن تسميته ،مع أدغار موران مثلا ‘التحليل الدائري’ الذي ،مع ذلك، يجب،حسب رأينا، أن يقبل اسهام عنصر أكثر من غيره في عملية التشابك ولكن دون أن يجعل منه السبب ويجعل من البقية نتائج، هكذا بشكل سببي خطّي.

و يواصل ماركس وأنجلس فيقولان :

 «  الناس هم منتجو تصوراتهم، وأفكارهم، وإلخ.. ولكن الكلام يتناول هنا الناس الفعليين، الفاعلين، المشروطين بتطور قواهم المنتجة تطوراً معيناً، وبمعاشرة مناسبة لهذا التطور، بما في ذلك ضمناً أبعد أشكالها. ( الاي.الأل) « ، بحيث ان الوعي حسب رأيهما :

  » لا يمكنه أبداً أن يكون شيئاً آخر غير الوجود الواعي ؛ والحال إن وجود الناس هو العملية الفعلية لحياتهم. (الاي.الأل). »

هنا يربط الوعي بالوجود الاجتماعي بوصفه أولا وقبل كل شيء وجودا اقتصاديا في حين كان يمكن توسيع مفهوم الوجود الاجتماعي ليشمل ليس فقط الجانب الاقتصادي والاجتماعي ( وهذا الأخير سيعرف اعادة صياغة في الماركسية في كتاب  »اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة » بسبب أكتشاف أعمال مورغان لاحقا ) بل كذلك الوجود السياسي (الذي لا نعرف لم لا يعتبر وجودا، كأنما يختصر في ‘الوعي السياسي’ ووكأنما لا يحتوي على ‘علاقات سياسية ‘ موضوعية داخل الجماعة البدائية أو الدولة لاحقا )، بل ولا حتى الوعي الاجتماعي نفسه ؛ اذ ان وعي الجيل الحالي يجد أمامه، موجودة، طبقات من الوعي التاريخي السّابق المتراكم التي منها حتّى ما يسمى ‘التراث المادّي ‘، وطبقة حالية من الوعي تلفه منذ طفولته بوصفها واقعا فكريا وثقافيا وتندرج ضمن نسغ وجوده الاجتماعي. ولكن ماركس وأنجلس لا ينتبهان الى هذا بسبب زاوية نظر نسقية أحادية ينظران منها سنعود اليها بعد قليل.

و انّ هذه الطريقة في التحليل جعلتهما يردّان الفعل على المثالية عبر نموذج آلة التصوير الميكانيكي قائلين :

  » إذا كان الناس وعلاقاتهم موضوعين على الرأس في الأيديولوجيا كلها كأنما في الحجرة المظلمة، فإن هذه الظاهرة تنجم كذلك عن العملية التاريخية لحياتهم، مثلما الصورة المعاكسة للأشياء على شبكية العين تنجم مباشرة من العملية الفيزيائية لحياتهم. (الاي.الأل ) »

وإضافة الى استعمال نموذج الحجرة المظلمة وآلة التصوير فانّهما يستعملان القياس بين التفكير ‘الاجتماعي ‘ و’الصورة ‘ البصرية على شبكية العين، وهذا اختزال فيزيولوجي كبير بحيث، رغم طابعه العضوي، لا نغادر ‘الفيزياء الاجتماعية ‘ (مع آلة التصوير) الا الى ‘الفيزيولوجيا’ مع العين، ولا نبلغ السّوسيولوجيا وذلك ليس بيبب المجاز اللغوي المستعمل بل بسبب اعتماده نماذج تحليلية تؤثر على ذهنية صياغة المقاربة التحليلية. وهنا يمكن القول ان الماركسية هي خاصة فلسفة عصر ازدهار الفيزيولوجيا وقتها، وهذا واضح تماما لمن يقرأ مقدمتي ماركس لرأس المال كما سنرى لاحقا.

كما انّ طريقة العرض هذه تبدو موجهة نحو عملية القلب الشهيرة للفلسفة الهيغلية، ويؤكّد ذلك كونهما يواصلان القول بعد ذلك، ذاكرين ثنائية الأرض والسماء الدينية :

«  وعلى النقيض المباشر للفلسفة الألمانية، التي تهبط من السماء إلى الأرض، نصعد هنا من الأرض إلى السماء، أي أننا ننطلق، لا مما يقوله الناس ويتخيلونه ويتصورونه، وإننا ننطلق كذلك، لا من الناس الموجودين في الكلام فقط، وفي الأفكار والتصورات والتخيلات لكي نمضي منهم إلى الناس الحقيقيين ؛ فإن نقطة الانطلاق بالنسبة لنا إنما هي الناس الفاعلون فعلاً، ومن عمليتهم الحياتية الفعلية نستخلص كذلك تطور الانعكاسات والأصداء الأيديولوجية لهذه العملية الحياتية. وحتى التشكيلات الغامضة في دماغ الناس هي منتوجات ضرورية أيضاً، ضرب من تبخرات لعمليتهم الحياتية المادية التي يمكن إثباتها بصورة تجريبية والتي ترتبط بمقدمات مادية. ( الاي.الأل ) « 

وهنا، بعد قلبها، يستعمل ماركس وأنجلس ثنائية الأرض والسماء الدينية التي استعملها قبلهما سان- سيمون بنفس الطريقة بالضبط وهما يقلّدانه دون ذكره كما فعلا في مواقع أخرى (6 ). ومن هذه الثنائية أرض/سماء ستولد الثنائية ‘ بناء تحتي/بناء فوقي’ التي ستتضح لاحقا في ‘ المادية التاريخية ‘، وهي تصوّر هندسي – طوابقي يصور المجتمع وكأنه عمارة من طوابق أرضية وهي الاقتصاد – الاجتماع ثم عليا وهي السياسة /الدولة ثم الوعي الاجتماعي، وهذا من الناحية الادراكية يوقع في فخ اعتبار الأساس حاملا لكلّ ما فوقه –ولا يوجد تحته سوى الطبيعة- مما يعني كون البناء الفوقي والوعي الاجتماعي لا يوجدان ابدا ‘ تحت’ والاقتصاد لا يوجد ابدا  ‘ فوق ‘ بحيث – ميكانيكيا – يحمل التحت الفوق الذي يردّ الفعل حسب ما يسمح به التحت بما أن الأخير هو اساسه. ان هذه الصورة تؤدي الى مقاربة هندسية اجتماعية أفقر كثيرا من واقع تشابك الظواهر.

ولكن العلاقة بسان – سيمون لا تقف هنا عند الأرض والسماء ؛ هو أب الوضعية الحديثة – وأستاذ اوغست كونت الذي ( هذا الأخير) اختلف معه لاحقا فلا يجب الخلط بين تأثيرهما على الماركسية – والصياغة الوضعية الجليّة ستظهر بعد قليل عندما نرى تعريف الفلسفة ومستقبلها. وقبل ذلك نذكر انّه بما أن ماركس وأنجلس لا يؤمنان بعالم السماء الميتافيزيقي فقد استنتجا قياسا انه :

«  على هذا النحو تفقد الأخلاق، والدين، والميتافيزياء، وسائر أنواع الأيديولوجية وأشكال الوعي المتناسبة معها مظهر الاستقلال. وليس لها تاريخ، وليس لها تطور : فإن الناس الذين يطورون إنتاجهم المادي ومعاشرتهم المادية يغيرون كذلك مع واقعهم هذا تفكيرهم ومنتوجات تفكيرهم. (الاي.الأل) « 

هنا يظهر أحد أكبر المشاكل في المادية التاريخية الذي هو مشكل نفي كلّ وجود مستقل وكلّ تاريخ (وبالتالي تطور ) للأخلاق والدين والفلسفة والايديولوجيا وكل باقي أشكال الوعي، وذلك مع نفي وجود وتاريخ الدولة والحق المستقلين النسبيين أيضا. وسبب ذلك هو أن ماركس وأنجلس لا يكتفيان بالحديث عن التفاعل بل يبحثان عن ‘ العنصر المحدد ‘ ؛، كما يفعل الدين (عبر الله الخالق ) وتفعل الفيزياء والميكانيكا التقليديتين (عبر الدفعة الأولى)، ولذلك يكتبان :

«  ليس الوعي هو الذي يحدد الحياة بل الحياة هي التي تحدد الوعي. وفي ظل طريقة البحث الأولى، ينطلقون من الوعي كأنما الوعي فرد حيّ؛ وفي ظل الطريقة الثانية التي تتناسب مع الحياة الفعلية، ينطلقون من الأفراد الأحياء الفعليين حقاً وصدقاً، ولا يعتبرون الوعي إلا وعيهم هم. ( الاي.الأل) « 

 ينطلق ماركس وأنجلس هنا من مغالطة في المقارنة بسبب الرغبة في قلبهما للمثالية المطلقة التي تؤمن بوجود الله الحي و/أو الفكرة المطلقة الحيّة في مكان ما، فعوض أن يقارنا بين « الوعي كفرد حيّ  » والاقتصاد يقارنان بين ذلك الوعي و’ الأفراد الأحياء ‘ بحيث تكون المقارنة لصالحهما حتما. ولكن الاشكال الأساسي هنا هو  » وهل الاقتصاد ‘ فرد حيّ ‘ هو الآخر؟’ وألا يمكن أن نقول عنه نفس ما قالاه في الوعي اذا قارناه بالأفراد الأحياء ؟

ولقد كان من الممكن، اذن، دراسة التفاعل ليس لأن الوعي فرد حي (مثل الله و/أو الفكرة المطلقة ) بل لأنه فعل انساني مثله مثل الاقتصاد الذي هو نفسه ليس فردا حيا لأن الوعي كما الاقتصاد يستويان هنا في كونهما  وعي واقتصاد الكائن الحيّ تحديدا ؛ وعي واقتصاد الانسان اللذين يؤثران على وجوده الاجتماعي الكلّي. وهكذا فان ماركس وأنجلس، في ردّة فعل على المثالية المطلقة التي تنطلق من الله (الحي حسب الدين) ومن الفكرة المطلقة (الحية حسب هيغل والمتخارجة والمتحققة في التاريخ)، عوض أن يكتفيا بنفي اطلاقية الوجود المستقل للفكر في ما يسميه تيار دو شاردان (7 ) وادغار موران (8) النووسفير‘ (المحيط الفكري ) المستقل، ولكن نسبيا فحسب، عن ‘السوسيوسفير‘ ( المحيط الاجتماعي) مثلا، رفضا هنا حتى  نسبية وجوده المستقل ونسبية تطوره المستقل وذلك بنوع من العقائدية الفجّة التي يبينها ما يلي :

«  وطريقة البحث هذه لا تخلو من المقدمات. فهي تنطلق من مقدمات فعلية، دون أن تتخلى عنها لحظة واحدة. ومقدماتها إنما هي الناس مأخوذين، لا في انطواء انعزالي خيالي ما، بل في عملية تطورهم الفعلية، الملاحظة بصورة تجريبية، الجارية في ظروف معينة. وحين يتصورون هذه العملية الحياتية الفعلية، يكف التاريخ عن أن يكون جمعاً لوقائع ميتة، كما عند التجريبيين الذين ما يزالون هم أنفسهم تجريديين أيضاً، أو عن أن يكون واقعاً متخيلاً لذوات متخيلين كما هو عند المثاليين. (الاي.الأل ) « 

ان المشكل أن ما قيل هنا يمكن أن ينطبق على الاقتصاد بنفس الطريقة المنهجية مع اختلاف مضموني لا غير؛ فالمشكل ليس في أن تكون المقدّمات هي الناس (مقابل الفكر) بل في أن تكون المقدّمات هي الاقتصاد (مقابل الفكر). وهنا يمكن اضافة انهما، بعملية جعل الاقتصاد نتيجة للقلب المنهجي، يأخذان الناس في علاقاتهم الاقتصادية بوصفهم ‘قوى انتاجية’ كأنها قوى فيزيائية – أو فيزيولوجية في الأحسن – لا غير؛ يأخذان الناس في علاقاتهم الاقتصادية بوصفهم ‘ آلات حيّة ‘ حسب عبارة لنيكولاي بوخارين ؛ بوصفهم ‘ حيوانات-آلات ‘ ديكارتية (9 ). انّهما ينتقلان في التحليل بردّ الفعل على ‘الانطواء الانعزالي المثالي ‘ في الوعي عند مخالفيهم الهيغليين الى ‘التفاعل الترابطي الآلي ‘ في الاقتصاد، وليس الى أولئك الناس الأحياء العاملين والمفكرين في نفس الوقت وذلك – وبصورة تقبل ضمنا بالثنائية الدينية /الديكارتية – بهدف اخراج العوامل النفسية والفكرية من ‘الوجود الاجتماعي’ –الذي له وحده وجود وتاريخ – ووضعها في ‘الوعي الاجتماعي’ الذي لا وجود ولا تاريخ له. وهنا مشكلة المشاكل التي تضيف اليها صيغة « الانطلاق من مقدمات فعلية دون أن تتخلى عنها لحظة واحدة  » دليلا آخر على عنف ردة الفعل وقصوويتها، وهو ما دفع الى عملية الذهاب من ‘المثالية المطلقة’ الى ‘المادية المطلقة’ التي تأثرت بالوضعية كفلسفة كما يدل المقطع التالي التي جاء فيه :

 » وحيث يتوقف التفكير التأملي، – في وجه الحياة الفعلية – هناك يبدأ بالضبط العلم الإيجابي الفعلي، وتصوير النشاط العملي والسير العملي لتطور الناس. وتكف الجمل عن الوعي، لكي تشغل المعرفة الفعلية مكانها. إن تصور الواقع يحرم الفلسفة المستقلة وسطها الحياتي. وفي أفضل الأحوال يمكن أن يحل محلها اختصار أعم النتائج المجردة من بحث تطور الناس التاريخي في كل واحد. ( الاي.الأل) « 

هنا أطروحة وضعية بامتياز ؛ رفض تام للتأمل يوحي بضرورة تجاوز ‘ المرحلة الميتافيزيقية ‘ في الفلسفة الوضعية دون تمييز حتى بين ‘مساوئ التأمل الميتافيزيقي ‘ و‘محاسن أشكال ممكنة من التأمل الفيزيقي والاجتماعي‘ كما حصل ويحصل مع العلم والفلسفة والفن الى اليوم. ان التأمل ليس شرّا في ذاته وليس ميتافيزيقيا في ذاته في كل مراحل التاريخ، بما فيها القديمة، ثم ان التأمل الميتافيزيقي نفسه حقّ انساني وليس هو من يعرقل بالضرورة تقدم البشر ؛ ان كوبرنيك – أب الحداثة العلمية التي قلبت تصورنا عن النظام الشمسي – كان قسّا في الكنيسة البولونية، وكان علماء كبار بعده، والى اليوم، مؤمنين يتأملون الكون فيساعدهم ذلك على بحث قوانينه.

من ناحية ثانية، نجد هنا صيغة ‘العلم الايجابي ‘ (أو الوضعي) بما يثبت حضور سان- سيمون في نقد ‘ الايديولوجيا الألمانية ‘ الى درجة تصور ‘ نهاية الفلسفة ‘ وتعويضها بنسق فكري آخر يحل محلها ‘لينجز’ اختصار » أعمّ النتائج المجرّدة من بحث تطور الناس التاريخي  » في كلّ واحد جديد.

هنا نحن في لحظة وضعية بامتياز ستؤدي الى اعتبار الجدل الماركسي نفسه ‘علم أعمّ قوانين الطبيعة والمجتمع والفكر’ ليأخذ مكان نفس الزعم الهيغلي السابق ولكن بقلبه على رجليه طبعا بعد أن كان يمشي على رأسه. ولكن النتيجة واحدة وهي، هذه المرّه، اعلان فكرة نهاية الفلسفة بنهاية التأملّ بدليل ان ‘التجريدات الجديدة’ هذه :  » لا تملك بحدّ ذاتها، في معزل عن التاريخ الفعلي،أية قيمة على الاطلاق. ولا يمكنها أن تصلح الا لتسهيل تبسيط المادية التاريخية ورسم مختلف شرائحها  » (الاي.الأل) لأنها ليست تجريدات فلسفية بل هي : «  خلافاً للفلسفة، لا تعطي ( هذه التجريدات ) البتة وصفات أو مخططات يمكن تصنيف العهود التاريخية في إطارها. وعلى العكس، لا تبدأ المصاعب إلا حين يشرعون في بحث المادة وتبسيطها -سواء كانت ترقى إلى عهد ماض ما أم إلى العهد المعاصر. وحين يعمدون إلى تصورها تصوراً فعلياً. إن إزالة هذه المصاعب مشروطة بمقدمات لا يمكن البتة إعطاؤها هنا، ولا تنشأ إلا في سياق دراسة العملية الحياتية الفعلية ونشاط الأفراد في كل عهد بمفرده. ونحن نفرز هنا بعضاً من هذه التجريدات، ونستخدمها على نقيض الايديولوجيا، ونوضحها بأمثلة تاريخية. (الاي. الأل) « 

ان ماركس وأنجلس يحاولان هنا التخلص ليس فقط من ‘ فلسفة التاريخ ‘ بل من الفلسفة عموما وذلك باعلان تبنّي ‘ علم التاريخ ‘. ولكنهما لا يستطيعان لأن كتاب ‘الايديولوجيا الألمانية ‘ (حتى في الفصل الأول نفسه وباعترافهما في آخر جملة من الفقرة السابقة) يؤثثه ويتحكم فيه نسق فلسفي مجرّد رغم كل محاولات الواقعية التي تسنده من خلال كم الوقائع المستعمل الكبير خاصة من الناحية الاقتصادية. ودليل ذلك وجود تصور عن كل مراحل التاريخ من البدائية الى العبودية الى الاقطاعية مرورا بالتركيز على الرأسمالية وكيفية النضال ضدها وضد ايديولوجياتها وصولا الى ‘نهاية التاريخ’ عبر الشيوعية.

ولكن ما هو خطير أيضا هو تاثير هذه النزعة العلموية الوضعية على الفلسفة نفسها، بوصفها ‘حبّا ‘ للحكمة تحديدا، فهي بوصفها أنطولوجيا وابستيمولوجيا ومنطق وأنتربوبو- سيوسيولوجيا وايتيقا واستيتيقا، لا يمكن اختزالها في نسق فكري يكتفي بالتنسيق بين ‘منتجات العلوم ‘ تحديدا لأنّ ذلك يهدّدها بالكارثة لسببين على الأقلّ :

الأول، تجريم ‘التأمل’ بما في ذلك في الانطولوجيا والابستيمولوجيا والمنطق والأنتروبو- سوسيولوجيا والغاء بعد الحبّ ‘الصوفيا ‘ في هذا الثلاثي بتعويضه بالعلم ‘ اللوجيا ‘ بحيث نتوهم عبر ‘الفلسفة العلمية’ القدرة التامة على المعرفة والقدرة التامة على ادارة الطبيعة والمجتمع ‘ادارة علمية ‘ هي علموية وضعية لاغير.

والثاني، تدمير الايتيقا والاستيتيقا بوهم القدرة على تحويلهما هما أيضا الى ‘ايتيقولوجيا‘ – الى علم وضعي للأخلاق – والى ‘استيتيقولوجيا‘ – الى علم وضعي للجمال – على الطريقة العلموية الوضعية المتطرّفة –أضف اليها النزعة الطبقية – بحيث يقع تطبيق مقولة الحقيقة والخطأ العلميين على ميدانين يبحثان عن الفضيلة (الأخلاق) والجمال( الفنّ)، فنصل بذلك الى تصوّر موغل في الأخلاقية الطبقية وفي الواقعية الاشتراكية في الفنّ كما وقع مثلا في المرحلة الستالينية-الجدانوفية ( 10) وكما تكرّس لاحقا في أشكاله الأكثر دموية مع ‘ دواعش الشيوعية ‘ من ‘الخمير الحمر’ في كمبوديا الذين ،بمعنى ما، يمكن اعتبارهم أسوء امكانية شيوعية كامنة تمظهرت في التاريخ اضطرت الشيوعيين الفيتناميين أنفسهم الى معاداتها وهم في نفس الوقت يقاومون ‘دواعش الرأسمالية’ الذين يدمرونهم بقنابل ‘النابالم’ العنقودية.

