كِيـبْرُوكُو كتاب مسلسل لفتحي بن الحاج يحيى جزء 2
على خطى حنّبعل
في صبيحة ذلك اليوم، خرج سيغموند من نزل أفريكا وعنده رغبة ملحّة في التجوّل في شوارع البلاد للتّعرف على أهلها ظاهرا وباطنا، مخفيا ومعلنا، عفويا ومخطّطا، إراديا ولا إراديا، مستورا ومفضوحا…
كان أمرٌ ما يشغله وهو يدوّن في كنّشه ما يهمّه من معاينات مباشرة عن تصرّفات البشر في الفضاء العامّ وطريقة إدارة الفرد لدواخله ومخارجه. كتب في أعلى الورقة بخربشات أقرب إلى خطّ الأطبّاء منها إلى طباشير المعلّم على السبّورة : يومي الأوّل في إفريقيا. لم يكن يدري أنّه أَمَّ بلدا لا تتجاوز فيه كلمة إفريقيا ما تحمله معلّقة النّزل الذي حطّ به.
وصل محطّة القطار، ومن حظّه يومها أن الإضراب معطّل بما يعني أنّ القطار يشتغل مؤقتا في انتظار الإضراب القادم. كان يريد أن يبدأ رحلته في أعماق البلاد من حيث المنشإ، فاختار قرطاجة التي دلّه عليها نادل النّزل وهو يوصيه بعدم شراء التّحف التي تباع أمام المتاحف والمواقع الأثرية لأنّها « فَالْسُو » كما قال، أي مزيّفة ولا علاقة لها بالبونيقيين ولا بالرّومان ولا بغيرهم من الأقوام التي تداولت تباعا على هذا البلد.هي فقط من صنع أحياء نسبوها إلى السّلف كغيرها من أشياء أخرى عدّة.
اقتطع تذكرة من الدّرجة الأولى التي يصعد إليها أصحاب الدّرجة الثانية بكلّ ديمقراطية ومساواة، ويصعد إليها من ذوي غير التّذاكر بكلّ شعبية وعدالة. جلس حذو النّافذة يتمتّع بمشهد البحيرة على جانبي سكّة الحديد حتى وصل محطّة البطّاح فحلق الوادي وما بعدها وهو يقرأ أسماء المحطّات بالحروف اللاتينية إلى أن بلغ « صلامبو » فهمهم بما يقابل « اللّهُ أكبر » باللّغة النّمساوية ولكن في سجلّ آخر لا علاقة له بالمقدّس. فلصلامبو وقع لدى مثقّفي أوروبا بعد أن تداولها الأدب العالمي والموسيقى والمسرح والسينما في حين ظلّت عندنا مجرّد محطة قطار بائسة وحيّ سكن راق وفق معايير العالم الثالث.
غير أنّ افتتان فرويد بقرطاجة لا يقف عند هذا الحدّ وإنّما تحرّكه دوافع باطنية أخرى تعود إلى صباه عندما بدأ أبوه يصاحبه للتنزّه ويحاوره في أشياء الدّنيا. قال له ذات يوم ليبيّن له أنّ الزمن الحالي أفضل من زمن أبيه : »ذات مرّة، وأنا شابّ، خرجت إلى الشّارع يوم سبت متأنّق اللّباس حاملا طاقيّتي الجديدة من الوبر. خرج عليّ فجأة مسيحي ورمى بطاقيتي في الوحل وهو يصيح : »أَيّها اليهودي ! تَنَحَّ عن الرّصيف « ». عندها سأل فرويد أباه : »وماذا فعلت ؟ » فأجابه بكلّ هدوء : »نزلت من فوق الرّصيف، والتقطت طاقيتي ».
يقول فرويد في كتابه « تفسير الأحلام » بأنّ جواب أبيه بدا له أنّه لا يحمل من الشجاعة مقدار ما يجعلها تستحقّ هذا الاسم، فراح يعزّي النّفس بالتّماهي في حنبعل، ذلك البطل الشجاع من أصل سامي، الذي أقسم أن يثأر لأبيه من الرّومان ».
