محمد الصالح فليس: مراحل التزام

 نقلت الحوار: قمر بن دانة

لقد سجلنا منذ بضعة أشهر عودة « القدامى » إلى مسرح السياسة. ففي ديسمبر المنقضي، كان لرحيل « بابي » (جلبار نقّاش) أثره على تذكيرنا بـ « جماعة برسبكتيف ». وحديثا، نشرت جمعيتنا كتابا لعزيز كريشان، يعود فيه إلى تجربة اليسار وسرديّتها الكبرى… كما مثّل الاحتفاء بمائوية الحركة الشيوعية في تونس لحظة مهمّة في استرجاع الذّاكرة. وقد ارتأينا، بطلب من الصديقة قمر بن دانة، إعادة نشر هذا الحوار (بعد ترجمته إلى العربية) الذي أجرته معه ونشر، سنة 2014، في مجلة أكاديميا لجامعة منوبة.

وهو حوار أجري في 22 جانفي 2014 في المعهد الأعلى لتاريخ تونس المعاصر، يسترجع فيه محمد الصالح فليس دوافع انخراطه في النضال السياسي واليسار منذ أحداث معركة بنزرت وصولا إلى تجربة السجن.


خضع محمد الصالح فليس للاعتقال ضمن آفاق يوم 4 أفريل 1968, وحُوكم بعامين سجنا قضاها صحبة رفاقه بين سجن 9 أفريل بتونس ومعتقل برج الرومي، يعود محمد الصالح فليس على مراحل وأسباب التزامهٍ المرتبط في آن واحد بالأحداث التي عايشها في بنزرت وبتجربة السجن.

ماهي الظروف التي انخرطت فيها ضمن حركة آفاق؟

كان عمري زمن اندلاع معركة بنزرت 14 عاما ونصف، وما عاينته خلال صائفة 1961 أصابني بالغثيان فرؤية جيش يطلق النار على جيش آخر آثار حفيظتي وأثارني.

فهذه الحرب نتاجا لاختيارات دفع إليها الرئيس بورقيبة الذي ومن هذه الزاوية أخطأ التقدير كرجل دولة، ثم وإثر نهاية هذه الحرب ساد صمت مطلق إذ لم يصدر عن الرئيس بورقيبة أي كلمة اعتذار، عندها انتقلت إلى الضفة الأخرى.

ثمة أحداث أخرى أقلّ أهمية من هذه طبعتني هي الأخرى، منها أن علي بن سالم والحبيب حنيني وهما من المشاركين في المحاولة الانقلابية لديسمبر1962, كانا يقطنان بحيّنا، وكانا محل تفتيش إثر هربهما.

وقد عشتُ في وسط دارنا ونحن مجتمعين حول مائدة العشاء صحبة والدتي نزولَ أعوان من الحرس الوطني المسلحين من الأسطح مستعملين سلالم للصعود بها ومنها الولوج للمنازل بدون إستئذان آمريننا بملازمة أماكننا حول والدتنا عامدين إلى التفتيش تحت الأسرة ومفرغين المخدات والجراري…

 عندها انتقلت إلى الضفة الأخرى؟

لقد عشت هذه اللّحظات المرعبة وأنا طفل في بيتنا ذاته بحضور والدتي وإخوتي وأخواتي.

وعلمت بأن متهمين في تلك القضية مثل محمد الصالح البراطلي (الذي توفي يوم الثاني من جانفي الأخير وقدناهز السادسة والثمانين عاما) قد خضعوا إلى التعذيب إلى درجة أن هذا الأخير لم يقْوَ على الحضور إلى المحاكمة إلاّ بواسطة عكازين من الخشب كما تبرزه صور الأرشيف.

كل هذه الأحداث أبعدتني عن نظام الحبيب بورقيبة وجعلت مني مواطنا ناقدا للنظام.

ومع تدرّج الزمن، تعلمنا تأطير رفضنا للنظام وسعيناللتنّظم.

وجاءت بعد ذلك محاكمة محمد بن جنات وقد تابعتها عن قرب. فقد وقع اعتقاله بعد ظهر يوم5 جوان 1967 وحوكم خلال الصيف. وهالنا أن تطلب النيابة الحكم بالإعدام، وأن ينال محمد بن جنات 20 سنة أشغالا شاقة.