ان الوعد بتحويل الفلسفة بكاملها الى ‘ فلسفة علمية ‘ هو كارثة علموية وضعية لأن الانسان، هذا ‘الهوموسابينس’ (الانسان العاقل)، ليس ‘ كائنا عقلانويا ‘ بالمعنى الوضعي للكلمة بل هو أيضا ‘كائن مخيالي /خيالي‘ (هومو ديمنس) و’كائن لاعب‘ ( هومو لودنس ) ،الخ .، كما تؤكّد ذلك أعظم النظريات الفلسفية والعلمية الانسانية والاجتماعية حول دور المخيال والخيال والحب والجمال واللعب في أنسنته. وان الماركسية، بوعدها بهذا التعميم العلموي الوضعي، تتجاوز حتى نظرية ‘التنظيم العلمي للعمل ‘ (11) البورجوازية التي ظهرت في بداية القرن العشرين في ميدان ادارة المؤسسات الاقتصادية تحديدا – والتي اثرت حتى في غرامشي عند حديثه عن ‘الامركة والفوردية ( 12 ) ‘ – والتي تجاوزتها حتى ما يسمى ‘ نظرية العلاقات الانسانية‘ البورجوازية هي الأخرى. (13)

ولنعط ‘ الكلمة الأخيرة ‘ في هذا العرض لماركس وأنجلس للتلخيص :

  » يتلخص هذا الفهم للتاريخ في دراسة عملية الإنتاج الفعلية انطلاقاً على وجه الضبط من إنتاج الحياة المباشرة المادي، وفي فهم شكل المعاشرة المرتبط بأسلوب الإنتاج المعني والناجم عنه – أي المجتمع المدني في مختلف درجاته – بوصفه أساس التاريخ كله ؛ ثم ينبغي تصور نشاط المجتمع المدني في ميدان حياة الدولة، وكذلك إعطاء تفسير منطلق منه لجميع الحواصل النظرية على اختلافها وجميع أشكال الوعي على اختلافها، الدين، والفلسفة، والأخلاق، وإلخ، وإلخ..، وتتبع عملية نشوئها على هذا الأساس، الأمر الذي سيكون من الممكن بفضله، طبعاً، تصور كل العملية بمجملها (وبالتالي التفاعل بين جوانبها المختلفة كذلك). إن هذا الفهم للتاريخ، خلافاً للفهم المثالي، لا يفتش في كل عهد عن هذه المقولة أو تلك، بل يبقى دائماً في تربة التاريخ الفعلي، ولا يعلل الممارسة بالأفكار، بل يعلل التشكيلات الفكرية بالممارسة المادية، وبحكم هذا يؤدي كذلك إلى الاستنتاج التالي، وهو أن جميع أشكال الوعي ونتاجاته إنما يمكن القضاء عليها، لا بالنقد الروحي ولا بتذويبها في «  »وعي الذات » » أو بتحويلها إلى «  »أطياف » »، «  »أشباح » »، «  »نزوات » »، وإلخ، بل فقط بالإطاحة العملية بالعلاقات الاجتماعية الفعلية التي نجم منها كل هذا الهراء المثالي، – وإن الثورة، وليس النقد، هي القوة المحركة للتاريخ، وكذلك للدين والفلسفة وشتى النظريات. ( الاي.الأل) « 

وهنا نجد الانتاج الاقتصادي بقواه الانتاجية المادية وعلاقات الانتاج المادية ( والأخيرة هي ‘الأساس’ أو ‘البنية التحتية’) و’المجتمع المدني’ المناسب لتلك العلاقات ( ومحوره الطبقات الاجتماعية) والدولة (والسياسة عموما) ثم أخيرا الوعي الاجتماعي ( العلم،الدين ،الفلسفة،الأخلاق،الفنّ…) لنصل الى ‘التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية ‘ ككل اجمالي يتكون من تشكيلة اقتصادية-اجتماعية (بالمعنى المباشر للكلمة) و’تشكيلة’ سياسية و’ تشكيلات ‘ الوعي الاجتماعي. وانّ هذا ‘ الكلّ الواقعي العياني ‘ (بلغة هيغل ) يحتوي على التفاعل، نعم، ولكن الذي يحدده الاقتصاد ( عبر الفعل) فتجيبه باقي العناصر ( عبر ردّ الفعل) بحيث يبقى الخالق والأساس هو السبب الأول والعلة الأولى،الخ.ن وهو الكلّ الذي يجب تثويره – ليس بالنقد (المثالي) – بل بالثورة (المادية) التي هي محرّك التاريخ .، وكأن النقد ليس شرط الثورة، وكأن الثورة (المادية) يجب أن ترسم قصوويا وكأنها بالضرورة مناقضة للنقد (المثالي)، والحال انهما يتكاملان ويشترط بعضهما البعض، بشرط السماح كذلك بنقد الثورة ونقد نقدها الثوري، وهو ما تخشاه كل عقيدة، بل وحتى كل ‘عقيدة ثورية ‘ بما فيها الماركسية بدليل كونها،على عكس الرياضيات والعلوم الطبيعية والانسانية والاجتماعية، تستعمل المعجم الديني نفسه في اتهام الخصوم الداخليين بالتحريفية والانتهازية ويصل الأمر حتى الى اتهام كاوتسكي بكون ‘ يهوذا الاشتراكية‘ في نفس الوقت الذي تعلن فيه نفسها ‘اشتراكية علمية ‘.

هنا نصل الى الفكرة العامة التالية : لقد انتقل ماركس وأنجلس، عبر ردّة الفعل على المثالية المطلقة بمادية مطلقة، من ‘الايديولوجيا الألمانية ‘ الى ما يمكن تسميته ‘المادّولوجيا الألمانية ‘ و’الاقتصادولوجيا الألمانية ‘.

3- الأطروحة المركزية

اعتمادا على ما سبق من عرض وعلى غيره مما سبق من ‘موضوعات’، تتمثل أطروحتنا المركزية -التي سنواصل تحليلها في أجزاء لاحقة – في ما يلي :

ان كتاب ‘ الايديولوجيا الألمانية’ وضع لنفسه هدفا أساسيا هو رفض أن يكون للسياسة وللوعي وجود خاص مستقل وتاريخ

خاصّ مستقلّ عن الاقتصاد تحديدا، واعتبر ذلك ايديولوجيا ووهما ينشرهما المثقفون لا غير. وقد قام ماركس وأنجلس بشرح ذلك من خلال تحليل السياسة والفكر كمشتقّات عن الاقتصاد الذي له عليهما أولوية أنطولوجية وزمنية وسبية بما يجعله يمثل بناءهما التحتي أو قاعدتهما المادية فيحتل بذلك الاقتصاد السياسي، كعلم، مكانته المركزية في المادية التاريخية بعد أن تم حسم ‘المسألة الأساسية في الفلسفة ‘، ويعلن قدرته على معرفة موضوعه كما تعرف البيولوجيا موضوعها كما سنرى. ان هدف ماركس وأنجلس من هذا الكتاب كان اثبات الأطروحة التالية :

« انّ إنتاج الأفكار والتصورات والوعي مشبوك مباشرة منذ بادئ بدء بنشاط الناس المادي وبمعاشرتهم المادية، بلغة الحياة الفعلية. وإن تشكل تصورات الناس، وتفكيرهم، ومعاشرتهم الروحية هي هنا نتيجة مباشرة أيضاً لأفعالهم المادية. والشيء نفسه يصح على إنتاجهم الروحي، وعلى كيفية تجليه في لغة السياسة والقوانين والأخلاق والدين والميتافيزياء وإلخ. »

ودون رفض ‘الترابط’ و’ التاثير والتاثر’ مع الاقتصاد، بل بالعكس مع تأكيده ولكن بفهمه بطريقة مختلفة، يمكننا القول ان ذلك التشابك نفسه يثبت انّه بامكاننا تأكيد ‘العكس’ أيضا ولكن دون أن نعود، بردّة فعل أخرى، الى مثالية موضوعية أو ذاتية ما، وأن نقول حول علاقة الاقتصاد بالفكر تحديدا (وسنعمم لاحقا) بأسلوب يحاكي ويعارض ويحوّر الفقرة أعلاه:

ان انتاج الأدوات والوسائل والمواد الاقتصادية مشبوك، هو الآخر، مباشرة منذ بادئ بدء بنشاط الناس الفكري وبعلاقاتهم الفكرية. وان تشكل قوى وعلاقات الناس الاقتصادية هو هنا في تفاعل مباشر مع افعالهم الفكرية. وهذا الشيء يصح على قوة عملهم وأدواتهم ووسائلهم وعلاقاتهم الاقتصادية عموما، وان كان لهذه الأخيرة وزن خاص بسبب خصوصية تلبية الحاجيات المادية في حياة الانسان بوصفه كائنا حيا لا بد أن يتنفس (والتنفس أمر ليس دائما اقتصاديا) ويأكل ويشرب ويسكن ويعالج (والعلاج أمر ليس دائما اقتصاديا) ليعيش ويمارس الجنس (والجنس أمر ليس دائما اقتصاديا) ليس فقط لتحقيق حاجة بيولوجية جنسية بل كذلك لينجب ويبقى في التاريخ على الأرض بوصفه نوعا (وهو أمر غير اقتصادي).

بعبارة اخرى، يثبت قول ماركس وانجلس أعلاه هو نفسه انه لا يمكن الحديث عن وجود خاص وعن تاريخ خاص للاقتصاد دون و/او قبل أن يتفاعل مع غيره من العناصر التي منها الفكر لان الاقتصاد الإنساني، ان شئنا، يتميز عن ‘الاقتصاد الحيواني’ تحديدا بكونه ‘ اقتصاد ثقافة ‘ وليس ‘ اقتصاد غريزة ‘ بما يعني أنه يفترض التشابك مع الوعي كشرط أنطولوجي لوجوده أصلا.

وبالنتيجة لما سبق، ليس من المقبول لا القول بأن الاقتصاد ‘ يوجد أوّلا ‘ فيسبق غيره ‘أنطولوجيا وزمنيا وسببيا ‘ ولا القول بأنّه ‘ بناء تحتي’ يشكل ‘أساسا ‘ لغيره بالشكل الذي تقدّمه به الماركسية بحيث تجعل الاقتصاد يشبه الله (الخالق الأنطولوجي للانسان يعوضه هنا الاقتصاد كخالق أنطولوجي للفكر) ويشبه الطبيعة (القاعدة المادية للانسان التي يعوضها هنا الاقتصاد كبناء تحتي وقاعدة/أساس للفكر)، بل أصبح من الضروري اعتباره نشاطا متزامنا ومتشابكا مع الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية للانسان ولكن له وزنه الخاص في ذلك التشابك التفاعلي لسببين ؛ أ- خصوصية الحاجيات الاقتصادية التي يلبيها من ناحية عامة، و- ب -، بعد ظهور الملكية الخاصة، انقسام المجتمع الى طبقات اجتماعية يجعل من ‘ندرة’ المواد الاقتصادية ليست فقط محددة بندرتها الطبيعية بل كذلك بندرتها الطبقية فيؤثر ذلك أيما تأثير على قدرة الناس على تلبية حاجياتهم الاقتصادية تلك، من ناحية ثانية. وان ذلك يعني، نظريا وعمليا، أن التاريخ البشري هو نفسه عبارة عن تفاعل وتشابك تواريخه الاقتصادية والاجتماعية من ناحية وتواريخه السياسية والثقافية – التي لا تعترف بها الماركسية – من ناحية ثانية، وان مع تأثير خاص للاقتصاد في عملية التفاعل المتشابك تلك.

 انّه لم يعد مقبولا، لا مقاربة المسألة من منطلق أنطولوجي (من يوجد أولا ؟) ولا هندسي-طوابقي (من يوجد تحت ومن فوق؟) عبر فهم ‘مادولوجي واقتصادولوجي’ ماركسي يختزل في ربط متعسف بين الفلسفة والاقتصاد السياسي، بل أصبح من الضروري مقاربتها من منطلق جديد ‘انسانولوجي’ وتركيبي، منطلق يستفيد من الفلسفة والعلوم الطبيعية والانسانية والاجتماعية وينظر، في نفس الوقت، الى الانسان بوصفه كائنا معقّدا؛ بيولوجيا وانتروبولوجيا ونفسيا وجنسيا وديمغرافيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا وتاريخيا، وينظر الى الاقتصاد السياسي، كعلم، كاقتصاد اجتماعي – سياسي تاريخي.

وانّه، بالتالي، يمكننا اعتبار الماركسية هي الأخرى، بسبب ‘مادولوجيتها’ و’اقتصادولوجيتها’، بمثابة ‘ايديولوجيا ألمانية’ أخرى لم تفعل سوى ردّ الفعل عن سابقاتها ،بقلبها بالأساس، وذلك من خلال الدعوة شبه الدينية الى ‘الانطلاق من الأرض نحو السماء عوض الهبوط من السماء الى الأرض’ مما حولها ،هي نفسها، الى ‘عقيدة وضعية ‘ تعلن كونها وحدها العلم الوضعي الصحيح ووحدها التي ستنهي التاريخ (ماركس يستعمل عبارة ‘ما قبل التاريخ البشري’ لاحقا ) على الطريقة السان- سيمونية هذه المرّة، وتنهي الفلسفة نفسها لتكتفي بالتنسيق بين المعارف العلمية وذلك لتحقق الجنة الأرضية الشيوعية، وهي (الماركسية) لذلك بسبب اختزاليتها المادولوجية والاقتصادولوجية تعرقل فهم الانسان المعقد الأبعاد وتسيء الى فهم وفعل تاريخه الماضي والحالي والمستقبلي ،هذا رغم كونها ،كما كتب ماكسيم رودنسون ذات يوم، من افضل ما أبدعته البشرية الحديثة من الناحية الايتيقية الباحثة عن المساواة والعدل بين البشر – بين الأفراد والطبقات والأمم – بالنضال ضد كل أشكال الاستغلال الاقتصادي والتمييز الاجتماعي والاستبداد السياسي والاغتراب الثقافي والإضطهاد القومي.

لقد كانت خطيئة الماركسية الفلسفية الكبرى تتمثل في تعويضها ‘الايديولوجيا الألمانية » بما يمكن تسميته ‘الماتيارولوجيا الألمانية’ أو ‘المادّولوجيا الألمانية‘ ؛ انّها عوّضت البدء بالفكرة المطلقة عند هيغل بالبدء بالمادة المطلقة تحديدا، وعوضت الانسان الانتروبو-اجتماعي الفيورباخي بالانسان الاقتصادي -الطبقي تحديدا،الخ.،فبقيت أسيرة عمليات قلب نسقي تمحورت حول قلب الجدل الهيغلي ‘على قدميه بعد أن كان على رأسه’ كاسية هيكل النسق الجديد بلحم مادي صرف باسم كونه لا يوجد في العالم سوى المادة والحركة، كساء طال الدماغ الذي لم ينظر اليه الّا كعضو بيولوجي يفرز أفكارا بحركته البيولوجية وطال الاقتصاد،عبر ‘ايكونوميلوجيا’ أو ‘اقتصادولوجيا’، لا تنظر اليه الا كنشاط مادي تحركه عملية الصراع بين قوى منتجة مادية وعلاقات انتاجية، بل انتاجوية – مادية يقع التركيز فيها على الانتاج حتى مقارنة بالتبادل والتوزيع والاستهلاك – فينتج عن ذلك الاقتصاد، بوصفه أساسا ماديّا متحرّكا، كل ما هو اجتماعي من ناحية و، خاصة، كل ما هو بناء فوقي سياسي وما هو وعي اجتماعي ؛ بداية باللغة نفسها ثم كل ما هو علمي وفلسفي وقانوني وديني وأخلاقي وفنّي،الخ.

واضافة الى الفلسفة الكلاسيكية الالمانية، قامت الماركسية بذلك بسبب تأثرها بالماديات الفرنسية والانجليزية أيضا من ناحية، وبالاقتصاد السياسي الأنجليزي من ناحية ثانية، وبالاشتراكية الفرنسية من ناحية ثالثة ؛ فكانت ‘الماتيارولوجيا الألمانية’ ‘ايديولوجيا ألمانية ‘أخرى وبقيت المادية التاريخية فلسفة كلاسيكية ولكن مقلوبة، ولم تتحول لا الى أنتروبولوجيا (و أنتبروبوصوفيا) ولا الى سوسيولوجيا (وسوسيوصوفيا) جديرة بالعلم وبالأنسنة المطلوبين لتحرير الانسان من الرأسمالية تحريرا جديدا بعيدا عن تأثير فلسفات البورجوازية المادية والمثالية والثنائية و، تحديدا، عن ردود الأفعال عليها في نفس الوقت.

 وإننا لذلك نحتاج اليوم الى فلسفة أخرى تجمع بين ‘طبيعولوجيا ‘ جديدة و’انسانولوجيا’ جديدة تنظر الى كل من الطبيعة والمجتمع وفكره نظرة مركبة تحاول إدراك تنوع وتعقد الواقع للشروع في طرح بدائل فلسفية وعلمية وأنسنية جديدة.

ولقد كنا في الموضوعات الثانية حول ‘دور العمل في تحول القرد الى انسان’ قد تعرضنا خاصة لاشكالية ‘أصل الانسان’، وجزئيا لاشكالية تعريفه وتعريف تاريخه، ولكن في إطار محدد مقارنة بداروين. ونودّ أن نبدأ هنا، من داخل التاريخ الآن، بهاتين النقطتين ثم نركّز لاحقا على ‘المادّولوجيا / الاقتصادولوجيا’ التاريخية الألمانية بادئين وقتها طبعا بالجانب الاقتصادي.

4- تعريف الانسان

جاء في ‘الايديولوجيا الألمانية ‘ انّه : «  يمكن تمييز الناس عن الحيوانات بالوعي، بالدين وبأي شيء نريد… وهم أنفسهم يبدأون بتمييز أنفسهم عن الحيوانات ما أن يبدؤوا انتاج وسائل العيش الضرورية لهم، وهذه خطوة يشترطها تنظيمهم الجسدي. وبانتاج وسائل العيش الضرورية ينتج الناس أيضا، بطريقة غير مباشرة، حياتهم المادية بالذات. (الاي. الأل)« 

تحتوي هذه الفقرة على ما يمكن تسميته ‘التعريف بالتمييز’ للانسان ؛ تعريفه بما يميزه عن الحيوان. وهي تقول صراحة بكونه يتعرف/يتميز بانتاج وسائل العيش. وطبعا ماركس وأنجلس وكل انسان يعرفون ان الحيوان ليعيش تلزمه ‘ مواد عيش ‘ بحيث نميز هنا بين ‘مواد العيش’ و’ وسائل العيش’. وهذا يفترض أن الحيوان لا يستعمل وسائل لتحصيل مواد عيشه الا أعضاء جسده نفسها لا غير. ولكننا سبق وبينّا في الجزء السابق من هذه ‘الموضوعات ما بعد –الماركسية’ أن الحيوانات، وخاصة القردة العليا مثل الشامبانزي (الكبير) والشامبانزي الصغير (قرد البونوبو)، تصنع أدوات بسيطة تستعملها في ‘انتاج ‘ مواد عيشها ايضا بحيث تسقط حجة تميز الانسان بصنع الأدوات ليتميز لاحقا في ميدان العمل هذا -بوصفه  »هومو فابير » حسب هنري برغسون – بصنع الأدوات التي تمكن من صنع الأدوات ‘ تحديدا (14).

من ناحية أخرى، ورد أعلاه أن صنع البشر لوسائل العيش يشترطها  » تنظيمهم الجسدي نفسه  » بحيث يمكن أن نسأل، في علاقة بعنصري الوعي والدّين المذكورين، ولكن المرفوضين في الفقرة، عن سبب اختصار تعريف/تمييز الانسان بانتاج وسائل العيش دونا عن غيرها من العناصر طالما أن التنظيم الجسدي للانسان يسمح بعناصر أخرى تعريفية تـمييزية له مثل النطق والوعي وغيرهما.