حنّبعل الشّعب
من هنا بدأت رحلة الصّراع بين المخيال والواقع. والواقع يخفي أحيانا ما لم تَضْرِبْ لَهُ وَقْتَ مَوْعِـدِ. فصاحبنا الأوتريشي كان منذ صعوده القطار في مرمى النّظر إذ أراد سَعْدُهُ أن يتزامن وجوده في المحطّة مع وصول « الألماني » قادما إليها من سهرة ليلية امتدّت إلى مطلع الصّبح. و »الألماني » هذا كنية أطلقاها أبناء الحيّ على زميلهم عبّاس التلمودي ابن زاهية الحلوانية. ليس لأنّه ولد بمواصفات الإيزو الصّارمة من شَعْرٍ أشقر، وبُنْيانٍ مرصوص، وحِسّ مواطني، وهيكلة ذهنية ألخ، وإنّما بسبب الإطلالة التي قام بها على بلاد الألمان قادما إليها عبر المتوسّط على متن قارب يملكه بعض الخواصّ الذين لا يشترطون جواز سفر أو تأشيرة أوأشياء أخرى تافهة من هذا القبيل. هكذا غزا صاحبنا شمال أوروبا مرورا بروما قادما إليها من تَالي. لم يكن على ظهر فيل ولا هو تسلّق جبال البيريني ولا الألب. كان أدهى من أن يسلك الطّرق الوعرة. وطبعا لم يُقضّ في هذا البلد سوى بضعة أشهر قبل أن يولّي أدباره بسبب بردها القارس طبعا، هكذا كان يقول، مُسقطا عودته إلى الوطن الأمّ محاطا بعون سرّي، مقيّد الأيادي بعد أن أُلْقي عليه القبض في « عَمْلَة » لم يفصح عن كُنهها وتفاصيلها إلى حدّ اليوم، ولكنّه حمل معه بعض كلمات ألمانية، ومقاطع من روايات عشق مع حبيبات تسقط خطوط دفاعهنّ أمام لون بُشرة رجال إفريقيا الشمالية. من يومها استحقّ صاحبنا لقبه الشهير لا سيّما وأنّه بقي محتفظا ببعض الأوراق النّقدية من الدّتشمارك التي يستظهر بها كلّما اقتضى الحال إثبات هويته المكتسبة بعرق جبينه.
البعض الآخر من الحيّ المجاور يدّعي أنّه لُقّب كذلك لأنّه ينقضّ على خصومه انقضاض البارجي الألماني على الفريسة وينتشل من طريدته حقيبتها اليدوية أو قلادتها على طريقة انتشال الكلب المدرّب قطعة اللّحم قبل أن تلمس الأرض. هكذا التقط « الألماني » بحاسّة الشمّ المتطوّرة لديه رائحة ألمانيا وما جاورها فنزل وراء ضيف تونس الذي لم تكن تونس تعلم بنزوله بين ظهرانيها، وظلّ يتبعه عن كثب والضّيف تائه في قرطاج التي أتى عليها دمار عِمران الآجُرِ والإسمنت بعد أن سوّاها الرّومان بالأرض. ظلّ يترصّد خلوّ الشّارع من المارّة قبل أن يبادره بالتحية المرفوقةبـ »أَطْلَعْ بِيهِمْ ». قالها بألمانية شبه صحيحة مستقاة من قاموسه المحدود الذي يتقن مفرداته أيّما إتقان وفيه نخوة الذي استعادت ذاكرته أيّام المهجر واحترافه فيه هذه المهنة غير دار وقتها أنّ بوليسها ليس بوليسنا.
نظر إليه سيغموند مستغربا من سماعه جملة ألمانية مفهومة النّطق ولكن لا معنى لها إذ لم يفهم بماذا يجب أن يطلع. واختصارا للحكاية اتّفق الاثنان على أنّ المقصود هي حافظة النّقود لا سيّما وأنّ ما يشبه الموسى التي بيد الألماني قد تدخّلت لزيادة توضيح المعنى. مدّها سيغموند مسلِّما أمره لمشيئة اللّه الذي يشتغل من جهة الضفة الجنوبية للمتوسّط أكثر من اشتغاله في بلاد الشمال الباردة. فتحها ابن الزّاهية. أخرج حزمة صغيرة من الدّتشمارك ثمّ تراجع إلى الوراء وهو يصيح « واللَّه ما تِحْشِمْ .. الشِّيبْ والعِيبْ.. تخدم بالمضرّح يا وِلْدْ… ! نَاقْصِينْ أَحْنَا في تونس، تْحِبُّو تْبَرّْكُونا »، ثمّ مسكه من عنق جمازته وظلّ يجرّه في اتجاه مركز الشّرطة.