وكانت تلك لحظة انطلاق نشاطٍ على كل الواجهات خلال السنة الجامعية (1967-1968). في الأثناء، تحصّلت على الباكالوريا في جوان 1967.

حدثنا عن هذا الـ « نحن » كيف تكوّن، بجمعكم؟

كنا صحبة مجموعة من الأصدقاء في معهد بنزرت على اتصال بطلبة يكبروننا سنّا كانوا يدرسون في كلية 9 أفريل ويمدوننا بأخبار التحركات بالجامعة، وتعود علاقاتنا بهم إلى أنهم علاوة على الدراسة معنا بمعهد بنزرت قبل الالتحاق بالجامعة، كانوا جيراننا في السكن وجمعتنا لعبة كرة القدم.

عنصران من هذه المجموعة تحوّلا إلى الدراسة بفرنسا وظل الباقون على علاقة وطيدة والتزموا جميعا، ولكنهم لم يتعرضوا للاعتقال.

وبفضل الأكبر منا سنّا كنا كل نهاية أسبوع في صورة ما حدث خلال ذلك الأسبوع بالجامعة التونسية، كما أننا كنا نمدهم بأخبار معهدنا، بخصوصيّته.

ذلك أن معهد ستيفان بيشون سابقا كان خاصا بالبرامج الفرنسية وتحت إشراف فرنسي، وقد قمنا في نوفمبر 1961 بافتكاكه من الفرنسيين عنوة، إذ تحولنا نحن التلاميذ والتلميذات في مسيرة من معهد الحبيب ثامر صحبة أساتذتنا التونسيين وتحت قيادة مدينا محمد بودن وبأمرأاااتعليمات من وزير التربية المرحوم محمود المسعدي، إلى المعهد المذكور لغزوه دون أن نجد معارضة من الإدارة الفرنسية.

متى وكيف التحقت بحركة آفاق؟

لقد كانت السنة الجامعية 1967 / 1968 التي التحقت فيها بالجامعة سنة غنية بالأنشطة الاحتجاجية ضد النظام، وكنتُ مُسجلا لتحضير إجازتين بالتوازي، الأولى في الحضارة الإسلامية وأساليب البحث والثانية في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع، وكنتُ أقطن بالحي الجامعي برأس الطابية حيث كانت تنتظم اجتماعات سياسية يومية بين مناضلي مكونّات ثلاثة: البعث، وآفاق، والحزب الشيوعي التونسي.

من ناحية أخرى تم تكوين لجنتين، واحدة للمطالبة بإطلاق محمد بن جنات، والثانية للتضامن مع الشعب الفيتنامي الذي شنّت الولايات المتحدة الأمريكية عليه حربا عُدوانيّة.

حول هاتين اللجنتين كنّا نُنظّم الاجتماعات مع كل مكونات الجامعة التونسية ونوزع المناشير في المطاعم الجامعية والأحياء السكنية الجامعية.

وكانت التنظيمات الحزبية « تصطاد » العناصر التي كان يفترض أنها الأكثر حركية والتزاما.

من ناحيتي، اتصلت بي التنظيمات الثلاثة بغاية النقاش المركز مع مناضلين من كل تنظيم.

صدقا، أعتقد أننا لم نكن على جاهزية للبتّ في اتجاه التزام تنظيمي واضح وجلي.

كانت نقاشتنا تهدف إلى الفهم وطرح الأسئلة، وكنا نراكم الأدبيات.  مارس 1968كان بمثابة المراكمة لسلسة من المظاهرات والإضرابات وأعمال توزيع المناشير… بما أفقد النظام سعة صدره، وجعله يقرر إجراء عمليّة قمعية كبيرة محاولة منه لاحتواء الحركة وقطع الطريق أمامها حتى لا تتوسع.

 ويبدو ذلك جليا من خلال الكتابين الأبيضين الذين نشر أولهما الطلبة الدستوريون وثانيها الحزب الاشتراكي الدستوري سنة 1968 والذي مفادهما أنّ النظام كان متفهّما وحليما إلى حدّما، على أن المحتجين لم يفهموا ضرورة احترام الحدود عندها كانت المواجهة بإجراء الإيقافات التي انطلقت يوم 19 مارس 1968.