ان التنظيم الجسدي للانسان، بما في ذلك الانسان الأول، كان تنظيما جديدا ليس فقط في علاقة باليد التي تنتج وسائل العيش، عبر الأدوات الانتاجية البسيطة في البداية والتي ستتطور لاحقا، بل كذلك في علاقة بالدماغ (نوعيا وكميا) ،عبر التفكير أرقى من الحيوان مما سيؤدي لاحقا الى الأسطورة والدين والفلسفة والعلم والفن ،الخ.، وفي علاقة بالحواس والحنجرة واللسان، عبر التواصل بشكل أرقى من الحيوان الذي سيؤدي لاحقا الى ظهور اللغة، وفي علاقة بنوعية التعايش بين الانسان والإنسان، عبر ربط علاقات اجتماعية أرقى من علاقة القطيع عند الحيوان تصبح مجتمعا انسانيا، والتي ترتبط هي نفسها بعلاقة قيادة جديدة، سياسية، تتمأسس لاحقا في الدولة، ،بحيث نجد في المحصّلة أن الانسان لا يتعرف/يتمايز بانتاج وسائل العيش فحسب بل ان تركيبه البيولوجي والتشريحي والوظيفي الجسدي يجعله يتعرف/يتمايز جسديا واقتصاديا واجتماعيا ولغويا- ثقافيا في نفس الوقت دون أن يعني ذلك الغياب المطلق لكل تلك العناصر عند الحيوان بل ،على العكس، بافتراض وجودها بنوعية مختلفة عنده سمحت بتطور انسان عنه .

ان فكرة داروين، التي حاول أنجلس التحايل الفلسفي عليها في مقال ‘دور العمل في تحول القرد الى انسان’ عبر المبالغة في دور اليد حتى مقارنة بالدماغ مثلا، الفكرة المتعلقة بقانون ‘ تناسب النمو’ بين الأعضاء في الجسد تفترض ‘ تناسب الوظائف‘ عند تلك الأعضاء، مع تنظيم الدماغ لذلك التناسب. وفكرة ‘ تناسب النمو’ التي تؤدّي الى ‘ تناسب الوظائف ‘ تحيل الى مختلف الأنشطة الاجتماعية المرتبطة بتلك الأعضاء والوظائف بحيث تجعل حديث ماركس وأنجلس عن التنظيم الجسدي، الذي يعطي الأولوية لانتاج وسائل العيش تحديدا وعبر اليد تحديدا، تسقط لسبب بسيط ؛’

ان الانسان يتميز بكونه ينتج وسائل عيشه بطريقة غير غريزية، اي باستعمال الوعي الانساني تحديدا، مما يجعل تفضيل عنصر’انتاج وسائل العيش ‘ عبر تقديمه على عنصر الوعي لا معنى له، خاصة وأن ماركس نفسه يقول العكس تماما عندما يقارن أمهر نحلة بأسوء مهندس يصنع الشهد الاصطناعي مؤكّدا انه يتفوق عليها لأنه تحديدا  » يصنع الشهد في دماغه قبل أن ينفذه « … بيده. ( 15)

ومن  ناحية أخرى، من الغريب أن يستعمل ماركس وأنجلس هنا عنصر الدّين للاشارة الى عنصر متطور لاحق من الوعي الاجتماعي حتى يسهل تسبيق العمل عليه. ان ذلك يشبه تماما لو استعمل شخص آخر عنصر الزراعة أو التجارةالمتطورتين لاحقا – لاثبات كون الوعي يسبق العمل، في حين أن المقاربة التاريخية المركبة للأمر تفترض الانطلاق من كلّ الأشكال الأولية للاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة التي تزامن وتفاعل ظهورها وتناسب مع « تناسب تطور وظائفها «  عند الانسان لتعرف لاحقا تطورات خاصة حسب كل ميدان. انه من الايديولوجي – بمعنى تزييف الوعي – أن نقارن بين الشكل الأوّلي من العمل وشكل لاحق متشكل من الوعي تماما كما انه من الايديولوجي مقارنة شكل أولي من الفكر وشكل لاحق من العمل.

ولكن يبدو أن ردّ الفعل على الدين تحديدا لعب دورا هنا لأن الانسان، حسب التوحيدية اليهودية والمسيحية والمسلمة، لم يكن يعمل في الجنة الأولى بينما كان الله موجودا وكان الانسان يفكر ويتكلّم ويعي بحيث تظهر أولوية الروح /الفكر الأنطولوجية والزمنية والسببية على العمل في المنظور الديني التوحيدي الكلاسيكي. وليكون ماركس وأنجلس ماديين فانّهما رأيا، وقتها، انه يجب عليهما ‘اثبات’ ان العمل وجد قبل الفكر حتى في علم التاريخ الأرضي للانسان بحيث يجب أن يظهر العمل قبل كل شيء، وخاصة قبل الوعي.

ان الانسان البدائي، اذن، عرف تركيبة جسدية كانت تحتوي على امكانيات كامنة تمظهرت وتحققت وتطورت تدريجيا في جميع الميادين. وليس من التاريخي ولا من المنطقي مقارنة ‘المبدا العام’ لانتاج ‘وسائل العيش ‘ مع شكل اتصالي أو فكري خاص متطور ولاحق (مثل اللغة) أو الوعي (مثل الدين) لأن ذلك توجيه للتحليل بطريقة مبيّتة هدفها الاستنقاص من كل العناصر الأخرى بتقديم اشكالها التاريخية المتطورة اللاحقة والتركيز على الانتاج تحديدا بتقديم شكله التاريخي

الأصلي أو الأوّل انطلاقا من تصور فلسفي « مادولوجي » يريد اثبات أولوية المادة على الوعي أنطولوجيا وزمنيا وسببيا في ‘المادية التاريخية’ باية طريقة كانت كي يستقيم سحب نفس المبدا على التاريخ البشري بعد أن طبق على الطبيعة (بسبب كونها وجدت قبل الانسان ) وبعد تطبيقه على الدماغ البشري (منظورا اليه كمادة عضوية أريد تسبيقها على الوعي بوصف الوعي بأنه حركة فكرية لتلك المادة البيولوجية لاغير)، وكأنه يمكن للدماغ الانساني أن ينتج وعيا دون أن يكون دماغا ‘مجتمعا’ ومثقفا، وهذا ما تكذبه، مثلا، حالة ‘الأطفال المتوحشون’ الشهيرة كما هو معروف (16 ).

انه لا معنى لعمل – بالمعنى الانساني – ولا لتفكير – بالمعنى الانساني – دون مجتمع من ناحية ودون ثقافة من ناحية ثانية. وان ذلك يفترض أيضا سلطة سياسية انسانية ما تنظم المجتمع ويفترض تواصلا ثقافيا انسانيا ما بين البشر مهما كانت تلك السلطة وذلك التواصل بدائيين في الأول. مما يعني هنا ان عبد الرحمان بن خلدون كان اقرب الى العلم من ماركس اذ لم يمنعه حديثه عن الانسان المدني المتشابك الأبعاد بطبعه، و الذي يتطلب من بين ما يتطلّبه وجود سياسة و’وازع ‘ أخلاقي يزع بين الناس، من الاقرار بالأهمية الخاصة لما سمّاه ‘ طرق تحصيل المعاش’ ( 17).

ثمّ انّ هذه الطريقة الماركسية في عرض التحليل التي تقوم بالمقارنة بين شكل أولي (انتاج وسائل العيش) من عناصر تعريف/تمييز الانسان- الذي ظهر منذ حوالي سبعة ملايين سنة – مع شكل لاحق من عناصر تعريفه /تمييزه (اللغة والدين) -لم يظهر الا مع ‘الهوموسابينس’ أو الانسان العاقل الذي لم يظهر الا منذ حوالي سبعمائة الف سنة- تقوم، تحليليّا، في الواقع بحسم النتيجة سلفا عبر المقارنة بين ما لا يجب أن يقارن زمنيّا أيضا. ولكن هذه الطريقة تشير الى مشكل معرفي أكبر كنّا نبهنا الى خطورته عند تعرضنا الى مقال أنجلس ‘ دور العمل في تحول القرد الى انسان ‘، مشكل يلخّصه السؤال :

هل ‘المادية التاريخية ‘ وضعت لتحليل تاريخ ‘ الهوموسابينس ‘- او الانسان الحديث – فحسب أم لتحليل تاريخ الانسان عموما منذ سبعة ملايين سنة ؟

وقبل أن نمرّ الى عرض مفهوم التاريخ لا بدّ من اضافة مسألة ثانية مهمة في تعريف الانسان وهي ان ماركس وأنجلس، في ردّ فعل على انتروبولوجيا فيورباخ مثلا، كانا قد بالغا في تعريف الانسان حصريا بعضويته لطبقة اجتماعية. لقد كتبا مثلا:

« ان نقطة الانطلاق بالنسبة للافراد قد كانتها دائما الأفرد بالذات مأخوذين، طبعا، في إطار ظروف وعلاقات تاريخية معينة وليس بصفة فرد ‘خالص’ كما يقول الايديولوجيون. (…) من كل ما قيل أعلاه، ينبع أن العلاقات الاجتماعية التي دخل فيها أفراد طبقة ما والتي اشترطتها مصالحهم المشتركة ضد طبقة أخرى، قد شكلت دائما جماعية كان هؤلاء الأفراد لا ينتسبون اليها الا بوصفهم أرادا متوسطين، الا بقدر ما عاشوا في ظروف وجود طبقتهم ؛ وقد كانوا في هذه العلاقات الاجتماعية لا كأفراد، بل كأعضاء طبقة » (الاي.الأل )

 يفرق ماركس وأنجلس في الايديولوجيا الألمانية بين الفرد والشخصية و’ الفرد المتوسط ‘ – بوصفه متوسط خصائص أفراد طبقة – بشكل لا يرفضان فيه الحديث عن الفرد وعن شخصيته ولكن بشكل يخصعانهما كليا وحصريا الى الانتماء الطبقي. ان الانسان في الماركسية هو أولا وقبل كل شيء عضو في طبقة اجتماعية، وهذا التعريف يؤدي الى أمرين خطيرين جدّا ؛

 الأول، استنقاص باقي أبعاد الانتماء البشري الى النوع البشري والى الجنس والعرق والجيل والاثنية والطائفة والقومية والعائلة وباقي المجموعات الصغرى (مجموعات العمل والدراسة والصداقة واللعب، الخ) التي هي انتماءات مهمة جدا كاطر انتمائية و/أو مرجعية للانسان تؤثر بشكل كبير في بعض مراحل حياته الفردية والعامة.

أما الأمر الثاني، الناتج عن الأوّل، فهو النظر الى الحقوق الفردية والجماعية -أي الحقوق غير الطبقية – بوصفها ثانوية وشكلية وتحرف الصراع الطبقي – المتمحور حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية- باسم كونها من الحقوق المدنية والسياسية الثانوية.

وإذا كان الأمر الأول يؤدي حتما الى مشكل اختزالي نظري يفسر لنا مثلا رفض لينين لعلم التحليل النفسي الفرويدي واخضاع السوفيات لدراسة نفسية الفرد الى الفيزيولوجيا بشكل أساسي، مقابل قبولهم بعلم النفس الاجتماعي رغم مقاربته دوما بمنظور طبقي، فان المشكل الثاني يؤدي حتما الى مشكل استبدادي سياسي يسيء الى حقوق الأفراد والمجموعات بدعوى أولوية حقوق الطبقات الاقتصادية-الاجتماعية.

ان تاريخ الانسان في الماركسية يختزل كثيرا اختزالا ‘ اقتصادولوجيّا ‘ بسبب كونه ينظر اليه على انه كائن اقتصادي- طبقي بالأساس وعلى انّ كل الأبعاد الأخرى لذلك الانسان هي امّا ناتجة عن البعد الأول و/أو لا أهمية كبرى لها. وان هذا التصور خاطئ معرفيا وخطير سياسيا. انّه هو نفسه ‘ايديولوجيا ألمانية’ أخرى لا غير لأنها ‘مادولوجيا’ و’ اقتصادولوجيا’ لا غير.

5- تعريف التاريخ

مع تحديد أصل الانسان ( كما فعل أنجلس لاحقا في 1876) وتعريفه (كما فعل هو وماركس هنا في ‘الايديولوجيا الألمانية’) يصبح بالامكان التعرض لتعريفهما للتاريخ وكيف بدأ منذ الأول، ولنترك مسألة تعريفه بالصراع الطبقي اللاحق الذي لا ينطبق الا مع بداية انقسام المجتمع الى طبقات مع المجتمع العبودي.ولكن قبل ذلك لا بدّ من الاشارة الى الفكرة الأساسية التالية.

كتب ماركس وأنجلس في آخر الفصل الأول من ‘ الايديولوجيا الألمانية ‘ :

 » نحن لا نعرف سوى علم واحد وحيد، هو علم التاريخ. من الممكن النظر الى التاريخ من جانبين، من الممكن تقسيمه الى

تاريخ الطبيعة وتاريخ الناس. ولكن هذين الجانبين مترابطان بصورة لا انفصام لعراها، فما دام الناس موجودين، فان تاريخ الطبيعة وتاريخ الناس يشترطان أحدهما الآخر بصورة متبادلة. ان تاريخ الطبيعة، أو ما يسمى العلوم الطبيعية، لا يهمنا هنا؛ أما تاريخ الناس فيتعين علينا الاهتمام به، لأن الايديولوجيا كلها تقريبا تتلخص اما في فهم هذا التاريخ فهما مشوّها، وامّا في الانصراف التام عنه. وان الايديولوجيا ذاتها ليست سوى أحد جانبي هذا التاريخ. (الاي.الأل) »

وقبل ذلك بقليل كانا كتبا:  » ولا يجوز أن ننسى أن الحق، مثله مثل الدين، ليس له تاريخ » (الاي.الأل ) .وقبله ايضا تم نقد فكرة البحث عن  » نظام ما في سيادة الأفكار هذه، يجب تقديم البرهان على وجود صلة صوفية ما بين الأفكار السائدة المتتابعة الواحدة تلو الأخرى. » ( الاي.الأل).

لقد سبق وأن عرضنا فقرة من الايديولوجيا الألمانية في الموضوعات السابقة حول ‘أصل الانسان’ ولم نناقشها الا في علاقة بأصل الانسان وتعريفه. ونعيد التذكير بها الآن لنناقشها في علاقة بمفهوم التاريخ تحديدا. ورد في تلك الفقرة:

« …على البشر أن يوجدوا قبل أن يصنعوا التاريخ. ولكن كي تحصل الحياة لا بدّ قبل كل شيء من الشرب والأكل والسكن واللباس وبعض الأمور الأخرى. وان الحدث التاريخي الأول هو اذن انتاج الوسائل التي تمكن من تلبية هذه الحاجيات، انتاج الحياة المادية نفسها (…) والنقطة الثانية هي أنه، بمجرّد تلبية الحاجيات الأولى فان فعل تلبيتها والأداة التي سبق أن اكتسبت في تحقيقها يدفعان الى حاجيات جديدة، وهذا الانتاج لحاجيات جديدة هو الحدث التارخي الأوّل. (…) وان العلاقة الثالثة التي تتدخل هنا منذ البداية في التطور التاريخي هي ان البشر الذين يجددون كل يوم حياتهم يأخذون في انتاج أناس آخرين، ينجبون ؛ انها علاقة الرجل والمرأة،الوالدان والأبناء، العائلة. هذه العائلة التي هي في البداية العلاقة الاجتماعية الوحيدة (…) ولا يجب فهم هذه الأوجه الثلاثة للحياة الاجتماعية كثلاثة مراحل مختلفة ولكن، تحديدا، كثلاثة أوجه (..) ‘لحظات’ متزامنة منذ بدء التاريخ ومنذ البشر الأوائل والتي تتمظهر اليوم أيضا في التاريخ. (…) وهذا ما يقدّم لنا ‘تاريخا’ حتى قبل أن تظهر أية حماقة سياسية أو دينية، اضافية، توحد البشر. والآن فقط بعد تفحص هذه اللحظات الأربع، الأوجه الأربعة للعلاقات التاريخية الأولية، يمكن أن نجد أن الانسان له أيضا ‘ وعي ‘. ولكنه ليس منذ البداية وعيا ‘صافيا’. منذ البداية، توجد لعنة تهيمن على ‘الروح’، لعنة تلوثها بمادة تقدم نفسها في شكل طبقات محركة من الهواء، في شكل أصوات، في كلمة : في شكل لغة… ( الاي.الأل) « 

ونتيجة ما سبق ورد بعد ذلك ان  » التاريخ ليس سوى تعاقب متتابع لأجيال مختلفة يقوم كل واحد منها بتشغيل المواد والرساميل والقوى المنتجة التي أحالتها إليه جميع الأجيال السابقة ؛ ومن جراء هذا، يواصل كل جيل، من جهة، النشاط الموروث عن سابقه ولكن في ظروف محولة تماماً، ويغير، من جهة أخرى، الظروف القديمة بواسطة الانخراط في نشاط مختلف تماماً. (الاي.الأل) « 

ما الذي يجب استنتاجه من هذه الفقرات في خصوص مفهوم التاريخ؟

– أولا، التاريخ يبدأ بوجود البشر،

– ثانيا، وجودهم يفترض الأكل والشرب واللباس..،

– ثالثا، ‘الحدث التاريخي الأول’ هو انتاج أدوات لتلبية تلك الحاجيات،

– رابعا، بمجرد تلبيتها تظهر حاجيات جديدة

– خامسا، اعادة تلبية تلك الحاجيات يكون أيضا، وللمفارقة العددية على الأقلّ، ‘الحدث التاريخي الأوّل’

– سادسا، يبدأ البشر في التزاوج وانتاج بعضهم البعض

– سابعا، هذه كلّها لحظات أولى متزامنة تعطينا انطلاق التاريخ الحقيقي

– ثامنا، وبعد ذلك فقط يظهر الوعي الذي يكون ‘ملوّنا ماديا’ وليس ‘وعيا خالصا’ لأن اللغة- حاملة الوعي – بها طبقات هواء وأصوات، مادية

– تاسعا، يظهر الوعي الذي يكون في شكل حماقات دينية وسياسية تبدو كالزائدة الدودية

– وعاشرا، فيكون الوجود والتاريخ وجودا وتاريخا ماديين قبل كل شيء، أولا، ثم يظهر الوعي وتظهر السياسة لاحقا، ولذلك فان التاريخ الوحيد هو التاريخ الاقتصادي-الاجتماعي أما السياسة والوعي فلا تاريخ لهما، وهذا التاريخ الاقتصادي الاجتماعي هو تحديدا تاريخ وراثة الأجيال لقوى انتاجية ولعلاقات انتاج أولا وقبل كلّ شيء.

ان التاريخ هنا ينظر اليه، كما الانسان ، من ناحية، بمنظور فلسفي أنطولوجي بحيث يصبح فلسفة تاريخ لا تختلف عن تيولوجيا التاريخ’ لأن هدفها الأساسي هو تحديد ‘الخالق الأولّ ‘ استجابة الى سؤال ‘المسألة الأساسية في الفلسفة ‘ كما صاغه أنجلس في ‘فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية’:سؤال ‘ما الذي يوجد أولا؛المادة أم الفكر؟’ ، وهو بسبب تبنّي مادية أنطولوجية ينظر اليه كتاريخ اقتصادولوجي بشكل حصري يوحي بأنه لا تاريخ فعليا الا للاقتصاد بينما بقية التواريخ، السياسية والفكرية تحديدا، ما هي الا مجرد ‘ تواريخ صغيرة ‘ في أحسن الحالات ،هذا ان كانت تواريخ اصلا، لأنها مجرد انعكاس للتاريخ ‘الحقيقي’؛ تاريخ الاقتصاد، وهذا رغم الايمان بالدور’ ‘الانعكاسي لباقي الأوجه (الاي.الأل)’ في التشكيلة الاقتصادية-الاجتماعية’ الكلّية.