أبو حمزة آلياس (alias) الألماني
فُتُّكم ببعض التوضيحات الأخرى عن صاحبنا التونسي. هو، كعدد لا يستهان به من أهلنا، يعيش ممّا رزقهم اللّه من اتِّجارٍ في الممنوعات، والمسرّبات، والمهرّبات، والمنتهية صلوحيتها، وكلّ ما يدخل تحت طائلة « الكونترا » و »الموازي » اللّذان أصبحا رزقا متقاسما بين ذوي الفاقة، وذوي اليسار، وذوي اللّحى الطويلة منها والمخفّفة، وبعض من بوليسنا الأبيّ، ونفر من أهل الدّيوانة والحرس، وثلّة من القضاة الأبرار والسياسيين الأفاضل، وحتى وجوه من أهل الإعلام الحريصين على تنوير الرأي العامّ بحقائق الأمور مع تجاوزبعض الخطوط الحمراء إن لزم الأمر. ولكن…
الألماني، رغم انغماسه في ذلك النّصف الهامشي من حياة البلاد، له مناعة لا يرقى إليها الشكّ ضدّ كلّ ما يمكنه أن يصيب الوطن بسوء، بل فيه استعداد للمجازفة بحياته إن لزم الأمر لتبقى تونس حرّة منيعة أبد الدّهر بدليل أنّه ساهم في الأيّام التي تلت ثورتنا المباركة في مطاردة البوليس السياسي ومساعدة الجيش الوطني الذي لم يكن يعرف وقتها وجه العدوّ بالتحديد ولا يفقه قيد زنقة في أزقّة المدينة والأحياء الشاسعة المحيطة بها. والألماني صال وجال كما أراد أيّامها صحبة ثلّة من رفاقه الأبرار الذين جرّدوا محلاّت بيع الهواتف الجوّالة من مخزونها شماتة في أصحابها من العائلات المالكة لا أكثر ولا أقلّ، وأضافوا إليها بعض المغازات الكبرى التي تتحكّم في مسالك التّوزيع وأنهكت صغار التجّار، وألحقوا بها عددا من فروع البنوك التي ورّطت التونسي في الاقتراض بنسب فائدة تتجاوز المعقول، دون الحديث عن مكاتب القباضات المالية المحتكرة لفلوس الشعب. كان فيه ميل لثورة الغلابة على الطغيان فالتحق بلجان حماية الثورة في حيه، ونزل إلى الشارع جنب أنداده ليفقأ دملا في جأشه تراكمت أسبابه منذ أن غادر المدرسة في سنّ الخامسة عشر. كان يشعر أنّ شيئا ما بصدد التغيّر في هذا البلد رغم أنّه لا يعرف مآل المصير. في البداية راوده على نفسه بعض الشباب من الدّعاة الجدد الذين عجّت بهم الأحياء الشعبية وغير الشعبية. أصبح يؤمّ الجامع مع كلّ صلاة وقد أصابه من الخشوع والرّهبة الشيء الذي زاده إيمانا بمعنى وجوده. كان كلّما توضّأ قبل الصلاة وهو يرى الماء بين أصابع رجليه ينسكب مشوبا بلون الأتربة والأوحال العالقة به قبل أن يتحوّل صافيا رقراقا، يشعر وكأنّه يغسل ما بداخله من عُقَد ذنب لا تُحصى ولا تُعدّ، عُقَدٌ حملتها إليه الأيّام وأصابته بها الحياة الصّعبة. كان يُـمْعِن في فرك أطراف جسده المقرّر شرعا شطفُها بالماء ليستقيم الوضوء بل يتجاوزها أحيانا، من باب فائض الحماسة، وكأنّه يتدارك شيئا ما أو أشياء فاتته، أو هو يسعى إلى محو مساحة الشعور بالوسخ التي اهتدى إليها أخيرا في داخله. وكان يكثر من الاستغفار وهو يردّد « الدِّنْيَا الْكَلْبَة وإلاَّ آشْ لَزّْنِي » ويظلّ قابعا بالمسجد بعد انتهاء الصلاة ليحكّ جبهته على الحصير اقتداء بالآية الكريمة « سيماهم في وجوههم من أثر السجود » وأملا في الحصول على زبيبة صلاة لا تقلّ سوادا واتساعا عن زَبيبات أنداده الذين سبقوه إلى السجود وحصلوا عليها في زمن وجيز بفضل المثابرة على الحكّ.
صار وجها من وجوه الحيّ يُحسب له ألف حساب. لبس الجلباب وأطلق العنان للّحية، واستعاض عن الموسى بسبحة أهداه إيّاها إمام الجامع مقسما بأغلظ الأيمان أنّها قادمة للتوّ من الحجّ. كان ينظر إلى بعض أصحابه القدامى من الذين أتى معهم بما شاء اللّه من الموبقات وهو يترفّلون اليوم في ثياب الدين الحنيف وقد سلخوا عنهم أسماءهم القديمة ليستبدلونها بأخرى على الموضة الجديدة التي تعيد إحياء السلف الصّالح. هكذا أصبح « كُمبة » أبو قتادة تشبّها بيحيى ابن عبد اللّه فارس الرّسول، و »وِلْدْ زِينَة » تحوّل بقدرة قادر إلى أبي مقداد إحياء للمقداد بن الأسود أوّل من عدا به فرسه في سبيل الله، و »التِّرّْ » أضفى على نفسه كُنية أبو مصعب مضيفا إليها الأنصاري. كان ذلك قبل تراجع حظوة القاعدة.