وأمام تعرض المُعتقلين الأوائل للضرب والمعاملة الغليظة، باحوا ببعض الأسماء فانطلقت من ثمة سلسلة الإيقافات …

اختارت الإدارة الفرعية لسلامة أمن التراب حشر جميع المعتقلين في نفس السلة سواء الذين كانت انتماءاتهم غير واضحة، أو المنتمين صراحة. فتجاوزوا مسألة المناداة بإطلاق محمد بن جنات أو مُساندة الشعب الفيتنامي لينصبّ همهم على الانتماء التنظيمي لكل مُعتقل.

في لحظة الاعتقالات في مارس 1968, هل كنت مُنخرطا بوضوح في حركة آفاق؟

كُنت متردّدا، إذْ كنت أتنافس مع الجميع لبناء موقف. كان يتعين فهم الأشياء قبل الحسم. على أني كنت مُنخرطا في العمل الفعلي ومساهما في الاجتماعات والمظاهرات والإضرابات وتوزيع المنشورات.

في السجن بمعية مجموعة من المعتقلين (عبد الله الرويسي، أحمد نجيب ورشاد الشابي … الذين تخلوا عن انتمائهم للقومية العربية) أجرينا نقاشات، والسجن سانح « لإجراء النقاشات العميقة والمثمرة فيما يتعلق بالتوجهات السياسية وانتهينا يوم غرة أوت 1969 إلى تأسيس خلية في برج الرومي أطلقنا عليها اسم التجمع الماركسي اللينيني التونسي لتحليل طبيعة المجتمع التونسي، والبتّ في النقاش الدائر حول طبيعة الثورة « اشتراكية » أم « ديموقراطية وطنية » وأيهما تتلاءم مع تونس في هذه المرحلة, فإذا انحزنا إلى الثورة الاشتراكية فمعنى ذلك أنه يتعين أن نتحالف مع البروليتاريا الصناعية. وإذا ما اخترنا « الثورة الديموقراطية الوطنية » تكون دائرةتحالفاتنا أوسع، ويتعين الإنصات إلى قسم من المجتمع التونسي الذي لم ينل نصيبه من التنمية إثر الإستقلال.

هل أنهيت دراستك؟

لا، إذ تم اعتقالي مُنذ سنتي الأولى وحُوكمت بعامين قضيّتُهما ناقصين ثلاثة أسابيع ليطلق سراحي يوم 17 جانفي 1970 , ولم أتمكن من العودة للدراسة.

هل أن التزامك صُلب حركة آفاق كانت ثمرة نُضج تفكيريك في السجن؟

لو كنت خارج الأسوار لتأنيت أكثر قبل الاختيار، ومردُّ ذلك نقاط الاختلاف.

فقد كانت آفاق، إيديولوجيا، وفاقا واسعا لم يكن بإمكانه الصمود طويلا ضمن منطقة وحيدة وواحدة.

وأكثر من ذلك، فقد تكونت آفاق في باريس على خلفية معطيات الحركة الطلابية التونسية في باريس فكانت جزءا من الفسيفساء السياسية التونسية وعاجزة على ضمّ مجموع الواقع السياسي للبلاد، الذي كان أكثر تعقيدا.

لقد جئت إلى لفعل السياسي عبر تجربة شخصية: معركة بنزرت في صائفة 1961، ثم المحاولة الانقلابية لديسمبر 1962.

لقد كنت أعرف جانبا من الموقوفين لحما ودما، وأعجبُ ببعضهم إذ اعتقدتهم صادقين وسلميي الطوية. ولم يكن لنا ما نؤاخذه عليهم إلا إنغلاقيّتهم في علاقة بانخراطهم في المحاولة الانقلابية.

وعندما بلغتنا قساوة الأحكام ورأينا حسرة عائلتهم، أخذتنا النقمة وتقززنا واعتبرنا الأحكام غير مقبولة.

هذا هو كل الفارق بيننا وبين القادمين من فرنسا.

ومن رأيى فإن « أفاقيو » فرنسا كان أمامهم أن يكتسبوا نُضجا من خلال الانخراط في الواقع التونسي، فقد كان لزاما عليهم إقامة ارتباطات مع الناس للتواصل مع جانب من الشعب التونسي.

هل كانت هذه الأحكام واضحة بالنسبة إليكم قبل الاعتقال؟

قبل السجن كان يسودنا شعور غامض لم يتمكن من التعبير عن حدوده. أما في السجن فقد كان الأمر الأرقى أننا كنا مُجمعين 24على 24 ساعة.لم يكن لنا ما نملأبه وقتنا عدا الصراعات الإيديولوجية والسياسية.

