قيس سعيّد، الظاهرة وما وراءها
اليوم، وقد تجنّبنا الكارثة بسقوط خيار القروي كرمز للمال الفاسد على رأس الدّولة وبقي قيس سعيد الذي لا خيار للجميع سوى التعامل معه بالسلب أو بالإيجاب، لنقف لحظة مع أنفسنا ولنتحدّث إلى بعضنا البعض بأكثر أريحية.
1 – هناك انقلاب كامل للمعطى السياسي في البلاد لم تحسب الطبقة السياسية التقليدية له حسابا، ولا أقام له المحلّلون على مدى أجهزة الإعلام وزنا، عدا في الأيّام الأخيرة وبعد أن انتهت اللّعبة.
2- موجة شبابية، بالأساس، من أنصار قيس سعيّد تقتحم المجال السياسي لتتجاوز نصف المليون ناخب في الدّور الأوّل قبل أن تلتحق بها جحافل المهاجرة واللاحقون لتشارف الملايين الثلاث. شباب كان في أغلبه خارج ثقافة الصندوق تماما وبعضهم خارج الشروط العمرية للانتخاب، فإذا به يبدأ حياته المواطنية بالتصويت لشخص رأوا فيه ممثّلا لضديد المنظومة لشدّة ما عافوا السيستام وكلّ ما يمكن أن يُحشر في هذا اللّفظ من وجوه، وممارسات، ومخادعات، ودسائس، واحتكار لصناعة السياسة في زمن أرادوا أن يكون شعاره « عودة الرّوح إلى الثورة » و »الشعب يريد ». واللاحقون لم يكونوا فقط من أنصار المجرّة الإسلاموية أو التيارات الهووية التي كانت لها مرشحيها في الدّور الأوّل للرئاسية بل شملت وجوها من مثقفي اليسار ومناضليه ومن العائلة « الديمقراطية التقدّمية الحداثية » من مختلف الأجيال.
3- شعور لدى أحبّاء قيس سعيّد وأنصاره، الأوائل خاصّة، بأنّه، منذ اليوم فصاعدا، أصبح لكلمة « الكرامة » معنى. فهي ليست تلك التي تساوي مائتي دينار تمنح في شكل هبة من دولة تسعى إلى اتّقاء شرّ شبابها، ولا هي مجرّد عبارة تضاف إلى شعار الدّولة جنب الحرية والعدالة والنظام. إنّه شعور جديد بالقدرة على صنع التاريخ بأياد عارية وإمكانيات بسيطة أمام لوبيات الفساد وماكينات المال حلاله وحرامه، وقابلية لتصريف الكرامة في المفرد أي اكتساب الفرد معنى وجوده، وشعور بقيمته، وإيمان بقدراته، وتصريف الكرامة في الجمع لتأخذ معنى السيادة الوطنية، واستعادة ثروات البلاد، ونصرة شعوب العالم في التّوق إلى الحريّة وعلى رأسها فلسطين لما لها من وقع في النّفوس، ورفض للخضوع لقوى الهيمنة ألخ.
4- اعتقاد جازم لدى هذا الشباب بأنّهم أمام رجل يجسّد النّقيض الأمثل لرجل السياسة الذي خبرته البلاد إلى حدّ اليوم. في الأمر نوع من التتويج لمسيرة بحث طويلة عسيرة، كادت أن تؤول إلى العدم، عن رجل تجتمع فيه خصال التّعفّف، والاستقامة، والزّهد، وحبّ الشّعب، وروح المثابرة… وكلّ المواصفات التي تُصنع منها طينة الأنبياء، والمنقذين، والمبشّرين بغد أفضل. لا يهمّ غياب الرّؤية أو ضبابيتها أو عدم اكتمالها. ففي الأمر انتماء إلى سجلّ النّقاوة ومعاقبة لكلّ من طالت قدماه دنس السياسة أو اقترب منها كما مورست إلى حدّ قدوم الرّجل المنتظر. فعدد من وعود الكرامة، ومقاومة الفساد وغيرها من الشعارات رفعتها قوى أخرى لكنّ ثقة النّاخبين فيهم من حيث حملها وإنجازها كانت شبه منعدمة.
5- بالمقابل ارتاب كثيرون من تصريحات الرّجل حول عدد من القضايا التي تعتبر معيارا في الالتزام بحقوق الإنسان مثل الموقف من الإعدام، والمساواة في الميراث، والمثلية الجنسية، والإعلان صراحة بأنّه لا مجال لإصدار قانون في تونس يتعارض مع تعاليم الإسلام. ففي الأمر تراجع عن صريح الدّستور في باب المساواة التامّة بين الرجال والنساء، وتأويل لبعض بنوده في اتجاه إسلاموي محافظ.
6- ليس غريبا من هذا المنطلق أن يتحوّل إلى محطّ آمال عدد من الأطراف السلفية المتشدّدة لتعود إلى السّاحة بأفكار الخلافة والدّولة الإسلامية، أو الأطراف الإسلاموية « اللايت » الساعية منذ بداية الثورة إلى التمكّن من مفاصل الدّولة، والزّحف على دواليبها بشتّى الطّرق، واكتساح « الدّولة العميقة ». فهذه الأطراف التي التحقت بقيس سعيّد في الدّور الثاني قد تكون ترى فيه الشخص الذي سوف يمهّد لها الطريق بشكل أو بآخر نحو غاياتها.