انزوى ذات يوم في ركن من الجامع ليستشير الإمام الجليل في أمر جلل. قال له :
– اِنْحِبّْ نْبَدِّلْ اسْمي، هَاذِي السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يا لَلْمَاني، وإلاّ تْقَبَّلْ اللّه يا لَلْمَاني ما جاتِشْ. لُخْرينْ مُشْ خِيرْ منّي. ما يْلَعّْبُونِيشْ.
استحسن الإمام الفكرة رغم عدم استقامة ألفاظها. حدّثه عن حكاية الأسماء عند العرب، حَسَنَها وهَجينها، وعرض عليه أن يختار المستحبّ منها من قوائم السلف الصّالح بداية من أسماء الحيوانات المقترن معناها بالشجاعة والبطش إذلالا لأعداء الإسلام كقولك : أبو ليث، والضّرغام، وأبو لُبَدْ، وأبو صَعب كناية للأسد، وأبو سهيل، وأبو عمرو كناية للنّمر وما شابه ذلك من الألقاب. فقال بكلّ تلقائية :
– بْرَبِّي أَخْطَانَا يا شِيخْ من حديقة الحيوانات.
فانتقل به إلى سجلّ آخر : « آشْ رأيك في فُرسان الرّسول ؟ ».
– هذي فَازَه حْلُوَّه، يَعْطِيكْ الصَّحّة.
– كَانِكْ من أوّلْ فرسان الرّسول فهو المقداد بن عمرو بن الأسود، وكان سِيدْنا صلّى اللّه عليه وسلّم يَاسِرْ يْحِبُّو.
– يا شيخ يهديك، هَذَاكَهça y est… قْفَزْ بيه وِلْدْ زينة.. وزِيدْ نْقُلِّكْ الحقّ… مِنْ غير ما تِتْغَشِّشْ… هذي أسَامِي متاع مْرَاڤزية. شفتو بيّاع السّلامي بجنب الكوشة.. إمّالا.. اسمو مُقداد زاده، وخلِّي الآخر..هذاكا متاع التّلفزة.. ما قال حدّد لحدّ..
لم يغتظ الإمام من كلام الألماني. فهو أيضا ابن الحيّ ومرّ بدوره من هنا قبل أن يتقاطع طريقه مع الاتجاه الإسلامي في نهاية الثمانينات. لم تُغْرِهِ السياسة يوما. كلّ ما في الأمر أنّه انخرط في النشاط الدّعوي اللاّيت lightزمن طفرة مجموعات السُّلامية التي اجتاحت الأحياء الشعبية سعيا إلى تغيير ذهنيات العباد والتبشير بثقافة جديدة على الطريقة الغرامشية.. بتصرّف.. (كنّا نقرأها ونحن صغار « بِتَصْرِف » كلّما وردت بين معقّفين بعد اسم الكاتب في نصوص القراءة، ولم نكن نفقه معناها). هكذا وجد إمامنا، حسّان بن المولدي السّبتي، نفسه بين براثن البوليس السياسي بتهمة تنظيم الحفلات بدون رخصة ودون مقابل لفائدة معدمي الحال أو الميسورين نسبيا الذين وجب استهواؤهم للتخلّي عن حبّوبة أو عزّوز قرجم في مقايضة رحيمة يربحون فيها الدّنيا، إذ العرض مجاني، ويكسبون الآخرة بما أنّ في الأمر مدائح وأذكار.
قضّى ثلاثة أعوام في السجن في عنبر مساجين الحقّ العامّ، علّمهم فيها الصّلاة، وحكى لهم عن غزوات النبيّ الأكرم، وحِكْمَتِه في الزّواج بتسع، ويقال ثلاثة عشرة، مصاهرة منه للقبائل وفتحا لقلوبها وشرحا لصدورها دون أن ينسى عذاب القبر وملذّات الآخرة طبعا. كان يختم خطبته بـ « آما رَاهُو اللِّي نَاوِي على الثانية، في إشارة منه إلى جنّات عدنٍ وطيب الآخرة، يلزمو يِمْنَعْ من الأولى… ما ثمّة شيء بلاش… كان الڤميلة يا وليدي ». في الأثناء أثرى قاموسه سماعا بمفردات شتّى من نوع التي ينسج منها الألماني نثره.
– اسمعني عَيِّشْ ولدي، إنتِ تْفَرّجْتْ على فيلم الرّسالة ؟
– يِفَتَّقْ يا شيخ.