بعد كل عملية قمعية، يكون الوقت سانحا ليجري كل منا نقده الذاتي بالعودة إلى العمل الذي قمنا به لتأسيسه والتمكن من إيجاد وسائل فهمه ونقده كلما اقتضي الحال وتأثيثه.

وقد مكننا الاعتقال طيلة مدة السجن من تعلم العودة إلى أعمالنا الماضية لتفكيكها وتحديد مكامن التعطّل.

كيف تنظر اليوم إلى السجن؟ وماذا قدم لك؟

لقد ساهم السجن بدون شكّ في تكويننا السياسي، إذْ جمّع أناسا مختلفتين، ووفر لأجيال تجارب مختلفة تتكامل عبر تواجد مشترك حيث تظافرت سويا مستويات وعي تعدديّة.

وحصل أن قاد نقاش يوم إلى إعادة نظر إيجابية في مسألة ما بعد أسبوع.

لقد صمدت لمضايقات السجن كمثقف. فهل بإمكان الجميع أن يغنم من العزلة؟

عدا الصراعات الإيديولوجية والسياسية ثمة العنصر الإنساني.

بداية تمكنتُ وأنا في العشرين من عمري، من التعرف إلى مناضلين من كلّ جهات البلاد وتقدير الرفعة الأخلاقية والفكرية لمواطنين بصدد تكوين ذواتهم فكريا وسياسيا.

بعد ذلك تأسست بيننا حالة تضامن إزاء عدو مُشترك، إدارة السجون.

جعلتنا كتلة واحدة لا تتجزأ في أي تظاهرة أو إضراب جوع.

فالسجن يسمح بمعرفة كلّ واحد منا، ومساره، وبتعميق معرفتنا للأفراد، فيتحول مبدأ النّضال إلى معطى غير قابل للنقاش ولامحدود متى حصل التعرف على المناضلين.

 خلال فترة السرية كنا نختفي وراءأسماء مُستعارة، ونسرع لإنهاء الاجتماعات، ولم نكن نعرف بعضنا البعض، لقد كان الأمرُ مُصطنعا.

 في سنة 1970، إثر سنتين من العيش المشترك كان الجميع على قناعة بضرورة مواصلة النضال سواء في نفس الأفق أو بتغيير الأساليب.

أي ذكريات احتفظت بها من قراءاتك داخل السحن؟

كقاعدة عامة كانت لنا نوعان من القراءات، الأولى هي القراءات السرية التي كان يُوفرها لنا بعض الحراس المرتبطين بعائلتنا التي كانت تبعث لنا جريدة لوموند، وكتابات ماركس، ولينين، والتوسار، وسمير أمين.

أما القراءات المسموح بها فكانت أدبية من عبد الرحمن الشرقاوي إلى فيكتور هوغو مرورا بناظم حكمت، برتولد براشت، وهي قراءات تنتمي إلى عالم معيّن.

تعودنا أن نقوم بتقديم هذه القراءات بعد قراءتها من طرف أحدنا وتقديمها ثم مناقشتها قبل إحالة الكتاب إلى قارئ آخر.

ويضاف هذا العمل في نادي القراءة إلى الأعمال اليدوية بما أنّنا نقوم بإعداد الأكل، وغسل الأواني وتنظيف العنبر…إلخ

لدى خروجك سنة 1970، أي خيار حاولت إعطاءه لالتزامك؟

يدفع السجن إلى التحول إلى حركيّ أكثر من ذي قبل، إذا كنا نعلم أن الاعتقال يهدف إلى التضيق على المعتقل، بيد أن كلّ واحد منا يملك مخططه بعد إطلاق سراحه: كيف السبيل للفعل انطلاقا من مكان تواجده؟ لقد أثرنا الموضوع قبل خروجنا، وطرحنا السؤال عمن يرغب في المواصلة، ومن ينوي وضع حدّ لالتزامه؟ وكانت الأغلبية تود المواصلة وتواصلت النقاشات بصفة خلاّقة.

وبما أننا كنا خاضعين إلى المراقبة الإدارية فقد حاول كلّ واحد أن يقوم بما هو

« متاح » في حدود الفضاء الجغرافي المسموح بالتحرك فيه.