وان الأمر الأساسي الذي يجب الانتباه اليه هنا، بعد ضرورة تذكر الفكرة الداروينية المهمة حول تناسب وتزامن النمو بين أعضاء الجسم ووظائفها والميادين المختلفة المرتبطة بها في المجتمع، هو التالي :

انه مثلما يرث كل جيل عن سابقيه مستوى معينا من ‘القوى المنتجة’ المادية وصنفا معينا من ‘العلاقات الانتاجية’ المادية، يرث كذلك مستويات من « القوى » و » العلاقات » الاجتماعية والسياسية واللغوية والنفسية-الثقافية، بل وحتى الدولية في مرحلة ما. وان هذا المعطى مهم جدّا هنا من الناحية المعرفية ويناقض التصور الفلسفي الأنطولوجي في ‘المادية التاريخية’ مع أنه يبدو معطى بديهيا؛ ان كل جيل يجد نفسه مسبوقا أنطولوجيا وزمنيا وسببيا ليس فقط بقوى وعلاقات ‘مادية ‘ بل كذلك بقوى وعلاقات فكرية مثلا. وهذا يعني أن العلاقات الانتاجية ليست وحدها العلاقات « الضرورية، الموضوعية والخارجة عن الارادة » التي يدخل فيها الناس فيها عند  »انتاجهم الاجتماعي لوجودهم » بحيث لا تناسب سوى مستوى معينا من  »قواهم الانتاجية المادية  » كما ورد في مقدمة مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي سنة 1859 بل ان البشر،

اضافة الى العلاقات الاقتصادية، يدخلون ايضا، وفي نفس الوقت، في علاقات جنسية واجتماعية وسياسية ولغوية ونفسية- ثقافية ضرورية، وموضوعية وخارجة عن الارادة، لأنها موروثة عن الأجيال السابقة بالنسبة للجيل الحالي ولأنها اجتماعية عامة بالنسبة للفرد، وهي تناسب مستويات معينة من تطور ‘قواهم’ (في الواقع ممارساتهم الساعية الى تلبية حاجياتهم وليس قواهم فحسب – وسنعود الى ذلك لاحقا) الجنسية والاجتماعية والسياسية واللغوية والنفسية-الثقافية تلك. هذا اذا أردنا استعمال نفس جمل ماركس في نفس مقدمة ‘مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي’ تلك.

ما تأثير هذا على مفهوم التاريخ في ‘المادية التاريخية’ يا ترى؟

ان كتاب ‘الايديولوجيا الألمانية’، كما قلنا أعلاه، وضع لنفسه هدفا أساسيا هو رفض أن يكون للسياسة وللوعي وجود خاص مستقل نسبيا وتاريخ خاص مستقل نسبيا واعتبر ذلك ‘ ايديولوجيا ‘ و’ وهما ‘ ينشره المثقفون لا غير. وان ما سبق يثبت امكان العكس، من ناحية، ولكن دون رفض ‘الترابط’ و’ التاثير والتاثر’ مع الاقتصاد، بل، من ناحية ثانية، وبالنتيجة لما سبق، يثبت كون وجود الاقتصاد نفسه ليس وحده « ضروريا وموضوعيا ومستقلا عن الارادة »، هو وتاريخه، بالشكل الذي تقدمه به الماركسية الذي يجعله يشبه الله الخالق والطبيعة السابقة عن الانسان.

ان الاقتصاد ليس مادة سابقة – هي والاجتماع، عن السياسة والوعي الاجتماعي ومستقلة عنهم و، وحدها، تملك تاريخا بحيث لا يكون لغيرها من وجود سوى كوجود الحركة بالنسبة الى وجود المادة : أي أن تكون خاصيتها التابعة لها والتي لا وجود ولا تاريخ لها سوى وجود المادة وتاريخها نفسيهما.

 وان الاقتصاد ليس فقط ‘اقتصادا سياسيا’ – بالمعنى الكلاسيكي للكلمة – بل هو ‘اقتصاد أنتروبو- اجتماعي تاريخيمتزامن ومتفاعل مع بل ومخترق بكل ما هو غير اقتصادي من بيولوجي وأنتروبولوجي واجتماعي وسياسي ونفسي وثقافي تاريخي. انه، في علاقته بالوعي الاجتماعي مثلا، ليس مثل الطبيعة السابقة (أنطولوجيا وزمنيا وسببيا) عن الانسان ماديا، ولا مثل الله السابق عن الطبيعة مثاليا، لأنه لا يكون اقتصادا انسانيا تحديدا الا اذا كان اقتصادا تتفاعل معه، تأثيرا وتأثرا، و’تتخارق’ معه (يخترق بعضها بعضا) كل أبعاد الحياة الاجتماعية الأخرى وأولها الوعي، وذلك على عكس ‘الاقتصاد الحيواني’.

هنالك اذن تصوران مختلفان عن التاريخ :

 تصور ايديولوجي مثالي مطلق (ديني (الله الخالق للطبيعة والمجتمع) أو هيغلي (الفكرة المطلقة التي تتحقق في تاريخ الطبيعة وتاريخ المجتمع والفكر متجسدة في فلسفة هيغل نفسها) وتصور ايديولوجي مادي مطلق أو ‘مادّولوجي’ و’اقتصادولوجي’ ماركسي (المادة المطلقة والاقتصاد المطلق الذي يدرسه علم الاقتصاد السياسي ‘كما تدرس علوم الطبيعة

 الطبيعة)، تصور لا يختلف عن الأول سوى في توصيف ‘الخالق’ الذي له وحده وجود وتاريخ، وهو وحده الضروري والموضوعي والمستقل عن الارادة وكل ما عداه لا وجود ولا تاريخ مستقلا له. وكل واحد من هذين التصورين يعتبر ايديولوجيا بمعنى ‘ نسق الأفكار السلبي ‘ الذي لا يعبر عن تعقّد الواقع بعقل تركيبي بل يختزله أحاديّا في ‘عنصر حاسم’ يرفعه الى مرتبة الخالق الفاطر القدير والدائم المتحكم في كل شيء في كل مراحل التاريخ، والذي بالكاد يسمح بردود فعل هو من يحدد كمّها واتجاهها بحيث لا تكون سوى عامل ابطاء أو تسريع لحركته دون أن يمنع ذلك مواصلة الحتمية الاقتصادية من أن تشق طريقها عبر قوانينها الخاصة بها، في آخر التحليل.

ان صياغة ماركس وأنجلس القائلة أعلاه انه على البشر « أن يوجدوا قبل أن يصنعوا التاريخ  » هي نفسها، إذا فهم الوجود كمعطى سابق للتاريخ من خلال عبارة ‘ قبل’، قد تعتبر صياغة لا مادية ولا جدلية اصلا اذ كيف توجد ‘المادة’ قبل ‘الحركة’، كيف يوجد الوجود قبل التاريخ؟

ولقد كان من الممكن أن تكون الصياغة صحيحة ولا لبس فيها لو انها كانت تعني الشرطية دون أن تعنى الأولوية الأنطولوجية والزمنية والسببية، ولكن ماركس وأنجلس لم يقفا عند حدّ الشرطية بشكل دقيق ؛ فمع انهما لم يقعا في تناقض مع الجدل حول علاقة المادة والتاريخ باعتبار ذكرهما للتاريخ كلحظة أولى متزامنة مع الاقتصاد، الا انهما اقترفا ذلك التناقض في علاقة ‘المادة ‘ و’الوعي‘ في ‘ المادية التاريخية ‘. انهما حولا الأسبقية الانطولوجية والزمنية والسببية من العلاقة بين ‘الوجود والتاريخ » الى العلاقة بين « الوجود الاجتماعي » و »الوعي الاجتماعي  » بحيث صاغا فكرة انطلاق التاريخ الاجتماعي قبل ظهور الوعي الاجتماعي عبر ما سمياه ‘اللحظات الأربع’ ( صنع الأدوات لتلبية الحاجيات المادية،اعادة صنعها لتلبية اعادة ظهور الحاجيات ،ربط العلاقات الاجتماعية – ذكرا العائلة حينها – وانطلاق ‘التاريخ’ ) التي بعدها فحسب،كلحظة خامسة، تظهر اللغة ‘الملعونة بالمادة عبر’ طبقات الهواء والأصوات ‘ ويظهر الوعي عبر ‘الحماقات الدينية والسياسية ‘.

هنا يوجد تاريخ اقتصادي-اجتماعي قبل أن توجد السياسة ويوجد الوعي الاجتماعي، يوجد ‘الوجود الاجتماعي’ ويكون له تاريخ ‘اقتصادي -اجتماعي’ قبل أن تظهر السياسة ويظهر الوعي الاجتماعي بحيث لا يكون لهما لا وجود مستقل ولا تاريخ مستقل. وهذا ما يطرح سؤالين كبيرين:

كيف يمكن الحديث عن ‘وجود اقتصادي- اجتماعي’ له تاريخ دون وقبل وجود ‘وعي اجتماعي’ في حين أن الاقتصاد الانساني يتميز عن ‘الاقتصاد الحيواني’، وان الاجتماع الانساني يتميز عن ‘الاجتماع الحيواني’، وان التاريخ الانساني يتميز عن ‘التاريخ الحيواني’، من بين عناصر أخرى، بتشابكه بالوعي الاجتماعي تحديدا؟

 ثمّ كيف يمكن الحديث عن امكانية دراسة علم ‘الاقتصاد السياسي’ لمرحلة تاريخية بشرية كهذه لم توجد فيها السياسة بعدُ أصلا ؟ – هذا مع العلم قد عاد أنجلس وأكّد ذلك لاحقا في مقاله الشهير الذي يناقش فيه ‘اللاسلطويين’ والمعنون  »حول السلطة  » بحيث رفض الحديث عن السلطة وبالتالي عن السياسة في المجتمع البدائي بحجة عدم وجود سلطة مركزية، أي دولة (18).

6- التاريخ العام بوصفه تزامن وتشابك وتفاعل التواريخ الخاصة النّسبي :

في الواقع، لا يمكن مطلقا تقديم المسألة بهذه الطريقة التي حاولنا تفنيدها أعلاه. وكي نوضح ذلك أكثر نعود الى فكرة وجود الاقتصاد والمجتمع قبل وجود الدين والسياسة بالطريقة التي قدّم بها ماركس وأنجلس المسألة وكأنها مقارنة بين شكل أولي وأصلي من الاقتصاد والاجتماع وبين شكلين تاريخيين لاحقين (وليس أوليين أصليين) من السياسة والوعي.

ان التاريخ الانساني العام عبارة عن تواريخ اقتصادية واجتماعية وسياسية وفكرية متزامنة ومتداخلة ومتحولة ولو بدرجات وأشكال مختلفة طبعا. ومثلما لا يمكن القول ان الاقتصاد والمجتمع وجدا قبل أن يوجد الوعي وقبل أن توجد السياسة، لا يمكن القول بالعكس أيضا؛ أن الوعي والسياسة قد وجدا قبل أن يوجد الاقتصاد والمجتمع. وان مقارنة وجود الاقتصاد والاجتماع الأصلي الأولي باللغة كوسيلة اتصال متطورة لا حقة أو بالدين كشكل متطور لاحق من الوعي أو بالدولة كشكل متطور لاحق من السياسة يشبه، من الناحية المقابلة، مقارنة الاتصال البدائي ما قبل اللغوي، والوعي البدائي ما قبل تشكل الدين، والسياسة البدائية ماقبل تشكل الدولة، بالزراعة كنشاط الاقتصادي متطور لاحق للاجتماع الانساني البدائي الذي كان اجتماع جماعات بسيطة غير مستقرة في البداية وقائمة على القنص والصيد والجني أساسا.

وهكذا، يمكن الاستفادة المنهجية من فكرة ‘النمو المتوازي’ الداروينية المتعلقة بأعضاء الجسد ووظائفها وتطبيقها على ‘النمو المتوازي’ لأنشطة المجتمع الجزئية (الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة) وتواريخها الخاصّة بحيث يمكن القول انه يستحيل أن يوجد اقتصاد ومجتمع ويكون لهما تاريخ قبل أن توجد السياسة والثقافة ويكون لهما تاريخ ايضا، وبحيث يشكل تشابك وتفاعل أربعتهم، معا وفي نفس الوقت وان بأشكال ودرجات مختلفة، الوجود الاجتماعي الكلي والتاريخ الاجتماعي الكلّي.

ولتوضيح المسألة أكثر نعود الى الطريقة التي قدّم بها ماركس وأنجلس الأمر ونعالج النقطتين واحدة إثر واحدة

أ–

ان القول بأن الاقتصاد والمجتمع يوجدان ويكون لهما تاريخ قبل الدّين الذي يقدّم كشكل لاحق ومتطور من الوعي الاجتماعي يتناسى أمرين مهمّين ؛

أوّلا، يتناسى الأسطورة التي يقال حتى ماركسيّا انها، في عمومها، سابقة عن الدين المتطور المتشكل تاريخيا. واذا كان الوعي الأسطوري نفسه شكلا من الوعي الاجتماعي القديم – الذي يتميز بكونه يمكن (ولكن ليس دائما اذ يدل المثال اليوناني ماقبل الفلسفي على العكس) أن يكون منتشرا بشكل عام وتلقائي وغير متمأسس بحيث لا يعد وظيفة لأناس معينين يظهرون مع تطور التقسيم الاجتماعي للعمل الفكري كما هو حال الدين المتطور الذي عناه كتاب الايديولوجيا الألمانية، فيمكن التساؤل:

لم لم ينتبه ماركس وأنجلس الى قدم الأسطورة الضارب في تاريخ البشر قبل الدّين بحيث يمكن أن يتزامن الوعي الأسطوري مع أقدم أشكال الاقتصاد مثلا؟

وثانيا، ونعود هنا الى علم دراسة الحيوان في بيئته (الايطولوجيا الحيوانية) مع فرانس دو فال تحديدا ( 19). تتمثل أطروحة هذا العالم الهولندي-الأمريكي في كون الأخلاق وجدت قبل الدين وأنها جاءتنا ‘من تحت’، من الحيوان، بفعل وجود غرائر التضامن والتحابب داخل أصناف حيوانية عديدة أرقاها القردة الشبيهة بالانسان التي يقدّم قرد ‘البونوبو‘ كدليل عليها. ان هذه الأطروحة العلمية تقول ان الأخلاق موجودة عند القردة العليا وهي ترتبط بشكل متطور نسبيا من الثقافة المختلف بين قطيع قردة وآخر الى الحدّ الذي يفرض أحيانا على أنثى البونوبو التي تنتقل للزواج من ذكر يعيش مع قطيع مختلف أن تتعلم أشياء جديدة بواسطة نوع من التنشئة الاجتماعية والتربية اللتين يمارسهما القطيع الجديد على الأنثى الوافدة الجديدة لادماجها داخله. انّ هذه الأطروحة تثبت، عكس الماركسية تماما، أنه لايمكن تصور مجتمع انساني وتاريخ انساني قبل ظهور الوعي والثقافة اللذين يفترضان وجود نوع من التواصل الذي سيعطي اللغة لاحقا، طالما انهما موجودان اصلا عند صنف قردة البونوبو الذي هو صنف من أصناف الشامبانزي.

ب–

ان القول بأن الاقتصاد والمجتمع يوجدان ويكون لهما تاريخ قبل ظهور السياسة التي تقدّم كشكل لاحق ومتطور من الوعي الاجتماعي يرتبط بظهور الدولة يتناسى أمرين مهمّين ؛

أولا، ضرورة التفريق بين السياسية بمعناها العام المرتبط بالتنظيم والقيادة في أي اجتماع انساني مهما كان صغيرا – كما بين ذلك ميشال فوكو مثلا – والذي تدل عليه، في العربية مثلا، بعض معاني فعل ‘ساس’ الذي قد ينطبق على سياسة الانسان للحيوان نفسه بمعنى قيادته (ساس الدابّة قادها ووجهها)، وبين السياسة بمعنىاها الخاص الذي يرتبط بنشأة المدينة القديمة وبالتالي بالدولة. وان عدم التفريق هذا يدفع الى طرح سؤال :

لماذا لم ينتبه ماركس وأنجلس الى قدم السياسة بهذا المعنى القديم الضارب في تاريخ البشر قبل الدولة بحيث يمكن أن يتزامن الوعي السياسي هذا (والممارسة السياسية) مع أقدم أشكال الاقتصاد؟

ثانيا، ان أعمالا علمية، مثل التي قام بها كونراد لورنز عن النحل مثلا وغيرها، تقول كلها ان نوعا ما من السياسة الحيوانية يوجد عند كل الحيوانات الاجتماعية التي تعيش في شكل منظم من أصغر الحيوانات المعروفة كالنمل والنحل الى القردة عالية التطور. وان هذا الأمر ،اذا وعينا كون الانسان ليس فقط حيوانا اجتماعيا بل هو أكثر الحيوانات اجتماعية لأنه أكثر منها كلها احتياجا لتلك الاجتماعية بفعل ضعف غريزته وضعف قواه الجسدية التي لا تمكنه من العيش طويلا اذا كان منفردا فيصبح الأكثر اضطرارا ليس فقط الى العيش مع غيره من البشر ليحيا بل كذلك الى تنظيم ذلك العيش الذي بدونه،بدون ذلك التنظيم، يصبح وجود المجتمع بكامله مهددا، وليس فقط الفرد داخله بسبب ما قاله ابن خلدون بطريقته منذ قرون: ان الانسان لا يستطيع لا تلبية حاجياته ولا الدفاع عن نفسه ضد الطبيعة اذا عاش منفردا ولا يمكنه العيش الا اذا كان مدنيا ،اجتماعيا. واذا تمكن الفرد، فرضا، من العيش منفردا فانه سيفقد خصائصه الانسانية مثل ‘الأطفال المتوحشين’. وان ضرورة الاجتماع الانساني هذه تفرض ضرورة التنظيم والقيادة ولو بشكلها البدائي البسيط ؛ تفرض وجود نوع وشكل ودرجة من السياسة. وبذلك لا يمكن أبدا القول بامكانية وجود اقتصاد واجتماع بشريين قبل وجود السياسة بهذا المعنى العام الذي يوجد حتى عند الحيوان كما ذهب الى ذلك في خصوص القردة العليا، بكل وضوح وبشكل أكثر مباشرة من سابقيه، عالم الباليو- أنتروبولجيا الفرنسي باسكال بيك في كتاب له بعنوان ‘هل الانسان قرد سياسي كبير؟‘ (20)، وهو كتاب يمكن اعتباره مع كتاب فرانس دوفال المذكور أعلاه بمثابة ضربتين قاصمتين للتصور الماركسي الكلاسيكي حول نشأة كلّ من السياسة والثقافة.

وهكذا يمكن الاستنتاج ‘بسهولة’ ان الأطروحة الماركسية حول وجود أولوية أنطولوجية وزمنية وسببية للوجود الاقتصادي الاجتماعي ولتاريخه على السياسة واللغة والفكر – بحيث يقدم تاريخ الاقتصاد والاجتماع كتاريخ غير متشابك ومتزامن منذ البدء مع تاريخ السياسة والفكر لتبرير التصور المادولوجي والاقتصادولوجي- انما تسقط لأنها هي نفسها أطروحة ايديولوجية وليست علمية. وان الطريقة العلمية لمقاربة مسألة تزامن وتشابك التواريخ داخل التاريخ الاجتماعي العام عليها بالتالي أن تبحث عن تزامن وتناسب وتحول مختلف تلك التواريخ بشرط المقابلة بين مستوياتها المتقاربة في البنية وفي التاريخ بالمعنى التالي ؛ ان الاقتصاد الأولي البدائي لا يجب أن يقارن باللغة كشكل اتصالي لاحق بل بأشكال الاتصال ما قبل اللغوية المتطورة، ولا يجب أن يقارن بالدين كشكل لاحق من الوعي الاجتماعي بل بأشكال ما قبل دينية كالأسطورة والأخلاق وبما سمّي ‘الدّين الطبيعي’ كما سيوضحه أنجلس نفسه لاحقا -أكثر مما كتبه هو وماركس في الايدولوجيا الألمانية’، ذلك الدين الذي يختلف عن ‘ الدين الاجتماعي ‘ ( 21)، ولا يجب أن يقارن بالدولة كشكل سياسي لاحق بل بأشكال سياسية تنظيمية وقيادية ما قبل المدينة/الدولة توجد حتى عند القردة العليا. هكذا فقط نقارن ما يجوز مقارنته وعيا بتشابك وتزامن البنى المختلفة وتواريخها المختلفة دون سعي محموم للبحث عن العنصر الأولي والحاسم، ‘ في نهاية التحليل ‘.