– آش رأيك في حمزة عمّ الرسول ؟ على قَدّْ قياسك.. مش هكّة ؟ مْضَارْبِي وما يُرْشُفْها لحدّ.
– يِعْجِبْني عبد اللّه غيث.
– آيّا بَرَّه مبروك عليك أبو حمزة.
هكذا وُلد أبو حمزة عبدا جديدا بين أيدي شيخه. خرج وفيه شعور غريب بنخوة لم يعرفها من قبل. سرت فيه سكينة الذي تآلف مع النّفس بعد طول خصام. أصبح يحبّ أبا حمزة في شخصه أكثر من حبّه لنفسه وخال له أنّ نظرة النّاس والدّنيا إليه قد تغيّرت رأسا على عقب.
عاد إلى المنزل، فتوجّه للتوّ إلى أمّه. كانت غارقة فيما يشبه المطبخ، تعجن المطبّقة لتبيع منها ما تيسّر وتغذّي أسرتها بما تبقّى. مسكها من رأسها وجعل يقبّلها على جبينها وهو يردّد : سامحيني يا لُمِّيمَة.
– وَاشْ بِيكْ.. زَاطِل ؟ برّه..برّهارْڤُدْ حتى يحضِرْ الفطور.
التّائهون في مملكة الربّ
ثمّ تتالت الأيّام قبل أن تعيد عليه الكرّة وينتصر المدنّس على المقدّس في بلاد غاب عنها عمر بن الخطّاب. أشياء جديدة بدأت تحدث في الحيّ والبلاد. لم يعد تديّن الشباب الباحث عن شيء يملأ به حياته ويبثّ فيها ما استطاع من معنى لوجوده مجرّد لعبة. لعبوا لعبة الشرطة الدينية في الأحياء وبعض المدن والقرى الصغيرة. أعجبهم أن يجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها أصحاب سلطة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يجمعون القفاف ليوزّعونها على ضعاف الحال والمساكين ويسمعون منهم آيات الشكر والامتنان والدّعوة لهم بالتوفيق وطيب الجنان. أصبحوا صالحين لشيء ما بعد أن ملّتهم كراسي المقاهي، وجدران الأحياء. وجدوا سبيلا إلى أنفسهم وما كان بعضهم دارٍ بأنّ الآلة تتحرّك وراءهم في الخفاء لتوجيه تلك الطاقة الجديدة وجهة المنتهى. بدأ يختفي في كلّ مرّة أحدهم أو بعضهم عن المشهد قبل أن يُتداول اسمه في الحيّ مسبوقا بشرف « الشّهيد » وتتناقل صفحات الفايسبوك صورته مقتولا أو سجينا بين أيدي الشبيحة السورية. قوارب الموت لم تعد تعدّل وجهتها على لامبادوزا. أُعلن عن تغيير القبلة نحو دمشق مرورا بصحراء ليبيا فبلاد حريم السلطان.
كانوا يجتمعون في بيت أحدهم للإبحار على صفحات الفايسبوك والتّماهي داخل عالمهم الافتراضي الجديد. الأخبار تتساقط من كلّ حدب وصوب عن شباب يتوافد عشرات ومئات من بلاد أوروبا وأمريكا وآسيا رافعا راية السواد الحاملة لاسم الواحد القهّار. آلاف مؤلّفة أخرى منحدرة من بلاد الإسلام مغربا ومشرقا وصولا إلى إفريقيا السوداء تتوافد على ميدان معركة الحسم بين الإيمان وبين الكفر. أصبحت شاشة الكمبيوتر تتّسع في أذهانهم لتمتدّ على خارطة الدّنيا وتختزل اللّحظة الرّاهنة في أفواج تدخل في دين اللّه طائعة طلبا للشهادة وما يتبعها من مرابيح تصرف مباشرة في هيئة حور في الانتظار تعويضا عن تعاسة جنسية أرهقت الأذهان والأبدان، وعسل يجري في الأنهار إنهاء لطعم المرارة في الأفئدة واللّسان. لحظة تنقلب فيها كلّ موازين القوى لتضع حدّا لمئات السنين من المهانة والهزائم وتمزيق جسد الأمّة وعنجهية الغرب الصليبي الحاقد. عَوْدٌ أحمدُ لزمن الخلافة وعظمة دين الحقّ على أيدي هذا الشباب الدّافق طلبا للمغفرة وبحثا على أن يصلح لشيء ما وأن لا تذهب حياته هباء منثورا.