7- وأخيرا، هل أنّ الدّيناميكية التي أثارها قيس سعيّد تتحرّك خارج المعطى الجغراسياسي، وخارج التناحر بين حلفي تركيا وقطر من جهة، والإمارات والسعودية من جهة أخرى؟ وهل الجزائر وليبيا في معزل تامّ عمّا يجري في بلادنا؟ وإلى أيّ يتعيّن، أو لا يتعيّن، إدراج هذه المعطيات ضمن شبكة قراءتنا للواقع الرّاهن؟
فهل نحن فعلا أمام منعرج تاريخي قد يأخذ لدى البعض عنوانا من نوع « تصحيح مسار الثورة » أو « استعادة الشعب لسلطته » أم هو صعود للقوى المحافظة كردّ فعل على خطاباتٍ وقوًى أعلنت نفسها حداثية واقترنت في الأذهان بالفساد، والتبعية للخارج، والانبتات الثقافي، والسيطرة على أجهزة الإعلام، واحتقار الشّعب ألخ؟
وهل أنّ قيس سعيّد مجرّد « عقلية » في إشارة إلى ذلك التعلّق الهلامي لأنصار ناد رياضي والذي قد يبدو خارج المنطق والتفسير، ولكنّه يخضع في الحقيقة إلى تمثّلات ذهنية لفريقهم على أنّه فريق الشعب الذي يمنحهم علامة استدلال في حياتهم، وشعورا بانتساب جماعي إلى كيان ما، أم هو ظاهرة يصعب فعلا الإمساك بها من خلال البراديغمات والتّصنيفات الإيديولوجية التقليدية، وأنّه، كما يقول بعضهم، ظاهرة ما بعد حداثية يعسر على الحداثيين فهمها بل إنّها ظاهرة ما بعد ماركسية تتّفق مع ما يجري اليوم في العالم من إعادة صياغةٍ لمفاهيم وأدوات تحليل تجاوزها الزّمن؟
وهل نحن على أبواب زمن جديد قد تعاد فيه صياغة التراتبية الهرمية للسلطة، وتطبّق فيه فكرة الانطلاق من المحلّي وصولا إلى الوطني بما يسمح بإعادة صياغة الفكر السياسي بل بإنجاز « ثورة ثقافية » على حدّ تعبير سعيّد، أم نحن أمام أطروحات هلامية تثير المشاعر وتزرع الوهم بل لعلّها تتناسب مع انتظارات المنادين بإمارات محلية أكثر من تناسبها مع أشكال تنظيمية فعّالة تجعل الشعب في قلب السلطة أو تجسيدها لثورة ثقافية بصدد الإنجاز، على حدّ تعبير قيس سعيّد؟
وهل سنتوصّل إلى إعطاء مضمون ملموس لشعار « الشعب يريد » وأن نحسم بين إرادات واضحة في العيش الكريم، والخروج من الفقر، والارتقاء إلى مرتبة المواطنة الكاملة… وبين من يريدون للشعب أن « يريد »… حكم الشريعة، مثلا، أو فصل البنات عن الأولاد في المدارس وغير ذلك من التّصورات التي يحملها شقّ هامّ من الإسلامويين والهوويين الواقفين اليوم في صفّ الرئيس الجديد؟
وهل دخلت خصومة العلمانية والإسلام السياسي متحف التاريخ أم ما زالت تخيّم بظلالها على اللّعبة السياسية وتسكن في زوايا حياتنا اليومية، وهل أن المعطى الاجتماعي-الاقتصادي أصبح يعتّم تماما على مسألة النّموذج المجتمعي الذي شكّل مدار معركة دستور 2014، وجعل من معركة الحريات مسألة ثانوية أو مؤجّلة في أفضل الأحوال؟
وفي مستوى أعمق، هل نحن أمام احتضار الديمقراطية التمثيلية ونهاية النهج اللبرالي؟ وهل فيما يقترحه قيس سعيّد صدى لهذا الطّلب الذي بدأ يختمر في صفوف قطاعات كبيرة من شعوب العالم والحالمين ببدائل جديدة؟
ولماذا لم تصمد القوى السياسة التي لعبت ورقة « هيبة الدّولة »، و »الحفاظ على الأمن العامّ » و »استتباب الأمن » أمام موجة « الشعب يريد » رغم ما تمثّله الشعارات الأولى من هاجس حقيقي وطلبات فعلية لدى قطاعات واسعة من الشعب في عودة الدّةلة الحامية. هل أنّ في الأمر تقديم للطلب الاقتصادي-الاجتماعي على غيره من المطالب أم هو عدم ثقة في أصحاب الوعود بالحفاظ على الدّولة؟
أسئلة كثيرة ومتشعبة تُطرح علينا اليوم في عالم لا يخلو بدوره من دُوار الأسئلة، وما أشبه بعض أسئلتنا، بل أهمّها، بأسئلة تطرحها شعوب أخرى في لبنان، ومصر، والسودان، والجزائر، والبحرين، والعراق، والشيلي، وفنزويلا، وفرنسا وغيرها من بلدان العالم.
لمحاولة إثارتها ورفع ما تيسّر من الغموض الذي يسود المشهد السياسي التونسي، دعونا في هذا اللّقاء ثلاثة شخصيات لها صلة وطيدة بهذا الحراك:
شمس رضواني عابدي، بصفتها مثقفة شابّة ساهمت في جلّ التحرّكات الشبابية، واختارت عدم التصويت لهذا أو ذاك رغم تركيزها على أولوية الإطاحة الرمزية بنبيل القروي.
خليل عبّاس، شابّ مناضل يساري، قادم من نفس المجرّة خطابا واضح المعالم حول تأييده لظاهرة قيس سعيّد.
بكّار غريب الذي اختار التصويت لقيس سعيّد مع آخرين من المنتمين إلى جيل يساري أسبق.