ان البحث عن العنصر الأولي هو بحث أنطولوجي ديني يؤدي الى تصور التاريخ تصورا خطّيا وغير جدلي، وان البحث عن العنصر الحاسم هو تصور ديني وميكانيكي يؤدي الى تصور التاريخ تصورا أحاديا وغير جدلي، ان الجدل المعاصر يطالبنا بالبحث عن التاريخ كتشابك وتزامن وتفاعل وتكامل وتناقض في نفس الوقت، وهو يدعونا ليس الى البحث عن العنصر الحاسم بل عن التفاعل المحرّك ‘ كما ‘ يمكن أن تعلمنا اياه الفيزياء الحديثة في معادلة انشتاين الشهيرة حول العلاقة بين الطاقة والكتلة والسرعة. فالسرعة هنا (التي ‘يشبهها’ التاريخ) هي معادلة تفاعلية بين الكتلة والطاقة، ولا معنى تماما للسؤال أيهما العنصر الحاسم لأن المسألة مسألة تفاعل، ولو كان غير متوازن. وقياسا، ولكن مع الحذر من الاسقاط، ان التاريخ هنا يصبح نتيجة تفاعل المادة والوعي، تفاعل الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي، تفاعل الكتلة التاريخية (الطبقية -النخبوية) وطاقتها التي هي وعيها وفعلها في نفس الوقت أو ممارستها التاريخية (أقرب الى ‘البراكسيس‘ عند أنطونيو غرامشي ولكن ليس تماما) وذلك ضمن الحركات الاجتماعية- السياسية الكبرى، وسنعود الى هذا في الموضوعات القادمة.

هل يعني هذا اهمال انعدام التوازن في التفاعل وانكار خصوصية دور الاقتصاد؟

لا، ولكن خصوصيّة وخصوصيّة وسنحاول التمييز في ما سيأتي.

7- الاقتصاد والاقتصاد السياسي والاقتصاد الاجتماعي التاريخي

الاقتصاد في اللغات اللاتينية عبارة من أصل يوناني تعني في الأصل ‘ادارة شؤون المنزل ‘ ثم أصبحت تعني، في الاقتصاد السياسي تحديدا، الاهتمام باقتصاد المجتمع/الدولة. وفي اللغة العربية، وغيرها، يعني فعل اقتصد – على وزن افتعل – التصرف بشكل يأخذ بعين الاعتبار العلاقة بين ما هو متوفر وممكن وما هو ضروري وثانوي بحيث يخطط الانسان بطريقة ما في التصرف في أمر آخذا المستقبل بعين الاعتبار بسبب احتمالات الندرة من ناحية واحتمالات عدم القدرة من ناحية ثانية.

وفي الاقتصاد السياسي الماركسي، يعني الاقتصاد ذلك النشاط الهادف الى تلبية الحاجيات المادية بالأساس من غذاء ولباس وسكن وغيره ولذلك لم يكن هنالك مثلا حديث عن ‘الاقتصاد اللامادّي’ في الكتابات الكلاسيكية حتى أن سمير أمين في بعض كتاباته الأخيرة اقترح مثلا اضافة تحليل قطاع جديد ثالث في الانتاج، وبالتالي في السوق الرأسمالية، هوقطاع    ‘ البضائع اللامادية ‘(22) وذلك اضافة الى القطاعين اللذين ذكرهما ماركس في ‘رأس المال’ مثلا ؛ سوق الأدوات والوسائل الانتاجية – قطاع 1- وسوق المواد الاستهلاكية – قطاع 2- .

والاقتصاد السياسي الماركسي هو وريث الاقتصاد السياسي الأنجليزي ويختلف عن ‘علم الاقتصاد ‘ الوضعي بمعناه المعاصر- كما طالب بذلك ليون فالراس مثلا – في أنه يهتم بعلاقة الاقتصاد بالسياسة تحديدا ولا ينظر اليه كنشاط منعزل. ولكن الاقتصاد السياسي الماركسي له طريقته الخاصة في تحليل تلك العلاقة انطلاقا من المادية التاريخية كما رأينا الى حد الآن.

وتقسّم المادية التاريخية الاقتصاد الى قوى انتاجية وعلاقات انتاج ؛ والقوى الانتاجية هي قوى العمل وأدوات الانتاج ووسائل (ومواضيع وفضاءات) الانتاج، أما العلاقات الانتاجية فهي الانتاج بالمعنى الحرفي للكلمة (كفعل على الطبيعة أساسا لانتاج الحاجيات) والتبادل (المقايضة ثم التجارة) وتوزيع المداخيل ( الأرباح والأجور والريع والفائدة ،الخ .) والاستهلاك (المنقسم الى استهلاك منتج-مثل استهلاك مصنع للكهرباء أو للوقود ،الخ.- والاستهلاك النهائي – مثل استهلاك البشر للغذاء) كما وضّح ذلك ماركس جيّدا في الجزء الثاني من كتابه الشهير  »مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي » سنة 1859 ( 23) .

انّ ما يهمّنا هنا قبل أن نختم هذا الجزء من الموضوعات مابعد-الماركسية هو التالي : تبيان كون الاقتصاد متشابك مع الاجتماع والسياسة والثقافة بطريقة أهملتها الماركسية رغم كونها تتبنى منظور’ الاقتصاد السياسي’ وليس منظور ‘العلم الاقتصادي’ دون أن نهمل خصوصية دوره، وذلك كما يلي :

أ- ان أي نشاط اقتصادي يبدأ بالحاجات الاقتصادية (ولن نقول المادية فحسب لأنه، من ناحية، توجد حاجات لامادّية أصبحت موضوعا اقتصاديا (مثل البرمجيات وغيرها) وتوجد حاجات مادية لا تدخل دائما وبالضرورة في الاقتصاد (مثل الحاجة الى التنفس والى التعرض لأشعة الشمس التي لم تدخل الى الاقتصاد (الطبّ مسألة أخرى) الا جزئيا مع السياحة مثلا، الخ). وما يهمنا هنا هو تبيان كون الاحساس بهذه الحاجيات (الذي يمر بالدماغ) وتلبيتها (التي تتطلب العمل و/أو الملكية ) معا، يتشابك فيهما الاقتصاد بالحالة النفسية والثقافية -اللتان توجهان الاحساس – مثلا، ويتدخل العامل السياسي والقانوني – من خلال توفير الاطار الاداري والقانوني للتلبية ،الخ- في ذلك، والعامل الاجتماعي  الذي يحدد الاطر الاجتماعية للاحساس والتلبية في المستويات الفردية والمجموعاتية (الصغرى) والجماعاتية (الكبرى) والطبقية والمجتمعية العامة وصولا الآن الى العالمية بما أن الناس الآن يشعرون بالحاجات ويلبّونها بوصفهم بشرا معولمين .ان مثال المسلمين الذين لايشترون سوى كبشا ذكرا في عيد الاضحى ومثال الهندوس الذين يعبدون البقر ولا يأكلونه حتى لو شعروا بالجوع لوحدهما يعطياننا معنى أن تؤثر الثقافة على الاحساس بالحاجة وعلى تلبيتها في نفس الوقت،والأمثلة الشبيهة عديدة في علاقتها بالنفسية الاجتماعية وبالأخلاق والدين وغيرها.

ب- ان قوى الانتاج متشابكة بنفس الطريقة أيضا مع الاجتماع والسياسة والثقافة ؛ فقوة العمل لا تحددها فقط القوة الطبيعية (العضلية تحديدا للانسان بوصفه ‘حيوانا-آلة ‘) للانسان بل هي قوة اجتماعية تاريخية لأنها ترتبط بنفسية العمل وثقافة العمل العلمية والتقنية والقومية والدينية ،الخ.، وانّه حتى القوة العضلية نفسها لم تعد معطى طبيعيا موروثا بشكل كبير بل هي نتاج تغذية ناتجة عن حجم مداخيل من ناحية وعن نفسية- ثقافية استهلاكية وطبية ورياضية معينة من ناحية ثانية،الخ. وانّ أدوات الانتاج هي نتاج أمرين أساسيين هما الخبرة التقليدية والتقدم العلمي والتقني الحديث، وكلاهما يمر من جيل الى جيل بالتربية والتعليم والتكوين المهني بما يعني تدخل السياسة والثقافة في طابع ومستوى أدوات الانتاج. وانّ وسائل الانتاج، بما في ذلك المواد الأولية التي توفرها الطبيعة، لا تدخل العملية الانتاجية الا اذا كانت تلبّي حاجة ما تتدخل في تحديدها اعتبارات بيولوجية ونفسية واقتصادية وسياسية وثقافية في نفس الوقت، و هي مثلا لا تصبح كذلك الا اذا أثبت العلم والتجربة صلاحيتها وكانت غير مضرة أو مضرة قليلا أو كثيرا وكانت مقبولة أخلاقيا ودينيا أو غير مقبولة وهكذا.

ت- كما ان علاقات الانتاج تعرف نفس الشيء تماما ؛ فالانتاج بالمعنى الحرفي للكلمة يتاثر كثيرا بقوى الانتاج التي كنا بصدد ذكرتفاعلها مع ما هو غير اقتصادي، والتبادل يتأثر بوسائل النقل وبالميول الاستهلاكية وبالقدرات الترويجية التي من بينها وجود أو عدم وجود حواجز جمركية حمائية سياسية أو حواجز نفسية – ثقافية (كترويج لحم الخنزير في البلدان المسلمة او البقر في البلدان الهندوسية) مما يجعله نتاجا تاريخيا لجملة من العوامل المتشابكة، وتقسيم أو توزيع المداخيل يرتبط به عنصر الملكية وشكلها القانوني وموازين القوى الاجتماعية والسياسية وتؤثر عليه اعتبارات بيولوجية ( المحافظة على حياة دنيا للفقراء ) ودينية ( الزكاة والصدقة ومنع الربا وتفضيل التجارة …) وأخلاقية ( التضامن والاحسان وفعل الخير )،الخ. والاستهلاك بصنفيه لا يتاثر فقط بكمّ ما يتوفر للاستهلاك بل بنوعه ارتباطا باجراءات اقتصادية ( قد تتلف بضائع صالحة لترفيع ثمنها ) وسياسية ( الدولة تتدخل في السوق بصك العملة وتنظيم القانون ،الخ. ) واجتماعية ( الميول الاستهلاكية الفردية والجماعية الجنسية (الرجالية والنسائية ) والجيلية والاثنية وخاصة الطائفية، والمجتمعية حسب الشعوب ) ونفسيتها-ثقافتها بحيث نجد أن الدين والأخلاق والقانون والثقافة عموما تتدخل في الاستهلاك (من خلال ثنائيات الحلال والحرام والفضيلة والرذيلة والشرعي وغير الشرعي بالمعنى القانوني) وكذلك الفنّ بتأثير مفاهيم الجميل والقبيح على الاقبال على الضائع بحيث أصبح للفن دور كبير في التأثير على الاقتصاد عموما ،الخ.

اننا اذن أمام تشابك كبير بين الاقتصاد وكل ابعاد الحياة الأخرى. ويؤكد ذلك تشابك العلوم الاقتصادية مع غيرها من العلوم ومع مكونات الحقول النفسية والعلمية والأخلاقية والقانونية والسياسية والدينية وحتى الفنية ؛ فليس مستغربا لذلك أن نجد علوما كالأنتروبولوجيا الاقتصادية التي تعنى بعمومية علاقة الانسان بالاقتصاد،وعلم النفس الاقتصادي (علم نفس العمل والصناعة والتسويق،الخ) وعلم الاجتماع الاقتصادي ( علم اجتماع الشغل والمؤسسات ،الخ) وعلم السياسة الاقتصادي (الذي يختلف عن الاقتصاد السياسي في اختصاصه بدراسة ما يسمى السياسات الاقتصادية ) ومباحث الأخلاق الاقتصادية والقانون الاقتصادي والتدين الاقتصادي وفلسفة الاقتصاد وحتى الجماليات الاقتصادية ،الخ.

 ما الذي يعنيه كل هذا؟

ان الاقتصاد، وان كان ميدانا متميزا يتطلب علما متميزا، هو في نهاية المطاف، مثل غيره من الظواهر، ظاهرة اجتماعية كلّية ‘ بتعبير مارسيل موس (24) بحيث يجب انهاء الخطوط المتوازية التقليدية القائمة بين العلوم التي كانت تنظر الى ميادين اختصاصها ومواضيعها كما لو أنها صناديق منفصلة. ولكن ليس هذا فحسب ؛ ان الاقتصاد بهذه الطريقة لا يمكن أن يسبق أنطولوجيا وزمنيا وسببيا باقي الميادين بما فيها ميادين الوعي، ولا يمكن أن يكون قاعدة وأساسا وبناءا تحتيا هندسيا – طوابقيا لهذه الميادين بما فيها الوعي، لأن التزامن الأنطولوجي التاريخي والتشابك والتداخل البنيوي بينه وبين باقي الميادين يمنع من مقاربة العلاقة بينه وبينها بهذه الخطّيّة – الوجودية /الزمنية من ناحية وبهذه الهندسيّة – الطوابقية من ناحية ثانية، فلا يبقى سوى حل واحد وحيد : مقاربة المسالة بشكل مركّب بسبب تعقّدها، وهنا لا تسعف المقاربة المادية التاريخية، رغم ثراء الاقتصاد السياسي الماركسي، في القيام بذلك  بسبب ‘مادولوجيّتها ‘ و’اقتصادولوجيّتها’. وان على علم الاقتصاد ألاّ يكون اقتصادا سياسيا فحسب، بل أن يكون اقتصادا أنتروبو- سوسيو تاريخيا عاما أيضا، وعليه أن يتأنسن ويتجتمع ويتأورخ من جديد. وعند الوصول الى هنا نعود الى ماركس من جديد لننهي هذا القسم الأول من الموضوعات حول ‘المادّية التّاريخية ‘ بعد أن نمرّ على مسألة خصوصية تأثيرالاقتصاد الفعلية لأننا لا ننكرها.

ان وجهة النظر الماركسية – كما ورد في المقدّمة الأولى لكتاب رأس المال –  » تعتبر تطور التشكيل الاقتصادي للمجتمع بمثابة عملية من عمليات التاريخ الطبيعي … » بحيث لا يمكن بأي شكل للانسان  » أن يتخطى أو يلغي مراحل تطوره الطبيعي المتعاقبة ،الا انه بوسعه اختصار زمن المخاض وتخفيف آلامه« ، وتضيف الموافقة على قول  » ان الحياة الاقتصادية تقدم لنا ظاهرة مماثلة لظواهر تاريخ التطور التي نجدها في فروع أخرى من علم الأحياء (البيولوجيا)..(25)  » وتخلُص الى النتيجة المعروفة في تعقيب ماركس على الطبعة الألمانية الثانية من رأس المال سنة 1873عندما كتب :

 » ان طريقتي الديالكتيكية لا تختلف من حيث الأساس عن المنهجية الهيغلية فحسب، بل هي نقيضها المباشر. فهيغل يعتبر ان عملية التفكير، التي جعل منها ذاتا قائمة بنفسها أطلق عليها اسم الفكرة، هي خالق (ديميورج ) العالم الواقعي، وهذا العالم الواقعي لا يمثل سوى الظاهرة الخارجية لتجلّي الفكرة. أما عندي فالأمر معكوس، اذ ليس المثالي سوى انعكاس وترجمة للعالم المادي في الدماغ البشري.(…) الديالكتيك عند هيغل يقف على راسه، فينبغي أن يوقفه المرء على قدميه ليكتشف النواة العقلانية داخل القشرة الصوفية. (26) « 

ان عملية القلب المناقضة هذه تعني كون الاقتصاد هو‘ الذات القائمة بذاتها’، وهو الاله الخالق (الديميورج) -الأولي أنطولوجيا وزمنيا وسببيا – للفكر، وهو الجوهر الذي يصبح الفكر ‘الظاهرة الخارجية’ لتجليه لا غير، مع أن هذا ‘الاله ‘ في الماركسية له خصوصية مادية بحيث يشبه في اشتغاله عالم الطبيعة (فيوجد ‘ تحت’ الفكر كما توجد الطبيعة ‘ تحت’ الانسان) وينعكس فيه بواسطة الدماغ. وقياسا على مبدأ ‘ وحدة العالم’ التي تكمن في ماديته فلا وجود سوى’ للمادة والحركة’ في المادية الجدلية، فان ‘ وحدة العالم الاجتماعي في المادية التاريخية تكمن بالتالي في اقتصاديته ‘، بحيث لا نجد سوى الاقتصاد وحركته المنعكسة والمتمظهرة في الفكر ،الخ .، ممّا يجعل علم الاقتصاد السياسي يصبح ‘ تيولوجيا اقتصادية ‘ جديدة تقريبا، ولكنها ‘ تيولوجيا طبيعية ‘ مادولوجية-اقتصادولوجية وليس ‘ تيولوجيا الهية’ ميتافيزيقية،ويبدو أنها تاثرت كثيرا بتيولوجيا باروخ سبينوزا، من ناحية، وبالتأكيد بعلم البيولوجيا، من ناحية ثانية. ونحن لا نبالغ هنا في مسالة ‘التيولوجيا’ – ولكن المقلوبة طبعا – اذ نقصد بذلك الذهنية التيولوجية تحديدا بوصفها محددا ادراكيا ؛ اذ يمكن أن نلاحظ هنا في المادية التاريخية – وهو أمر ينطبق عن المادية الجدلية أيضا ولم نوضحه في الموضوعات الأولى بما يكفي – وفي مسألة ‘وحدة العالم’ تحديدا، نوعا من الانزلاق الماركسي من نقاش ‘وحدة العالم’ المادية الى نقاش ‘وحدانية العالم’ المادية تقريبا. ان المادة (وحركتها) وحدها توجد ؛ اننا نقترب من وحدانية المادة المشابهة لوحدانية الله ليس فقط للتأكيد على الخالق بل كذلك على وحدانيته باسم رفض الثنائية أيضا ولكن بنوع من السّبينوزية -المقلوبة أيضا بحيث تتقدم الطبيعة على الله فيزيائيا تجنبا لتقديم الله عليها ميتافيزيقيا – حيث لا نفرق بين الكون والله، بشكل ‘ نصف مادي – نصف صوفي’ يؤمن بحلول الفكر في المادة التي وحدها الموجودة هي وحركتها. ان ‘ الوعي الاجتماعي’ يذوب في الاقتصاد هنا كما ذاب ‘الوعي’ في المادة في المادية الجدلية. وانه لا سبيل الى الحديث عن ‘ تعدد الآلهة ‘ باسم تصور جديد عن ‘وحدة العالم’ الاجتماعي عبر التزامن والتشابك بين الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة. هنالك إله واحد هو الاقتصاد وكل ما عداه من خلقه هو نفسه. ومن ‘وحدة العالم’ المادية ننتقل الى ‘وحدانية المادة’ في فلسفة فيزيائية مادّولوجية واقتصادولوجية جديدة.

ان الماركسية تعتبر الاقتصاد سابقا أنطولوجيا وزمنيا وسببيا عن الفكر، وتعتبره خالقا ماديا وجوهرا ومضمونا وسببا وعلة ،الخ .، وتعتبره بناءا تحتيا تشتق منه الفكر بعد انعكاسه في الدماغ، فنصل عبر طرح المسألة بطريقة كلاسيكية، ولكن مقلوبة، الى اعتبار الاقتصاد كالمادة الجامدة و،خاصة، كعالم الحياة الطبيعي ؛ حتميا، ضروريا، موضوعيا، بينما ليس الوعي الاجتماعي سوى مظهره الذي لا وجود ولا تاريخ له لأنه ليس سوى انعكاسا ذاتيا له في ‘الدماغ الطبقي’، بحيث تصبح مهمة علم الاقتصاد السياسي القيام بعملية تحليل ذلك الانعكاس بايقافه منهجيا على قدميه منهجيا كي يساعد على اعطاء صورة ‘صادقة’ و’غير ايديولوجية’ عن الواقع.