كانوا يتواصلون مع إخوانهم على صفحات تحمل أسماء مستعارة من أبطال غزوات بدر وأُحُد وبني قنيقاع وكبرى الفتوحات، ويشحذون عزائم بعضهم البعض بشتّى التّعاليق عن جبن العدوّ وخوفه من الموت. وفي كلّ مرّة تتّسع دائرة الأعداء لتشمل أحيانا مشايخ وفرقا ومللا كانوا بالأمس أنصارا ورفضوا أداء البيعة لأمير المؤمنين الذي يتغيّر في كلّ مرّة بتغيّر الأهواء. لكن لا وقت للوقوف عند هذه التّفاصيل التي قد تفسد حلاوة التّحليق في المخيال. أحلى ما في اللّعبة يوم يتبارون في فكّ رسالة مشفّرة مرسلة على متن آية قرآنية أو حديث شريف إيذانا بالنّزول في مظاهرة ما أو الالتحاق بمكان معيّن لنصرة إخوان لهم مشتبكين في معركة مع البوليس أو مع بعض أنفار من سكّيري الحيّ الذين طفح بهم الكيل من فرط الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في عزّ الجلسة.
أحيانا أخرى تطلع صورة شابّ تونسي يحمل رأسا مذبوحا وهو يتوعّد أصحاب النّار بعذاب أشدّ بعنوان تسبقة على الحساب في انتظار يوم الآخرة. يتهامسون فيما بينهم وقد تعرّف فيه أحدهم على ولد من حيّ مجاور أو آخر بعيد. « تِي هَاوْ مُحسن وِلْدْ الْهَجَّالة.. نَعْرفو حقّ المعرفة..سِيكْلِيسْت.. ولد الكبّارية.. شوف السَّكْبَانْ يا سيدي.. واللّه اعْيِيتْ ما اْنفَشَّخْ فيه ..آخْرِتها في ماتشالإسبيرونس.. جاي يْنَبَّرْ علينا.. » فيقاطعه آخر : »اللّه أكبر، تكفّله اللّه برحمته الواسعة، (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ). صدق الله العظيم ». ثمّ تسري في الأبدان رعشة على أمواج التماهي في بطولة شابّ منهم وإليهم يرون في وجهه صورتهم دون روتوش ليتحوّل إلى رمز خرج من قاع المجتمع ليلتحق بعالم الصّورة الفايسبوكية ويُدوَّن في قائمة أفضل خلق اللّه وأقربهم مكانة إليه وإلى الرّسول الأكرم. يبدأ العدّ التّفاضلي عن أيّ الأحياء تتصدّر الترتيب في قائمة المجاهدين والأحياء. مسابقة كرامة واعتزاز بالحومة تنسج خيوطها بين الكبّارية ودوّار هيشر وخمسة شنايدروديبوزفيل وحيّ التّضامن، والقائمة تطول…
في إحدى المرّات كان أبو حمزة، آلياس الألماني، في حالة إبحار صحبتهم فنزلت على الصفحة صورة من إحدى مناطق الاقتتال في سوريا. جهادي ملقى على الأرض وقد أصابته شظية قنبلة أو رصاصة سلاح فتحت بطنه. إلى جانبه يجلس رفيقَا سلاح. واحد يضغط على أمعائه ليعيدها إلى حيث يجب أن تكون في انتظار الإسعاف، والآخر جنب رأسه وهو يسأله متلهّفا قبل أن يُقرّب أذنه منه لتلقّي الجواب : إِنْتَشَايِفْهُمْ الْحُوريَّات؟ أعادها مرّتين أو ثلاث والجريح يتأوّه ألما.. لكن للأسف، لم تتح رداءة صوت الفيديو سماع الردّ.
الحاضرون كانوا، كما ذكرنا، ثلّة من شباب تونس من أبناء الأحياء الشعبية المعروف عنهم أنّهم ليسوا أولاد البارحة بمعنى أنّ السّذاجة لم تبلغ فيهم مبلغها. نظروا إلى بعضهم البعض وامتنعوا عن التّعليق لصعوبة الموقف المتأرجح بين فرط البهامة وتأكيدات صاحب البيت الذي آواهم بأنّ « للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقربائه » مستشهدا بالترمذي وابن ماجة وأسماء أخرى يصعب عليهم تذكّرها. ثمّ أضاف : قرأت أيضا أنّ حورية من أبهى خلق تظلّ تنتظر الشهيد على أحرّ من الجمر فتسارع بلقائه وهو مازال طالعا في السماء.
صاحب البيت هو أمير الخلية التي مازالوا لا يعلمون بوجودها إذ هم في مرحلة جسّ النّبض والاستئناس بالفكر السلفي ناهيك أنّ أغلبهم لم يحفظ بعد سورة الأنفال التي مدّهم بها مكتوبة بالبنط العريض ومشكولة الأحرف بعناية وهو ينهرهم على الحساب : « باش ما اتْكَسّْرُولْهَاشْكْرَايِمْهَا ». فآياتها الخمسة والسبعون تحثّ على الجهاد وهي من أوّل ما يتتلمذ عليها المريد أو الذين فيهم شعاع أمل بأن يهبوا أنفسهم ومتاعهم –إن كان ثمّة متاع- في سبيل اللّه.
