التشيلي… من الشبّاك: انعطافة للوقوف على أحوالنا
لا ندري في أيّ الخانتين نضع رحلة البحث المضنية عن تشبيب اليسار والسّعي إلى إعادة توحيده، أهي من باب « لو تعلّقت همّة المرء بما وراء العرش لناله »، وفي الأمر رفع للمعنويات وعدم إسقاط غصن الأمل من أيدينا، أم هي من باب « لمن تقرأ زابورك يا داود؟ ».
وقد تأتي الإجابة بحسب الزاوية التي نختارها لنوجّه إليها منظارنا. فإمّا تركيز الزّوم على أوضاعنا التونسية التي تَحَوّل فيها « أفضل دستور في العالم » إلى ذكرى عفا عليها الدّهر ولم يبق فيها من « الثورة التي أبهرت العالم » سوى ما يشبه المعجزة عن بلد يسير على حافة الهاوية ولا يسقط، و »نخب » سياسية تهيم وسط متاهة صنعتها بنفسها ولم تعد تعرف سبيلا إلى الخروج منها.
وإمّا توسيع زاوية النّظر لنرى ما يجري وراء البحار، في أمريكا الجنوبية، وفي التشيلي تحديدا من حيث جاءت رسالة أخرى عن أنّ الثورة ما زالت ممكنة شرط أن تعيد صياغة مفاهيمها، وأن تُسقط عن نفسها تحجّرها الأيديولوجي، وعماها السياسي، وانتصابها الأبدي داخل شيخوختها.
وللتشيلي وأمريكا الجنوبية عموما حكاية طويلة مع مخيال اليسار التونسي واليسار العالمي عموما بداية من تشي غيفارا ثمّ سلفادور آلندي وبعدهما لولا دا سيلفا وآخرهم غابريل بوريتش.
في تونس حدثت ثورة، وهي حقيقة لا تقبل النّزاع… وفي التشيلي أيضا !
في تونس حملت الثورة، بحكم طابعها الاجتماعي والإيتيقي، هدية على طبق إلى اليسار. واليسار، تعريفا، إلى هذين الصّفتين أقرب… فبصق اليسار في الطبق بحكم تشتّته وتكلّسه الفكري والذّهني وأشياء أخرى يطول شرحها؛ وفي تشيلي عرف اليسار كيف يجمع شتاته، إلى حدّ ما، ويتسلّح بالمرونة التي يقتضيها فهم العصر ومعطيات البلاد، فكان ما كان !
وفي تونس « هرمنا من أجل هذه اللّحظة » ولم يفهم المناضلون التاريخيون أنّ « الشّيب وقار » قبل أن يكون ذريعة لأن يبقوا فيها خالدين؛ وفي التشيلي فُتح المجال أمام جيل جديد من الشباب ليُمسك بمقود اليسار، فكان ما كان !
ومع هذا فإنّ من وراء هذه الاختلافات أوجه تشابه بين التجربتين أو الحالتين، وأهمّها أنّ الشعبوية انتعشت إلى حدّ كبير في التشيلي إلى حدود الدّور الأوّل من الانتخابات الرئاسية لعام 2021، وكانت على قاب قوسين أو أدنى من الصّعود إلى سدّة الحكم لولا التصدّي لها من طرف تحالف راديكالي من نوع جديد قطع مع التوافقات النيولبرالية للنّهج الاشتراكي الديمقراطي، وأبدى من البراغماتية السياسية ما جعله يتوفّق في خلق لقاء بين الحركات الاجتماعية والتعبيرات المدنية الجديدة.
في حين تقف تونس، اليوم، في قلب اللّحظة الشعبوية… ولزاما علينا العمل أن يكون المخرج باتجاه اليسار، وألاّ ندفع ثمن اللّحظة بعودة النّظام القديم أو قوى الردّة الأخرى التي جرفتها الثورة في حمولتها، ونعني كلّ ما يدخل تحت طائلة المنظومة الهجينة التي حكمت البلاد على مدى العشر سنوات الأخيرة.
ونحن إذ نقترح هذه الانعطافة على تشيلي فعلى أمل أن نستمدّ منها ما قد يُذكي تفكيرنا في أحوالنا، ويغذّي نقاشًا سَعَينا دوما في « نشاز » إلى إقامته من أجل بناء يسار تونسي يستحقّ أن يكون أهلا بهذا الوطن، وتستحقّه بلادنا لما تكتسيه رهاناتها وتحدّياتها من ضخامة.