ولكنّ هذه العملية بنتيجتها تبقى حسب رأينا ‘ ايديولوجيا ألمانية ‘ أخرى لا غير لأن المادولوجيا /الاقتصادولوجيا الخالقة والجوهرية لا يمكن أن تكون نظرية علمية وتاريخية ولذلك وجب تجاوزها. انّ تجديدها، كما حاول ذلك، كل على طريقته ولكن من داخل النسق، كلّ من نيكولاي بوخارين (27) وأنطونيو غرامشي (28) مثلا، لا يكفي بدليل سعي الأول لاثبات أرثوذكسيته واتهام الثاني للأول بالتنكّرلجوهر ‘ العقيدة ‘ الأورثوذكسي. لذلك، في الاقتصاد تحديدا، يصبح علينا اليوم واجب الاستفادة من الأنتروبولوجيا الاقتصادية ومن السوسيولوجيا الاقتصادية ومن باقي علوم الاجتماع والانسان لتجديد الاقتصاد السياسي نفسه كعلم، ولخلق مقاربة جديدة لا يمكنها أن تكون سوى تركيبية تحاول إدراك تعقيد الظواهر الاجتماعية فلا تكون لا ايديولوجية – ‘فكرولوجية’ مطلقة ولا ايديولوجية ‘مادولوجية – اقتصادولوجية ‘ مطلقة ولكن لا تكون كذلك مجرّد مقاربة ‘ دائرية ‘ مطلقة كما يذهب الى ذلك ادغار موران كما سنرى الآن راسمين نقطة تمايزنا الأساسية معه هنا.

انّه اذا كان العيب الأساسي في المثالية اعتبارها الفكر خالقا وعاملا حاسما، واذا كان العيب الأساسي في المادية اعتبارها الاقتصاد خالقا وعاملا حاسما، فان عيب نظرية التعقيد الأساسي عند ادغار موران، متأثرة في ذلك نسبيا بنظرية جورج غورفيتش الرافضة للعامل الحسم (29) – ولكن التي بقيت مع ذلك تعطي في تصنيفيتها للمجتمعات دورا مهما للاقتصاد(30) – ودافعة فكرة رفضه للعامل الحاسم تلك الى اقصاها، هو وصولها الى ما تسميه المقاربة ‘الدائرية’ المطلقة التي ترفض حتى الاعتراف بامكان أن يؤثر عامل ما أكثر من غيره في عملية التفاعل والتحول عبر الاكتفاء بتسجيل مبدأ التشابك والتفاعل الدائري بحيث بعد تعريف المجتمع بالاستفادة من ‘نظرية الأنساق’  تعريفا ‘أنتروبو-اجتماعيا’ يؤكّد على التشابك والتفاعل بين جميع مكوناته بشكل دائري ( 31) ‘ كتب ادغار موران مثلا ان الواقع الاجتماعي  » متعدد الأبعاد وان الجدلية بين مختلف العوامل التي تكوّنه تشكّل دائرة من التفاعلات / الانفعالات من دون أن يقدر عامل على تحديد أو التحكم في العوامل الأخرى. (32) » رافضا بذلك دراسة التأثير الخصوصي للاقتصاد على المجتمع وعلى تاريخه.

هنا، نحن أقرب الى ابن خلدون ( في تأكيده على أهمية ‘ أسلوب تحصيل المعاش‘ – وهذا دليل آخر على كون ‘التامل’ بما فيه الميتافيزيقي الخلدوني به جوانب ايجابية جدا (33)) والى ماكس فيبر( في تأكيده على أهمية الاقتصاد في تحليله العام للعلاقة بين ‘الاقتصاد والمجتمع‘ (34)) والى بيار بورديو (في تحاليله الأنتربوسوسيولوجية للاقتصاد مع اعتباره الاقتصاد بمثابة ‘حقل الحقول ‘ بمعنى ما (35) ) والى منظري ‘ اليسار الديكولونيالي’ (الذين يحاولون تجاوز ‘الهوموايكونوميكوس‘ الليبيرالي والماركسي (36) رغم انزلاق بعضهم الى ما يشبه ‘التحليل الثقافوي’ (37) )، من قربنا من ادغار موران لأننا، وان كنا نتبنى المقاربة التركيبية الا أننا، لا نوافق على اطلاقية المقاربة الدائرية المورانية بل نعطي للاقتصاد وزنا خاصا بسبب الخصوصية الهامة العامة للحاجيات التي يلبيها في الحياة، من ناحية، والتي عمقت خصوصية تاثيرها ظاهرة الملكية الخاصة ،من ناحية ثانية، وهنا تحديدا – بعد الاستفادة أيضا نحن أقرب حتّى الى كارل ماركس من ادغار موران ولكن …مع توضيح ضروري: ضرورة التفريق هنا بين الأهمية الأنطولوجية المطلقة والأهمية التاريخية النسبية.

لنذكّر أولا اننا هنا نتحدث عن مسألة الأهمية للانسان وللمجتمعات عموما وليس للأفراد – فتلك مسألة أخرى-، ولنتذكر ثانيا أن ماركس وأنجلس حللا بداية التاريخ البشري بشكل حاولا فيه تبيان امكان وجود اقتصادي-اجتماعي تاريخي قبل ودون سياسة ووعي اجتماعي بحيث تبدو السياسة والوعي الاجتماعي كمفسدات لاحقة للطبيعة البشرية الأولى الطيبة والخيّرة متأثرين في ذلك بجون لوك وجان- جاك روسّو على ما يبدو، وهو ما جعلاهما يتصوران ،لاحقا في الشيوعية، خلف طوماس مور وروسّو وسان- سيمون وشارل فورييه وغيرهم، امكان التخلص من الدولة – من ‘ليفياطان‘ هوبز و’أمير‘ ماكيافيللي-، ومن الدين وحتى من الفلسفة – بوصفها تأمّلا – بتعويضها بعلم وضعي، بحيث ‘نعود’ الى مجتمع الطيبة الأولى في ‘جنة المستقبل’ .وهنا يمكن القول :

ان الاجتماع الانساني قد ينقرض أو، على الأقلّ، قد ينتكس باتجاه الوجود الحيواني اذا فقد الاقتصاد (بمعناه الانساني ورجع الى ‘الاقتصاد الحيواني’) أو الاجتماع (ورج الى ‘الاجتماع القطيعي الحيواني’) أو السياسة (ورجع الى سياسة و’قانون الغاب’ ) أو الوعي (ورجع الى ‘الوعي الحيواني’)، فلا فرق هنا بين الأهمية الأنطولوجية المطلقة عند الاقتصاد وعند غيره.

ولكن بقدر ما يواصل الناس الحياة كبشر ويواصلون صنع تاريخهم كبشر، وبسبب خصوصية الحاجات الاقتصادية التي زاد ظهور الملكية الخاصة في التأثير على القدرة على تلبيتها كمّا وكيفا، يلعب الاقتصاد دورا أكثر وزنا من غيره في عملية التأثير والتأثر والتحول لأنه، خلاف الميادين الأخرى، يرتبط بأكثر الحاجيات الضرورية غير القابلة للتأجيل (و التاجيل من معاني الاقتصاد ) عند عموم البشر وليس عند الأفراد : حاجيات الغذاء واللباس والسكن،الخ.،وهنا، تنتبه الماركسية (ولكن ليس وحدها) الى أهمية الاقتصاد الخاصة، ولكنها تدفع تلك الأهمّية الى أقصاها الأنطولوجي المطلق فتصبح مادّولوجيا واقتصادولوجيا وبالتالي …ايديولوجيا.

لكن هنالك سؤال لا بدّ من توضيح الاجابة عنه بدقّة أكبر: ما معنى عبارة ‘أكثر وزنا’ هذه بما أنه لا يمكن قياس أوزان تأثير الميادين المذكورة كمّيا؟

المعروف في العلم انه  » ‘لا يمكن المقارنة الكمية بين شيئين مختلفين نوعيا الا اذا وجدنا بينهما قاسما مشتركا (38) » كما نفعل مثلا عندما نقول ان الهيدروجين يساهم في تركيبة الماء ضعف الأوكسيجين لأننا نقارن بين عدد الذرات المختلف في هباءة الماء (ذرتا هيدروجين وذرة أوكسيجين).ولكن هل يمكن القيام بذلك في المجتمع بين الاقتصاد والفكر مثلا؟

لا، هنا لا يمكن الاّ اعتماد ‘المناهج الكيفية ‘ في المقارنة ان شئنا. ولكن أليس من التناقض أن نقارن كيفيا بين كميتين؟

في الواقع لا يوجد تناقض لأن المقارنة تقع بين كيفيات وليس بين كميات حتى في الماء المذكور أعلاه. اننا لم نقل ان الهيدروجين يمثل ثلثي لتر الماء والأوكسيجين يمثل ثلث اللتر حتى نتحدث عن مقارنة كمية بالمعنى الحرفي للكلمة. اننا قارنا بين ذرات من نوعين مختلفين تتحد فتكون نوعا ثالثا، ولكن العلم الطبيعي يسعفنا هنا بامكانية التكميم لأنه يعطينا وحدة قياس عددي نقارن بها هي الذرّة. وفي المجتمع الكلي، لا تسعفنا العلوم الانسانية والاجتماعية بهذا رغم كون الاقتصاد من الميادين الأكثر قابلية للقيس، هو وبعض الميادين الأخرى كالديمغرافيا مثلا. فما العمل اذن؟

هنا لا بدّ من التجريد والتأمّل -اللذين يكرههما ماركس وأنجلس قليلا – ؛ هنالك فرق ‘ نوعي فرعي’ (وطبعا هو ليس كالفرق النوعي الفرعي بين نوعي الهيدروجين والأوكسيجين داخل الماء ولكن بامكان المقارنة مساعدتنا دون الوقوع في ما نلوم عليه غيرنا ( 39) ) بين الاقتصاد وباقي الميادين داخل المجتمع الكلي هو التالي :

الاقتصاد هو أكثر ميدان يتبع فيه الانسان /المجتمع الى الطبيعة الوضوعية الخارجية عنه بشكل ضروري بسبب كون تلبية الحاجيات الاقتصادية الحيوية للحياة، والتي لا يمكن تأجيلها مثل غيرها، لا يمكن أن تحصل داخل المجتمع حصريا أو بمجرّد الاحتياج الضعيف الى الطبيعة بوصفها اطارا مكانيا/زمانيا لحياتنا لا غير مثلا. ان ممارسة الجنس تقع بين البشر أنفسهم وهي يمكن أن تتم داخل الطبقات نفسها (غنية كانت أم فقيرة الا عند وجود العبودية الجنسية)، والحاجة الجنسية يمكن تأجيلها أو التخلص منها كثيرا ولسنوات بشكل طبيعي كما هو حال الأطفال (التأجيل) أو الشيوخ ( التخلّص)، وممارسة السياسة تقع بين البشر أنفسهم فلا يحتاجون لممارستها الى موارد موضوعية كثيرة في مراحل كبيرة من التاريخ ويمكن الاكتفاء بقسط بسيط منها وقد لايحتاج تجديدها الى موارد حديدة باستثناء تجديد القبول و/أو الخوف، واللغة تواصل بين البشر أنفسهم نحتاج فيها الى اللسان والجسد قبل أن تظهر الكتابة مثلا ونحن نلبّي الحد الأدنى الضروري من اللغة تلقائيا داخل المجتمع، والوعي،مثل اللغة، به جوانب يمكن الحصول عليها بسهولة نسبية داخل المجتمع (أو على الأقل داخل نفس الطبقة) من خلال العلاقة مع البشر بفعل التربية والتعليم والتثقيف،الخ،.

أما في الاقتصاد المادي وحتى، الفكري الذي يحتاج الى حامل مادي (البرمجيات تحتاج الى حامل مادي كالقرص الليزري أو غيره)، فان البشر يتبعون الى الطبيعة الموضوعية الخارجية بشكل كبير حتى وهم ينتجون منتجاتهم الاصطناعية التي تحاول تعويض المنتجات الطبيعية. وانهم هنا لا يمكنهم الاكتفاء بجسدهم وبالطبيعة كمجرّد اطار لتلبية حاجياتهم كما يحصل في الجنس مثلا، ولا يمكنهم الاكتفاء لملايين السنين بالكلام الشفوي دون حاجة الى الكتابة على محاميل مادية، ولا يمكنهم الاكتفاء بالاتصال المباشر بين بعضهم البعض لممارسة السياسة قبل الاحتياج الى أجهزة ؛ في الاقتصاد،الحاجة ضرورية وملحة وتلبيتها تتطلب الطبيعة كموضوع وتتطلب القوى والأدوات والوسائل والعلاقات. وبسبب هذا ظهرت الملكية الخاصة الاقتصادية باكرا (بقيت في شكل جماعي في الأول ثم ظهرت الملكية الخاصة الفردية) -و لكن تبعتها الجنسية مع العبودية – بينما ظاهرة الملكية الفكرية ظاهرة حديثة ومعها تعمقت أهمية الاقتصاد أكثر لأن فعل تلبية الحاجيات الفكرية نفسها أصبح مرتبطا بالملكية ؛ لم تعد تلبية الحاجيات الاقتصادية ترتبط بالوفرة/الندرة الطبيعية والعمل فحسب بل وبالوفرة/الندرة الطبقية والعمل عند المالكين أيضا.

 ان الانسان يمكنه تلبية حاجيات أساسية جنسية واجتماعية وسياسية وفكرية تكفي لوجوده حيا ولمواصلة التاريخ حتى داخل طبقته الاجتماعية الفقيرة. ولكن داخل هذه الطبقة الفقيرة نفسها لا يمكنه التعويل على تلبية حاجياته الاقتصادية لأنها –طبقته الفقيرة- هي نفسها لا تملك شيئا، أو لا تملك الكثي، بعد ظهور الملكية الخاصة. وان ذلك سيبدأ في التأثير كثيرا على تلبية باقي الحاجيات الجنسية والسياسية والفكرية نفسها بحيث أصبح الموقع في علاقة الملكية يؤثر على مدى قدرة الانسان على تلبيتها واضطر الناس أيضا الى استعمال قوتهم في تلك الميادين لتحسين مواقعهم الاقتصادية. وهنالك أمر منهجي مهم هنا هو التالي :

ان المقارنة هنا ليست كمّية دقيقة بحيث تكون قابلة للقياس الكمي، بل هي مقارنة كيفية بين نوعين فرعيين من الأنشطة الاجتماعية يؤثران على الحياة العامة والتاريخ العام بشكل مختلف، غير متوازن، ولو انه لا توجد امكانية للقيس الكمي كما توجد في مثال عدد ذرات الهيدروجين والأوكسيجين في الماء مثلا بوصفهما نوعين فرعيين يساهمان في تكوين نوع أكبر منهما هو الماء ولكن يمكن المقارنة بينهما عبر وحدة قيس عدد الذرات. اننا لا نستطيع هنا القول ان الاقتصاد ‘ يساهم بذرّتين والفكر(مثلا) بذرّة واحدة ‘ في ‘التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية’. ولكننا نستطيع القول ان الاقتصاد يؤثر أكثر من غيره للأسباب ‘ الكيفيّة الفرعيّة ‘ التي ذكرناها. وهنا نحن أبعد عن ادغار موران ‘ كمّيا ‘ – في هذه النقطة – وأقرب الى ماركس، ولكنّنا أقرب الى ادغار موران ‘ نوعيا‘ – في عموم المنهج – ونرى أن الماركسية كانت بالأساس مادولوجيا واقتصادولوجيا وبالتالي ايديولوجيا ايضا، مثلما يمكن القول ان في فكر ادغار موران ايديولوجيا أيضا ؛ اذ ان انكار الأهمية الخصوصية للاقتصاد ،بقطع النظر عن النوايا، قد لا يخدم سوى المسيطرين الاقتصاديين بفضل الملكية الخاصّة.

وقبل أن نختم، لا بدّ من العودة الى نقطة قد تبدو للبعض تناقضا يخترق الجزئين الأخيرين من هذه الموضوعات : نقطة تنبيهنا الى كون الانسان الحديث هو ‘هوموسابينس’ أو انسان عاقل، بما يعني أهمية دور الدماغ التي قد يفهم منها أهمية دور الفكر مقارنة بكل شيء، ثم اعطائنا وزنا خاصا للاقتصاد، بما يعني نزع تلك الأهمية التي أعطيت للدماغ بدعوى أن الانسان هو اساسا انسان عامل .انه من المشروع أن يبدو هذا تناقضا في الظاهر، ولكن يكفي توضيح ما يلي لتجاوز هذا التناقض الظاهري :

أولا، ان ‘الانسان العاقل ‘ هنا هو انسان نظرية التطور العاقل وليس انسانا آخر. وهذا يعني أنه ‘حيوان عاقل’ ؛ كائن حيّ عاقل.وهذا الانسان العاقل، بوصفه كائنا حيّا، لا يستطيع أن يحيا على أفكاره ؛ لا يستطيع أن يأكل ويلبس وينتعل ويسكن أفكاره ويمارس الجنس والاجتماع والسياسة مع أفكاره .انّه لا يعيش ويفكر مثلما يعيش ويفكر الله الديني التوحيدي ولا مثلما تعيش وتفكر الفكرة المطلقة الفلسفية المثالية. ان معنى العقل اذن هو معنى الحياة بعقل وتعقّل الحياة؛ معنى هو غير مثالي مطلق دون أن يصبح مجرّد معنى مادّي-اقتصادي مطلق لأنه يرى الاقتصاد الانساني ليس كنشاط لآلات بوخارين الحيّة بل كنشاط لكائنات داروين الحيّة. اّنّ كل مثالية مطلقة تسقط هنا، دينية كانت أم فلسفية، ولكن تسقط معها المادولوجية الاقتصادولوجية ايضا لأن الانسان العامل الذي نقصده ليس الانسان العامل الماركسي (ناهيك أن يكون الانسان العامل الليبيرالي) بل الانسان العامل الأنتروبو-اجتماعي التاريخي الذي عندما يمارس العمل ،اضافة الى الطبيعة، يمارسه وهو يسبح في الديمغرافيا الاقتصادية والنفس الاقتصادية والاجتماع الاقتصادي والسياسة الاقتصادية والثقافة الاقتصادية : انه لا يمارسه فحسب داخل ‘الاقتصاد الاقتصادي’ بشكل يحول ‘هوموفابير’ هنري برغسون الى ‘هومو ايكونوميكوس’ عقلانوي (يميني أو يساري)، بل يمارسه داخل الاجتماع التاريخي بوصفه انسانا عاقلا (هوموسابينس) ومتخيّلا (هومو ديمنس) بل أسطوريا (هومو ميثولوجيكوس) ( 40) ولاعبا (هومولودنس) في نفس الوقت( 41).

ثانيا، بعيدا عن ‘المثالية الذاتية الفردية’، التي يعبر عنها ‘السوليبسيسم’ الفلسفي، لا يمكن حتى اعتبار ما قلناه ‘مثالية ذاتية اجتماعية ‘ لسبب بسيط هو أننا عندما قبلنا بالوجود المستقل النسبي للوعي الاجتماعي، وبتاريخه النسبي، أكدنا على تلك النسبية بحيث يبقى التشابك بين الفكر وغيره موجودا، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية، لم نقل ان الفكر سيصبح عنصرا محدّدا كرد فعل على اعتبار الاقتصاد كذلك ولم ننف الوزن الخاص للاقتصاد، بل قلنا ان التفاعل تحديدا هو المحرّك ؛ تفاعل المادي والفكري ضمن الممارسة الانسانية ؛ضمن ‘البراكسيس‘ الانساني. ان صفة ‘الانسان العاقل’ ليست طبيعة انطولوجية جوهرية للانسان بل محصلة تاريخية لمسار تطوره الطبيعي المنطلق من الحيوان ولمسار تطوره الاجتماعي المتمايز عن الحيوان. وان العقل هنا هو نفسه نتاج الطبيعة والمجتمع معا وليس نفيا لهما. وهو يساهم مع الاقتصاد من داخل الاقتصاد نفسه (الوعي الاقتصادي وأوله الحساب الاقتصاد الذي يحوله الليبيراليون الى غايته) ومن خارجه (الوعي الاجتماعي والسياسي والثقافي) في التاريخ من خلال ‘اعادة بناء’ الواقع أو ‘ التفكير في الواقع’ وليس لا بوصفه مجرد ‘انعكاس ذاتي’ له ولا بوصفه مجرّد ‘بناء ذاتي’ له. اننا هنا ضد النظرية الانعكاسية وضد النظرية البنائية ( بمعنى ‘الكونستروكتيفيسم’ وليس بمعنى البنيوية أو ‘الستروكتوراليسم’) ومع تصور ‘اعادة البناء’ (‘الريكونستروكتيفيسم ‘) الذي يجمع بين الانعكاسية والبنائية ويؤلف بينهما في نفس الوقت.وانّ اعادة البناء هذه هي وحدها التي تسمح بفهم الحس المشترك من ناحية وفهم الأخطاء الفلسفية والعلمية وتتجاوزهما من ناحية ثانية لأنها تعترف بوجود الواقع الموضوعي من ناحية ثالثة، ولكن تعترف بامكان تبعية الحس المشترك له وبامكان استقلال الفكر النسبي عنه في نفس الوقت من ناحية رابعة.