أبو حمزة بقدر ما تعجبه هذه الحكايات الخارقة للعادة لم يهضم كثيرا حكاية الحورية التي تعترض صاحبها في منتصف المسافة بين الأرض والسماء وهو على تلك الحالة. أسرّ إلى أصدقائه فيما بعد : « الرّاجِلْ مَازَالْ مْخَيِّطْ بالْكَرْتُوشْ.. آشْ بَاشْ يْنَجِّمْ يَعْمِلْ مْعَاهَا ؟ على الْقْلِيلَة يْدَوِّشْ قبل ويِتْهَمِّمْ..أستغفر اللّه العظيم.. آما ها الحكاية ما دَخلِتْشْ الْمُخِّي.. يخّي قالوا هكّة في القرآن ؟ ». صاحبه لم يكن أدرى منه بأسرار الفقه وتفسير الفرقان والأحاديث :
– عادْ هَاذُومَاشيوخة كبار ويعرفو.. ما ظاهر لي كان باش يكذبو على ربّي.. وإلاّ تقول إنتِيْشُوطُو من عندهم ؟
انسحب أبوحمزة الألماني وهو يتمتم « لا إله إلاّ الله ».
من يومها بدأ الفتور يصيبه والملل يتسلّل إلى نفسه. ربّما كان ينتظر ذريعة من حيث لا يدري لا سيّما وأنّ وتيرة الصلوات في اليوم الواحد أعسر من أن يتحمّلها جهده خاصّة صلاة الفجر في عزّ الشتاء. ثمّ إنّه ألفى نفسه يشتغل رقيبا على نفسه كلّما ما عبرت أمامه حسناء من زمن الغزوات تتمايل، أو مرّ بأصدقاء السّوء القدامى مجتمعين على طرح نوفي وبعض الجعة المصقّعة. فأمّا السكارى فينهر ويشتبك معهم بضراوة الذي يقاوم في النّفس عَوْدًا مُبْهَمًا وحنينا لهجر الحبيب. وأمّا الفاتنة فيأتيها بالمعروف ناصحا إيّاها بأن تلبس على سنّة اللّه ورسوله فتجيبه :
– يَعْطِيكْ يَا بُو حَمْزَة… مُشْ مْوَاتِيكْ بِالْكُلّْ، ربّي يهديك…بَايْ… وما تَنْسَاشْ باش اتْبُوسْلِي حَمْزَة.
صار يُقِلّ التردّد على الجامع، لا سيما وأنّ الأجواء باتت مشحونة بعد أن انتقل السلفيون من مرحلة الدّعوة إلى الجهاد. كثرت أعين البوليس. ناداه ضابط الشرطة ذات يوم ليضع أمامه ملفّا محترما من جرائم النّشل، والاعتداء بالعنف، وصورة له في جامع الفتح يوم الانسحاب المدروس لأبي عياض.
– شُفت الـ »سِّي فِي » (C.V) متاعك ؟ إمّالاça va ؟ رِيضْ عَيِّشْ وِلْدي. الشّيء هذا مُشْ متاعِك.
هكذا بدأ يعود تدريجيا إلى عاداته القديمة.لم يواظب سوى على النزول في المظاهرات مع لجان الحماية لأنّ في بعض تقاليدها ما لا يتنافر مع عاداته القديمة كأن يهاجم مقرّ حزب ملحد أو جمعية مفسدة في الأرض أو يعنّف صحفيا مأبونا حسب التصنيف الذي يأتيه من فوق. ما عدا ذلك ظلّ يتاجر في السجائر المهرّبة، ويترصّد أيّام الشدّة ليبيع ما تيسّر من الخمر في السوق السوداء، وبعض تجارة من هذا القبيل تجعله يعيش من عرق جبينه في انتظار شغل قارّ في الوظيفة العمومية وعده بها بعض أحزاب محطّات البترول التي ترى في الشباب وقودا.
تصاوربيسْمارك ع الدّتشمارك
سي جاب اللّه رئيس مركز الشّرطة كان يعرفه حقّ المعرفة، وله تعليمات صارمة بإغماض عين وفتح أخرى على الألماني وأمثاله نظرا لعدم إدراجهم في الأولويّات الأمنية ولحرص بعض الأحزاب على الاحتفاظ بهم كاحتياطيين في معركة الديمقراطية التي حمى وطيسها في البلد. والحقيقة أنّ كبرى الأحزاب قد وجدت فيهم ضالتها في مواقف عدّة وحالات شتّى. في خلاصة وجدتهم وقت الشدّة.