وثالثا، اذن، ان الانسان العاقل هو بالتالي، الانسان الجغرافي العاقل والانسان البيولوجي العاقل والانسان الأنتروبولوجي العاقل والانسان الجنسي – الديمغرافي العاقل والانسان الاقتصادي العاقل والانسان الاجتماعي العاقل والانسان السياسي العاقل والانسان الثقافي العاقل والانسان التاريخي العاقل في نفس الوقت ؛ بمعنى ان العقل نفسه ،مثله مثل الاقتصاد، مخترق بكل ماهو طبيعي تاريخي واجتماعي تاريخي في حياة الانسان، وهو يصل الى أقصى درجات استقلاله في ‘العقل الثقافي’ وتحديدا من خلال التجريد مثلما هو الحال في التجريد الديني (التوحيدي ) والفلسفي (الميتافيزيقي) والعلمي (الرياضيات النظرية)،الخ. وان البحث عن وزن الاقتصادي هنا يصبح، من ناحية، بحثا عن وزن ‘الاقتصادي العاقل’ أصلا، ومن ناحية ثانية، بحثا عن الفكري الأنتروبو اجتماعي التاريخي وليس الفكري المطلق و، من ناحية ثالثة، وبالتالي، لا يعني سوى البحث عن معادلة تفاعلية بين الاقتصاد (الذي يزن أكثرعموما) والفكر (الذي يوجه عبر تمثل الحاجات وتحديد المخططات والأهداف …) ضمن الممارسة الاجتماعية التاريخية الكلية التي يكون هدفها المباشر غالبا التحول الى ممارسة اجتماعية – سياسية من خلال الهيمنة السياسية، الآن، على الدولة. وان ذلك تجسده الحركات الاجتماعية-السياسية الكبرى التي انتبه ماركس وأنجلس نفسهما اليها من خلال مفهوم ‘الحركة العمالية‘ عبر تمييزهما ،في البيان الشيوعي مثلا، بين‘الطبقة في ذاتها’ – ولكن ليس بمعنى ‘الشيء في ذاته’ الكانطي غير القابل للمعرفة أصلا – وبين ‘الطبقة لذاتها’ – الطبقة الواعية والمنظمة والمناضلة – ؛ الطبقة الفاعلة/ الممارسة في الاجتماع التاريخي ولكن دون أن يستنتجا كون ذلك يعني الوصول حتى الى البحث في ‘الكتلة التاريخية’ التي تربط في الواقع بين الطبقة وحلفائها ومثقفيها ووعيهم وتنظيمهم وفعلهم في التاريخ كما حاول غرامشي ولكن ضمن بحث انسجن في حدود  » أصول الفلسفة الماركسية ‘ ولم يتخطّه.

وهكذا، ان الحديث عن ‘الانسان العاقل’ ليس نقيضا للاعتراف بوزن خاص للاقتصاد كدافع وازن للحركة التاريخية الكبرى متشابك مع الوعي كمنظور لتمثل ذلك الدافع، وغيره من الدوافع، ولتوجيه تلك الحركة نحو المستقبل. وسنعود الى هذا في الأطروحات المقبلة.

وأخيرا، يمكن القول انّه، بالنسبة الى تناقض مقاربتنا مع المقاربة الماركسية في مسالة العلاقة بين الاقتصاد والفكر مثلا، وبفقرة واحدة يمكننا أن ننهي توضيح المسألة، وإذا كان لا بدّ، باستعمال عبارات من علم الأحياء التي يعتز بها ماركس وأنجلس وذلك بالقول:

 ان الاقتصاد ليس الأب البيولوجي للفكر، بعد زواجه من الأم/الطبيعة (كما لمّح الى ذلك أنجلس بصريح العبارة في أول فقرة من ‘ دور العمل في تحول القرد الى انسان ‘ عندما كتب ان العمل هو مصدر كل ثروة، مع الطبيعة، وهو الذي ‘خلق الانسان’ انطلاقا من تحرّراليد، الخ.) بل انه توأمه البيو- تاريخي، كما هو توأم الاجتماع والسياسة أيضا، من ‘أمهم الطبيعة ‘ ومن أب آخر هو ‘ التاريخ الطبيعي‘ (كما وضح ذلك داروين منذ كتابه ‘أصل الانسان والاصطفاء الجنسي ‘ وفعل كثيرون غيره من بعده). واذا كان الماركسيون سيصرّون، بعد ورغم هذا، وبكل وثوقية على محاولة اثبات نزول الاقتصاد الأول من بطن أمه – الطبيعة، قبل ثلاثي الاجتماع والسياسة والفكر، فاننا سنعتبر ذلك دخولا في ‘نقاش بيزنطي’  أشبه بنقاش العامة حول البيضة والدجاجة دون معرفة علوم الطبيعة وهو نقاش، زيادة عن ذلك، حول حدث وقع منذ ما يقارب سبعة ملايين سنة تنفي البيولوجيا والباليو-أنتروبولوجيا والايطولوجيا الحيوانية للقردة العليا نفسها الى اليوم الرواية الماركسية عنه، وسنسجل الأمر المهمّ : المطالبة بالاعتراف بالتزامن والتشابك والتفاعل بين رباعي الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة الذي، هذا الأخير(التفاعل)، لا يكون متوازنا فعلا بل هو لصالح الاقتصاد ولكن ليس بشكل أنطولوجي وطوابقي وجوهري مطلق بل بشكل تاريخي وتشابكي ونسبي. وان المهم هنا هو تسجيل أن المقاربة الأنطولوجية -الالهية (الخالقة) والهندسية -الطوابقية (الرّافعة) والمادولوجية – الاقتصادولوجية (المحدّدة ) انتهت بوصفها هي نفسها ايديولوجيا لأنها مقاربة جوهرية – ماهوية تعتبر الاجتماع والسياسة والفكر مجرّد ظواهر يخلقها ‘ ديميورج’ الاقتصاد، وانّه يجب بالتالي تسجيل وجوب أن تخلفها مقاربة ‘انسانولوجية/أنسنية ‘ و’جدلية/ تركيبية’ جديدة، دون أن يعني ذلك تبني مقاربة مورانيّة ‘ دائرية تفاعلية مطلقة ‘ تؤدّي الى نفي تسجيل الأهمية الخاصة للاقتصاد في الاجتماع الكلي وفي التاريخ الكلّي وقد تزرع أوهاما ‘انسانوية’ جديدة لا غير.ورغم أنّ موضوع نقد ادغار موران موضوع آخر، الا أنّنا نريد أن نسجّل كونه هو بدوره مارس نوعا من رد الفعل على ماركسيته الاقتصادولوجية السابقة – وهي ظاهرة قديمة تدل عليها ردود فعل تحليلية- نفسية ( 42) وأخرى تحليلية – تواصلية ( 43) وحتى ردود فعل سياسية وسياسية- ثقافية عند قادة مثل لينين وغرامشي ( 44) – ونتحسّس ضرورة نقده في أمرين أساسيين من ناحية منظوره الاجتماعي والأنسني تحديدا ؛ أ- سيطرة النزعة الأنتروبولوجية التي تؤدّي الى نوع من ‘الأنتروبولوجيسم الفكري’، و- ب- سيطرة النزعة ‘الميتامورفوزية’ التي تؤدّي الى نوع من الاصلاحية أو من ‘الرّيفورميسم السّياسي’ ( 45).

 

خاتمة مؤقتة : حوصلة مؤقتة لنقاط الاختلاف مع المادية التاريخية بوصفها ايديولوجيا مادّولوجيّة – اقتصادولوجيّة

يمكننا الآن، بعد الأجزاء الثلاثة من هذه الموضوعات، تلخيص نقاط الاختلاف مع المادية الجدلية والمادية التاريخية التي جعلتنا نعتبرها ‘ايديولوجيا ألمانية’ أخرى؛ ايديولوجيا مادّولوجيّة واقتصادولوجيّة، في ما يلي:

1-لا يجب طرح المسألة الأساسية في الفلسفة طرحا أنطولوجيا من ناحية وطرحا علمويا من ناحية ثانية لأن الأول مجرد قلب للدين والمثالثية المطلقة والثاني يؤدي الى فلسفة وضعية جديدة لا غير

2-لا يمكن طرح مسألة وحدة العالم بالطريقة الماركسية التي لا ترى سوى المادة وحركتها فنعتبر الحياة الاجتماعية والوعي الاجتماعي أيضا من ‘حركة المادة’ لا غير كما ورد في مقدمة ‘ديالكتيك الطبيعة’  التي ذكرنا منها اقتباسا صدّرنا به المقال بحيث،حتى قبل أن نصل الى المجتمع الانساني، نبسط المسألة فلسفيا (باسم اختلاف المفهوم الفلسفي عن المادة عن المفهوم العلمي عنها) بحيث لا ندرك التنوع في تلك الوحدة المادية (بين المادة والمادة المضادة والفراغ تحديدا) ولا نرى الحيوانات مثلا سوى مادة عضوية حية لاغير مما قد يكون له نتائج بيئية وايتيقية كارثية ،ولا تسل عن المجتمع الانساني ووعيه ان نظرنا اليهما على أنهما ،هما بدورهما حركة أخرى للمادة لا غير باسم تجنب المثالية والثنائية

3-لا يمكن النظر الى ‘قوانين الجدل’ كما كان ينظر اليها بوصفها تناقضا بالأساس مع اهمال التكامل والحياد، ولا يمكن تجاهل القفزات النوعية الفرعية أو الجزئية بسبب ثنائية التطور الكمي والقفزة النوعية، ولا يمكن فهم التأثير والتاثر ونسيان اللاتأثيرو اللاتأثر النسبيين، ولا يمكن فهم نفي النفي ونسيان اثبات الاثبات ولا يمكن مواصلة تبني النظرة التطورية رغم جزئيتها

4-وان العلاقة بين ‘مقولات الجدل’ غيرتها العلوم الحديثة بحيث ان ثنائيات الضرورة /الاحتمال والحتمية /الحرية والموضوعية /الذاتية والمكان/الزمان وغيرها تعدّلت كثيرا بعد النظرية النسبية وتزايد الوعي بمكانة الفوضى والصدفة والحادثة واللايقين والاحتمال فتغيرت الفكرة القديمة عن الحتمية والطريقة القديمة في تفسير السببية

5- في الايديولوجيا الألمانية 1845-1846، ولكن في ملاحظة كتبت على الهامش على فكرة، قال ماركس وأنجلس انهما سيهتمان فقط بالتاريخ الانساني ولن يهتما بالتاريخ الطبيعي، ولكنهما اقتربا من التاريخ الطبيعي للانسان ثمّ عمق أنجلس المشكلة لاحقا بكتابة ‘دور العمل في تحول القرد الى انسان’ الذي أدرج ضمن كتاب ‘ ديالكتيك الطبيعة ‘ تحديدا وليس ‘ديالكتيك التاريخ’…

6- لم يكن الانسان في البداية قردا شجريّا عاشبا كما كان يعتقد أنجلس لأن أشقاءه الشامبانزي والأورانغ-أوطان قردان كالشان وهو نفسه قد يكون، في أقدم مراحل تاريخيه، من بين أكلة الديدان والحيوانات الصغيرة مثلهما…

7- صحيح ان من ميزات الانسان استقامة أو انتصاب قامته، ولكن ذلك يلاحظ مؤقتا عند القردة عالية التطور من ناحية، ومن ناحية ثانية قد يكون خاصية جينية موروثة عن كائنات سابقة اصلا خاصة وأن علوم الطبيعة تثبت وجود زواحف وديناصورات تستعمل الأرجل فقط في المشي وهو حال كل الطيور أيضا…

8- ان استقامة الانسان واختصاص الأرجل في المشي وتحرر الأيدي من تلك الوظيفة لا يرتبط بالتالي بالعمل الانساني بالطريقة المبالغ فيها التي يصفها بها أنجلس ومن بعده كل الماركسيين بدليل كون الحيوانات المذكورة تعتبر أمثلة مضادّة…

9- ان ذلك التحول في هيئة الانسان لا يرتبط بشكل مبالغ فيه تحديدا بصنع أدوات العمل لأن الانسان، على عكس ما تقوله الماركسية الكلاسيكية، ليس مجرد ‘هوموآبيليس’، حيوانا ماهرا أوحاذقا –أو ‘حيوانا صانعا للأدوات’- بشكل يجعله يتميز بذلك، بدليل كون الأدوات توجد عند أصناف كثيرة من الحيوانات وخاصة عند القردة العليا كالشامبانزي…

10- ان اليد ليست هي ‘خالقة’ الجسد الانساني كما كاد يكتب أنجلس اتساقا مع فكرة كون العمل (الذي يستعمل اليد) هو خالق الانسان ليجعل منها العضو الأساسي حتى مقارنة بالدماغ الذي يبدو تطوره كنتيجة لتطور اليد …

11- ان تطور الدماغ وان ارتبط بكل أعضاء الجسم، بما فيها اليد، وفق مبدأ ‘ تناسب النمو’ الدارويني ليس مرتبطا بالدور ‘الحاسم’ لليد كما تقول الماركسية بل بشبكة من العوامل منها ما قد يكون ناتجا عن قفزة بيو- جينية جعلت الدماغ الانساني يتطور كمّا وكيفا…

12- ان تطور الدماغ ارتبط أيضا بالأنشطة غير الانتاجية المباشرة أصلا كالدفاع والاجتماع والتواصل والتفكير وهو كان ميزة مهمة جدا مكنت الانسان العاقل من الصمود والبقاء مقابل انقراض الأصناف البشرية القديمة الأخرى والتي منها ‘الانسان الواقف’ الذي استقامت هيأته و’الانسان الماهر’ الذي صنع الأدوات…

13- انّه لا يمكن بالتالي القول ان العمل هو الذي خلق الانسان، بل ان الطبيعة هي التي خلقته وخلقت فيه امكانيات ضمنية متنوعة تطوّرت مع التاريخ واستقرّت مع الانسان العاقل وثبّتت ووُرّثت لباقي اجيال الانسانية…

14- ولا يمكن بالتالي تعريف الانسان بالعمل كعنصر ‘حاسم’ وخاصة كعنصر ‘خالق’ و’أولي أنطولوجيا وزمنيا وسببيا ‘ مقارنة بغيره…

15- وا ن الاقتصاد الاجتماعي لا يمكن أن يوجد دون وقبل وجود شكل ما من الوعي الاجتماعي لأنه لا يكون اقتصادا انسانيا يتميز عن ‘الاقتصاد الحيواني’ الا، من ضمن عناصر أخرى، إذا ارتبط بالوعي تحديدا بوصفه ‘اقتصاد ثقافة’ وليس ‘اقتصاد غريزة’ …

16- ولا يمكن اعتبار الاقتصاد بناءا تحتيا وأساسا لبناء فوق سياسي ولوعي اجتماعي لأنه لا يحتل طابقا في بناية المجتمع أصلا بل هو نشاط متداخل مع كل الأنشطة الأخرى بوصفه، مثلها، ظاهرة اجتماعية كلية…

17- وانه لا يمكن بالتالي أن يكون للاقتصاد تاريخ سابق وخاص دون وقبل وجود تاريخ اجتماعي وسياسي وثقافي بمعانيه البسيطة على الأقل، والتي ستتطور كلّها لاحقا …

18- وان السياسة توجد بمعناها العام الأولي حتى عند القردة العليا كما بين باسكال بيك مثلا وهي بالتالي ليست لاحقة للاقتصاد…

19- وان الثقافة توجد بمعناها العام الأولي حتى عند القردة العليا كما بين فرانس دو فال وهي بالتالي ليست لاحقة للاقتصاد…

20- وان الحاجيات الاقتصادية ،التي ليست كلها مادية مثلما أن الحاجيات المادية ليست كلها اقتصادية، والاحساس بها لا يتم عند الانسانية الا بالدماغ المُجَتْمع والمُثَقَف عند الانسان، وان وجود وتطور قوى الانتاج وعلاقات الانتاج نفسهما متزامنين ومتشابكين مع الاجتماع والسياسة والثقافة طالما ان العلم نفسه (وهو وعي) وتنظيم العمل (وهو جزئيا ‘سياسة اقتصادية’) يعتبران قوة انتاجية مندرجة في علاقات انتاجية، بحيث لا يمكن النظر الى الاقتصاد نظرة ‘فيزيولوجية اقتصادية’ كأنه نشاط ‘لآلات حيّة’ ولا يمكن فصل علم الاقتصاد الا اجرائيا عن الجغرافيا والبيولوجيا والديمغرافيا والأنتروبولوجيا وعلم النفس والسوسيولوجيا وعلوم السياسة والثقافة والتاريخ …

21- وللسياسة (البوليتوسفير) وللثقافة (النووسفير) وجودان مستقلان نسبيا عن وجود الاقتصاد (الايكوسفير) والاجتماع (السوسيوسفير) يفرضان اعتبار استقلال وجود الاقتصاد نفسه استقلالا نسبيا عنهما لأنه ليس لا خالقا أوليا ولا أبا بيولوجيا ولا حاملا هندسيا ولا جوهرا قائما بذاته يتمظهر فيهما لاحقا …

22- وللسياسة وللثقافة تاريخان مستقلان نسبيا عن تاريخ الاقتصاد يفرضان اعتبار استقلال تاريخ الاقتصاد نفسه استقلالا نسبيا عنهما لأن مساره، حتى لو حددناه بالعلاقة بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج، ليس منفصلا عن مسار تاريخ السياسة والوعي والثقافة…

23- وليس مطلوبا لا من الفلسفة ولا من الاقتصاد السياسي دراسة الاقتصاد، على طريقة البيولوجيا، وكأنه عملية ‘طبيعية تاريخية’ بل دراسته كعملية ‘اجتماعية تاريخية’ لا تختلف، جوهريا، في موضوعيتها عن موضوعية دراسة الاجتماع والسياسة والثقافة بوصفها جميعا ميادين خاصة من حيث العلاقة بين الضرورة والحرية والموضوعية والذاتية

24- وان كل هذا لا ينفي الاعتراف بالأهمية الخصوصية للظاهرة الاقتصادية ليس فقط لخصوصية الحاجيات التي تلبيها بل كذلك بسبب وزن الملكية الخاصة التي ظهرت في مرحلة تاريخية، ولكن مع ضرورة تفريق تلك الأهمية التاريخية عن الأهمية الوجودية اذ تقاس الأهمية هنا بوزن تأثيرها على الأحياء وهم يصنعون تاريخهم وليس بصفتها شرطا أنطولوجيا للحياة نفسها اذ في ذلك لا تختلف عن الظواهر الاجتماعيية والسياسية والثقافية إذا لم نربطها بالافراد بل ربطناها بالمجتمعات البشرية…

25- وليس مطلوبا القيام بذلك باسم العلم الايجابي (الوضعي) الذي، ان فعل ما سبق، سيتحول هو نفسه الى ايديولوجيا مادولوجية واقتصادولوجية تعلن، اضافة الى ما سبق، ليس النضال ضد الرأسمالية لتحقيق الاشتراكية فحسب بل تعد أيضا، مثل الدين ومثل فلسفة هيغل المثالية، بنهاية سعيدة لتاريخ البشرية عبر ما يشبه العودة الأبدية الى مرحلة طيبة الطفولة الانسانية الروسوية بتحقيق الجنة المستقبلية ولكن الأرضية، وعلى الطريقة السان- سيمونية، دون أن يعني ذلك عدم نقد الرأسمالية وعدم الدعوة الى تجاوزها.