– مَرْحْبَا بالألماني، هَا الْغْطَا السّْعِيدْ. لاَ بَاسْمَاهُو… سَيِّبْ الرّاجل من كْرُومْتُو…آشْ عامِل من عَمْلة زاده ؟
– سيِّد البرقادي، هو اللّي عامل العملة. شَدِّيتُو بِبْرُوفْتُو. يحبّ يخرِّبْ البلاد.
– يعطيك الصحّة. وإنتِ مَنَّعْتها.. بَرّه اقْعُدْ غَادِي.
تسلّم منه الشّيخ الأجنبي وأجلسه على الأريكة المهترئة في سقيفة المركز. أخذ محفظة النقود من حامي الوطن وظلّ يقلّبها. أخرج جواز السّفر. تصفّحه. بعثر بعض الأوراق النقدية فوق مكتبه. أخذ واحدة منها. قرّبها من التّوب نِيُونْ.
تلقّفه الألماني صائحا : شُفْتْهَا. دَتْشْمَارِكْ مْضَرَّحْ ! يْحِبّْ يِهْلِكْنَا… بَرَّه اللّهْ يِهْلكُو.
– آشْنُوَّه، باش يَقْطَعْلِكْ خبزْتك. أنتوماخَلِّيتُو حاجة ما ضرَّحْتُوهَاشْ.
همهم البطل وانزوى إلى الرّكن. ثمّ عاد من جديد إلى الهجوم.
– التصويرة هذيكا ما ثَمَّاشْ في الدّتشمارك. إسألني آنا نقلّك.
– اقعد غادي…مازلت باش نسألك بارشاسؤالات.
كانت الفرصة مواتية لسي جاب اللّه ليفصل بين القضيّتين وينفرد لاحقا بالألماني ليُخَيِّره بين الإيقاف وبين الحصول على بعض معلومات عن أحوال الحيّ وعدد من القضايا والأفعال التي ظلت مسجلة ضدّ مجهول في دفتر شكاوى المواطنين.
الحقيقة أنّ سي جاب اللّه فهم بحدسه البوليسي أنّ الشيخ النمساوي أبعد عن أن يكون خارجا عن القانون ولكن لم يفهم سرّ صورة بيسمارك على النّقود الألمانية. في الأمر خروج عن التاريخ وهذا أيضا يستحقّ مخاطبة وزير الدّاخلية بنفسه والقفز، إن لزم الأمر، على نظام التسلسل الهرمي والأورغانيرام التنظيمي لهياكل الأمن. فهي فرصته ليضع منظوريه في حرج إذ هم ينتمون للنقابة الأمنية الأخرى التي لا تنسجم مع هواه.
– آلو… تحياتي سيد الوزير.
– آشكون معايا ؟
– جاب اللّه بن عون، رئيس المنطقة. سيد الوزير، أمر خطير جدّا. تْصَاوِرْ بيسْمارك ع الدّتشمارك.. أَوْقَفْنَا المعني بالأمر.. أجنبي الجنسية من بلد أوروبي صديق.. الاسم : سيغموند شلومو، اللّقب: بن جاكوب فرويد، تاريخ الولادة : 6 ماي 1856، مكانها: فرايبارغ، مورافيا، الأوتريش… النمسا يعني.
لم ينتبه الوزير، وربّما القارئ أيضا أنّ سي جاب اللّه قد أضاف الـ »بن » من باب التجنّي على اللّغة النّمساوية أو ربّما من وحي اجتهاده الخاصّ بحكم تجربته الطويلة مع الأسماء العربية وحرصها على إثبات النّسب الأبوي المسترسل. كما اجتهد أيضا في استنتاجه أنّ صاحب الصّورة هو بيسمارك الذي لم يكن يعرف وجهه أصلا ولا الوجه المطبوع على الورقة وإنّما يسمع به سماعا. قال فيما بعد عندما طُلب منه أن يحذف هذه الإشارة من تقريره حتى لا نبقى ضحكة قدّام الألمان : « جاء على بالي وبرّه..ياخي آنا منين نعرف أمّو ».
الوزير : شهادة وفاة هذي ؟
– لا، سيد الوزير. جواز سفر ساري المفعول إلى سنة 2021.
– سي جاب اللّه، إنتِ لاباس… منين تكلّم فيّ.
– من المركز، سيد الوزير.
– باهي… باهي.. اقعد غادي ما تِتْحَرِّكْشْ. وزيد نعلمك إلّي راهوم تعدّاو لليورو من هاك العام.
يتبع…