ولعل خير ما نختم به هذا الجزء هو التذكير برفضنا لاعتبار الحياة الاجتماعية والوعي الاجتماعي مجرّد شكلين من أشكال حركة المادة لاغير كما كتب أنجلس في مدخل ‘ ديالكتيك الطبيعة’ الذي صدرنا به هذا المقال، ومن ثمة التذكير بقول ابن خلدون الذي صدّرناه به أيضا – رغم حدود منظوره الميتافيزيقية الاسلامية التي عوضت التاريخين الطبيعي والبشري بالله – لما فيه من دقة علمية ‘ تجريبية ‘ استثنائية انتبهت الى ضرورة تجنب تعريف الانسان تعريفا أحاديا وحاولت تعريفه تعريفا متشابكا ومركبا بحيث تزامنت في التعريف /التمييز عن ‘الهمل من الحيوانات’ كل العناصر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ( الثقافية الفكرية والاخلاقية ولكن ليس الدينية هنا لأن ابن خلدون مثلا لا يشترط النبوة للاجتماع البشري) وجاء فيه :  » إنّك تسمع في كتب الحكماء قولهم : ‘إنّ الإنسان مدنيّ الطبع’… ومعنى هذا القول : أنّه لا تمكّن حياةَ المنفرد من البشر، ولا يتمّ وجودُه إلّا مع أبناء جنسه، وذلك لما هو عليه من العجز عن استكمال وجوده وحياته، فهو محْتاج إلى المعاونة في جميع حاجاته أبدا بطبعه، وتلك المعاونةُ لا بدّ فيها من المفاوضة أوّلا، ثمّ المشاركة وما بعدها، وربّما تفضي المعاملةُ عند اتّحاد الأغْراض إلى المنازعةِ والمشاجرةِ، فتنشأ المُنافَرة والمُؤَالَفة، والصَّداقة والعداوة، وتؤول إلى الحرب والسِّلم بين الأمم والقبائل، وليس ذلك على أيّ وجه اتّفق، كما بين الهَمَل من الحيوانات، بل البشر بما جعل الله فيهم من انتظام الأفعال وترتيبها بالفكر كما تقدّم، جعل ذلك منتظما فيهم، ويسَّرهم لإيقاعه على وجوه سياسيّة وقوانينَ حكميّة، ينكِّبُون فيها عن المفاسد الى المصالح،وعن القبيح الى الحسن، بعد أن يميزوا القبائح والمفسدة بما ينشأ عن فعل ذلك عن تجربة صحيحة وعوائد معروفة بيهم، فيفارقون الهمل من الحيوانات، وتظهر عليهم نتيجة الفكر في انتظام الأفعال وبعدها عن المفاسد… ».

15-05-2021

 

المصادر البيليوغرافية

1- موضوعات ما بعد- ماركسية: الجزء الأول – حول المادية الجدلية ،18أفريل 2021.انظر صفحة الكاتب على فايسبوك في انتظار تنزيل المقال على موقع ‘ نشاز’ بعد مراجعته النهائية.

https://www.facebook.com/mustapha.aloui

2– موضوعات ما بعد- ماركسية: الجزء الثاني – أصل الانسان وتعريفه في ‘ دور العمل في تحوّل القرد الى إنسان ‘ لفريديريك أنجلس،23 أفريل 2021. نفس الملاحظة: انظر صفحة الكاتب على فايسبوك في انتظار تنزيل المقال على موقع ‘ نشاز’ بعد مراجعته النهائية.

https://www.facebook.com/mustapha.aloui

3– فريديريك أنجلس،لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية،ضمن كتاب ‘حلو الدين،دار الطليعة،بروت،1974،ص.170-171.

4– كارل ماركس وفريديريك أنجلس، الفصل الأول من ‘الايديولوجيا الألمانية،1845-1846. نسخة موقع ‘الحوار المتمدّن’ مع الحذر من نقص بعض الفقرات وأخطاء الرقن ومع الاعتذار عن صعوبة تحديد الفقرات في النص. وكل الفقرات المقتبسة من النص بعد هذه الاحالة الأولى اليه ستحمل اختصار (الاي.الأل)

5– شارلز داروين، أصل الانسان والاصطفاء الجنسي، النسخة الفرنسية أدناه، ص.79.

http://classiques.uqac.ca/classiques/darwin_charles_robert/descendance_homme/descendance_homme.html

6– بيار موسّو،’العلم السياسي’ عند سان- سيمون ضدّ اليوطوبيا،2000. بالفرنسية على الرابط أدناه.

https://www.persee.fr/doc/quad_0987-1381_2000_num_42_1_1458

7– تيار دو شاردان في ‘الظاهرة الانسانية’ ثم في ‘مكانة الانسان في الطبيعة’ (بالفرنسية)

Theillard De Chardin, Le phénomène humain, Paris, Seuil, 1955.

Theillard De Chardin, La place de l’Homme dans la nature : le groupe zoologique humain, Paris, Albin Michel,1956.

8– ادغار موران، المنهج-4: الأفكار (بالفرنسية)

Edgar Morin, La méthode 6, les idées, Paris, Seuil, 1991, pp.103-209.

9– نيكولاي بوخارين، نظرية المادية التاريخية: دليل شعبي لعلم اجتماع ماركسي (1921) (بالفرنسية)، ص.290.

http://classiques.uqac.ca/classiques/Boukharine_N/boukharine.html

10– قد يكون من المفيد ايضا اعادة تقييم كتاب ليون تروتسكي المعنون ‘ أخلاقهم وأخلاقنا ‘ للنظر في سيادة نفس طريقة الفهم منحيث المنظور رغم الاختلافات السياسية.

11‘التنظيم العلمي للعمل‘ أو ‘الادارة العلمية للمؤسسات‘ حسب تعبير صاحبه هو تصور لادارة المؤسسات ينسب أساسا الى فريديريك وينسلو تايلور (ومن لقبه وجدت ‘التايلورية ‘ التي ارتبطت ‘بالفوردية’ (نسبة الى فورد مؤسس صناعة السيارات الأمريكية)

12– أنطونيو غرامشي، الأمريكانية والفوردية، ضمن ‘كراسات السجن’، تعريب عادل غنيم، دار المستقبل العربي، القاهرة،1994،ص ص.293-298.

13‘مدرسة العلاقات الانسانية‘، من أعلامها التون مايو، جاكوب مورينو وكورت ليفين وحتى أبرام ماسلو، وهي عقبت التايلورية الفوردية في الولايات المتحدة.

14– هنري برغسون، التطور الخلاق، النسخة الفرنسية

Henri Bergson, L’évolution créatrice (1907), P.U.F, 2007, pp.138-140.

15– كارل ماركس، رأس المال، المجلد الأول، (بالفرنسية)

Karl Marx, Le Capital, livre 1, P.U.F, 1993, p.200.

16– لوسيان مالسون، الأطفال المتوحشون (بالفرنسية)

Lucien Malson, Les enfants sauvages, U.G.E-10/18,1964.

17-عبد الرحمان بن خلدون، المقدّمة، فصل ‘ في أن أجيال البدو والحضر طبيعية’. ويمكن قراءته على الرابط التالي:

https://sources.marefa.org/مقدمة_ابن_خلدون/الفصل_الأول_في_أن_أجيال_البدو_و_الحضر_طبيعية

18– فريديريك أنجلس، مقال ‘ حول السلطة ‘،1872.

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=82346

19– فرانز دو فال، ‘البونوبو والله ونحن’ (بالفرنسية) أو ‘البونوبو والملحد’ (بالأنجليزية )

Frans De Vaal, Le bonobo, Dieu et nous : à la recherche de l’humanisme chez les primates, éd. Les liens qui libèrent, Paris, 2013.

20– باسكال بيك، هل الانسان قرد سياسي كبير؟ ( بالفرنسية )

Pascal Picq, L’homme est-il un grand singe politique ?, Odile Jacob, Paris, 2011.

21– فريديريك أنجلس يعود في بعض كتاباته اللاحقة (مثل فيورباخ ونهاية الفلسفة…) ليشير الى تفريق بين ما يسميه ‘الدين الطبيعي’ الذي يبدو انه هيمن في المشاعية البدائية و’الدين الاجتماعي’ الذي ظهر مع العبودية. ولكن مقدمة الفكرة موجودة في الايديولوجيا الألمانية نفسها.

22– سمير أمين يقترح ذلك خاصة في كتبه التي كتبها مع انطلاق مرحلة العولمة مثل كتابي  » نقد روح العصر » و » ما بعد الرأسمالية المتهالكة » وغيرهما.

23– كارل ماركس، القسم الثاني من كتاب مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي (1859) بعنوان ‘مقدّمة لنقد الاقتصاد السياسي’ حيث حلل في المقدمة والفصلين الأولين العلاقة بين الانتاج والتبادل والتوزيع والاستهلاك. انظر (بالفرنسية)

Karl Marx, Contribution à la critique de l’économie politique, Ed. sociales, Paris, 1972, pp.149-164.

24– مارسيل موسّ، الظاهرة الاجتماعية الكلية انظر مثلا:

Jean Cazeneuve, Mauss, P.U.f, coll.Sup philosophes, 1968, pp.44-50.

25– كارل ماركس، المقدمة الأولى للطبعة الألمانية من رأس المال، 1867ـ بالفرنسية – نفس المرجع أعلاه، ص.3-8.

26- كارل ماركس، تذييل الطبعة الألمانية الثانية من رأس المال،1873 – بالفرنسية- نفس المرجع، ص.17.

27– نيكولاي بوخاري، في ‘نظرية المادية التاريخية…’ يؤكّد منذ المقدّمة، في الصفحة.9، أنه « يواصل تقاليد التصور الماركسي الأكثر أرثوذكسية ومادية وثورية. »

28– أنطونيو غرامشي، في ‘كراسات السجن’ ينقد كتاب بوخارين أعلاه ويعتبره خرقا للتصور الماركسي عن ‘فلسفة الممارسة’ وأقرب الى الوضعية رافضا مشروع تاسيس ‘علم اجتماع ماركسي’ وهو العنوان الثاني لكتاب بوخارين « نظرية المادية التاريخية : كتيب شعبي لسوسيولوجيا ماركسية’. أنظر غرامشي، كراسات السجن، الصفحات. 433-487 .

29– جورج غورفيتش، رفض فكرة ‘العامل المحدّد’ في كتابه الشهير

Georges Gurvitch, La vocation actuelle de la sociologie, tome 1, P.U.F, 1963, pp.50-57.

30– جورج غورفيتش، وفي نفس الكتاب أعلاه، استعمل العنصر الاقتصادي في تصنيف المجتمعات الكلّية ولكن مع التركيز على العوامل السياسية للتمييز وذلك في الصفحات 447-506 بحيث يمكن اعتباره ذا منظور سياسي بالدرجة الأولى ولكن دون اهمال الاقتصاد.

31– ادغار موران في كتابه ‘سوسيولوجيا’ – بالفرنسية.

Edgar Morin, Sociologie, Seuil, 1994, p.87-92.

32– ادغار موران، من أجل الخروج من القرن العشرين (صدر لاحقا بعنوان من أجل الدخول في القرن الحادي والعشرين)

Edgar Morin, Pour sortir du 20è siècle, Seuil, 1981, p.365.

33– عبد الرحمان بن خلدون له موقف سيء جدا من الفلسفة والعلوم الطبيعية في الفصل الرابع والعشرين من المقدمة الذي يحمل عنوان  » في ابطال الفلسفة وفساد منتحلها » ومع ذلك قدّم في المقدّمة، مع اقتباس من الفلسفة اليونانية، صفحات مضيئة في علم العمران البشري أو علم الاجتماع.

34– ماكس فيبر، في كتابه « الاقتصاد والمجتمع » يعطي مكانة كبيرة للاقتصاد ويربط كل الجوانب الأخرى التي درسها به، على طريقته طبعا، بل انه سخر في ‘الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية’ ممن ظنه يقدم تفسيرا مثاليا لنشأة الحضارة الرأسمالية في مقابل التفسير المادي وقال انه لا يعنيه ذلك وسيتركه للهواة. ان أية مراجعة لأي فصل من فصول ‘الاقتصاد والمجتمع’ تبرزاحتواء الكتاب على ربط مع الاقتصاد ومع الطبقات الاجتماعية ولكن طبعا بطريقة فيبر الخاصة.

35– بيار بورديو، في كتابه  »البنى الاجتماعية للاقتصاد » (سنة 2000) وخاصة في الفصل الأخير منه، وفي مقاله الشهير بعنوان  »الحقل الاقتصادي » ( 1997) يقدم انتروبو- سيوسيولوجيا اقتصادية مهمة رغم شدة بنيويتها حسب بعض نقاده.ولكنه ،مثلا، عندما يتحدث عن رأس المال يقسمه الى رأس مال مالي وتجاري وتقني-علمي واجتماعي وتنظيمي- اتصالي ورمزي، وهو بذلك يتمايز عن المنطق الاقتصادي للهوموايكونوميكوس التقليدي.انظر مثلا مقاله حول الحقل الاقتصادي (بالفرنسية) على الرابط التالي:

https://www.persee.fr/doc/arss_0335-5322_1997_num_119_1_3229

36– يحاول بعض منظّري المدرسة الديكولونيالية (التي تختلف عن مدرسة ما بعد-الكولونيالية) نقد التصورات الليبيرالية والماركسية ونقد المدرسة ما بعد – الكولونيالية ويقدّمون أشياء مهمة مثلا في نقدهم لميخائيل هاردت وأنطونيو نيغري في كتابهما ‘الأمبراطورية‘. أنظر مثلا مقال سانطياغو كاسترو- غوميز هنا (بالفرنسية) :

https://www.cairn.info/journal-multitudes-2006-3-page-27.htm

37– بعض منظري المدرسة يبدون مركزين تارة على العرق (معتبرين – مثل أنيبال كيخانو- الرأسمالية العالمية عرقية بالأساس) وطورا على الثقافة (معتبرين الرأسمالية العالمية ثقافة كاملة – مثل غروفوغل) بحيث ينزلق بعضهم الى العرقوية والى الثقافوية حسب رأينا، وهذا رغم تأكيدهم مرات أخرى على ضرورة التحليل التقاطعي. ويصل الأمر الى مدح ‘رؤى العالم المحلية’ ضد ‘الكونية’ بحجة ان الكونية هي مجرد أورومركزية لا غير،. ولكن الاقتصاد يبدو باهتا عند الكثيرين منهم أو معوّما بتحليل ثقافوي دون اشارة الى وزنه الخاصّ. ويمكن مثلا ،كعينة من هذا النوع من كتابات المدرسة الديكولونيالية، قراءة مقالات رامون غروفوغل التالية للتأكد مما قلناه أعلاه.

حوار مع ر. غروفوغل:

http://reseaudecolonial.org/wp-content/uploads/2016/09/Entretien-Ramon-Grosfoguel-RED.pdf

مقال لر.غروفوغل:

https://www.cairn.info/ruptures-postcoloniales–9782707156891-page-119.htm

38– كارل ماركس، في ‘رأس المال’ ،في الفصل الأول حول ‘البضاعة والعملة’، وبهدف توضيح كيفية المقارنة بين البضائع ذات القيم الاستعمالية المختلفة نوعيا للعثور على قاسم مشترك بينها وهو – بالنسبة الى ماركس- كمية العمل الضرورية لانتاج البضاعة، يذكر ماركس تلك القاعدة المتمثلة في ضرورة البحث عن قاسم مشترك بين شيئين مختلفين نوعيا للتمكن من مقارنتهما كميّا.

39– نحن لم نذكر هنا تركيبة الماء الا لهدف توضيحي. وطبعا تعطينا الكيمياء معلومات عن أجسام متكونة من عدد ذرات مختلفة ولكن متساوية مثل أوكسيد المانييزيوم (ذرة مانييزيوم وذرة أوكسيجين) والاسيتيلين (2 ذرات كربون و2 هيدروجين)، الخ. ان هدفنا كان توضيحيا –مدرسيا لاغير ولا داعي لتحميله أكثر مما يحتمل.

40– يعتبر كتاب كورنيليوس كاستورياديس  »الأساس المخيالي للمجتمع  » (1975) مهما جدّا في هذا الإطار مثلا. فالمخيال حاضر في اعادة تمثل الماضي وبناء الحاضر وتخيل المستقبل، وهو من ناحية أخرى يعطي شرعية حتى للحديث عن الانسان ككائن أسطوري بمعنى ‘الهومو ميثولوجيكوس’ الايجابي النسبي وليس بالمعنى الوضعي السلبي المطلق.

Cornelius Castoriadis, L’institution imaginaire de la société, Paris, Seuil, 1975.

41– نظرية ‘الهومولودنس‘ أو’الانسان اللاعب’ هي من ابداع الهولندي يوهان هويزينغا الذي أصدرسنة 1938 كتابا مهما بعنوان « هومولودنس’.ومن بين من أكدوا بعده أيضا على المسألة روجي كايوا في كتابه « الألعاب والناس« .

Roger Caillois, Les jeux et les hommes, Gallimard, Paris, 1958.

42– ويلهلم رايش وهربرت ماركيوز ركزا على الجنس والتحليل النفسي في كتباتهما الشهيرة مثل ‘ الأزمة الجنسية’ و’الثورة الجنسية ‘ بالنسبة للأول و’ الجنس والحضارة ‘ عند الثاني.

43– يورغن مابرماس أصبح يركز على البعد الاتصالي في النظرية الاجتماعية وظهر ذلك خاصة في كتابه الشهير  » نظرية الفعل التواصلي « .

44– لينين نفسه – في ‘موضوعات نيسان’ 1917 مثلا – ركز على البعد السياسي بمعنى ما. ويظهر ذلك من خلال تعريفه للأزمة الثورية بشكل مختلف عن ماركس لأنه اعتبرها ‘أزمة سلطة’ بالأساس وليست أزمة  »تناقض بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج  »، وهذا جعل منظرين كبليخانوف وكاوتسكي، من بين أسباب أخرى، يكونون محترزين من ثورة أكتوبر. وغرامشي نفسه اقترب من التحليل الثقافي-السياسي عبر تركيزه على الهيمنة في البناء الفوقي كشرط للثورة بما يعني التركيز على البنى الفوقية بشكل أكثر من المعتاد في الماركسية الكلاسيكية.

45– يمكن البدء بتصور نقدي لعمل ادغار موران من خلال طرح فرضية بحث لنقد ‘التصور الدائري’ المطلق في التحليل وهو يعني سيطرة مشروع ‘الأنتروبولوجيا الأساسية‘ عنده على التحليل الاجتماعي مما جعله لا يعطي وزنا خاصا لا للاقتصاد (ولا للطبقات والشرائح الاجتماعية) وهذا يمكن اعتباره من ‘الأنتروبولوجيسم‘ أو النزعة الاناسية النسقية. ومن ناحية ثانية، بخصوص مشروع ‘الأنسنة الجديدة ‘ الذي يطرحه، نلاحظ مثلا في كتاب ‘الطريق’ – والذي لايجب أن يخلط بسداسي كتب ‘الطريقة’ أو المنهج كما هو منصوص عليه اسفله بالفرنسية – يؤكد ادغار موران على جملة من الاصلاحات – الجذرية لا محالة – في إطار ما يسميه ‘الميتامورفوز‘ التي تختلف عن أطروحة الثورة. وهو هنا، حسب رأينا، أقرب الى الاشتراكية الديمقراطية ذات الهوى البرودوني الراديكالي والتدريجي، ولكن غير العمالي، منه الى الفكرة الثورية اليسارية الكلاسيكية. وان نقده لا يعني العودة الى تبني ما نقده هو ولكن بهدف الاشارة الى حدود مشروعه ومشروعية نقده هو اخر.

Edgar Morin, La voie. Pour l’avenir de l’humanité, Fayard, 2011.

 

Afficher plus
Bouton retour en haut de la page