من جهتي استعدت اتصالاتي في بنزرت، حيث لم أُسم للجهات الأمنية أسماء رفاقي الذين ظلوّا في أمان، ومن ثمة فقد أعدت الاتصال « بشلّتي » التي كانت مُبتهجة لعدم تعرضها للاعتقال، وبذلك فقد تمكن البعض من أمثال محمد الحبيب المداح، ومختار العمراوي، ومحمد شلوف، وعلي المثلوثي، وحشاد الزموري، على سبيل المثال، من مواصلة الدراسة. كانوا تلامذة في المرحلة الثانوية، وهم من جيليونحن في نفس العمر تقريبا ثمّ التحقوا بالجامعة التونسية. واستعدنا حلقات نقاشاتنا.

فقد كنت بدون عمل، ومن ثمة فإن مواصلة النضال كان يعني مواصلة النقاش وإعادة بناء صيغة تنظيمية لا تسقط في الهرمية التي تقود الأجهزة الأمنية لبلوغ قمة التنظيم إذا أوقفت مناضلا قاعديّا والعكس.

باختصار، خلال الاعتقال، تمكنتم من تكوين فكري، نظري وسياسيي ومن ثقافة تنظيمية حزبية؟

فعلا، وهذه نقطة جدّ مهمة. ففي 1968 بلغ الأمر بمنظمة آفاق السجن، إلى الانقسام إلى ثلاثة أجزاء.

الأول يتكون مثلا من حافظ ستهم، ومحمد عيسى، وخميس الشماري، الذين كانوا يعتبرون العمل المنجز عملا هاو وأنه لا يؤدي إلى بعيد ومن ثمة فهم يرفضون هذا السبيل للالتزام النضالي.

فيما يعتبر الفريق الثاني أنه من الضروري عدم التخلي عن الخط السياسي والإيديولوجي السابق للإيقافات، ومن ثمة مواصلة الالتزام على طريق الماوية والماركسية اللينينية ومواصلة الثورة الاشتراكية بقيادة البروليتاريا.

أما الفريق الثالث فقد كان منخرطا ضمن مقولة الثورة الديموقراطية الوطنية ما دامت البرجوازية الوطنية لم تنهض ببعض المهمات، فإن ضرورة التجميع لجعل المجتمع أكثر ديموقراطيا وتلك مرحلة ضرورية قبل المرور إلى مرحلة الثورة الاشتراكية.

أنت كنت من أي فريق؟

أنا وأصدقائي ببنزرت كنا من الفريق الثالث. ظهرت نزعة أغلبية تعتبر أنه علينا التحول إلى »العامل التونسي ».

البعض أوّل ذلك على أنه « انقلاب » ضدّ خط » آفاق ». على أن دمقرطة التعليم العالي ساعدت على دخول منتدبين جدد من مناطق ريفية إلى الحركة بخلفية ثقافية وحضارية غير تلك السائدة في العاصمة أو في مدن الشريط البحري.وكان مفهوم « الثورة » بالنسبة لهؤلاء الأعضاء الجدد مطبوعة بنكهة « ريفية » لا جدال فيها.

حدثني عن استعمال نشريات آفاق داخل الحركة.

كانت الجريدة معدّة للتوزيع العمومي الواسع، وهوما يبقى رهين عدد النسخ التي بإمكانها التحول إلى تونس بشكل سري. وكان علينا النقاش في محتوى النشرية بعد أن نتداول في الأخبار الوطنية من خلال الجرائد، طالما أنه كان لازما على المناضلين قراءة إما جريدة العمل أو جريدة  L’Actionحسب الاختيار، وذلك لفهم الآليات التي تعتمل داخل الحزب الحاكم قبل الإجابة والتفاعل. وخارج المجموعة على كل واحد أن يوزع الكراريس حسب علاقاته الشخصية والفردية أو داخل عائلته قبل أن تجمع ردود الفعل. ولم يكن هذا العمل مُثابرا بمثل ما كان العمل الداخلي، ولكنه كان ضروريا طالما أنه يؤدي إلى دمقرطة مضمون النشرية.

وكان بإمكان التفاعلات صلب الحلقات أن تقود إلى إعداد نصوص تعقيبا على مقال لم يعالج مسألته بشكل جيد أو على أسئلة أسيئ طرحها وهو شكل من أشكال إطلاق الحوار.

هل كتبت؟

نعم بالعربية، وخاصة في جريدة العامل التونسي، خلال فترة السرية وعندما كانت لقاءاتنا محفوفة بالمخاطر حدث أن كتبت بمُفردي أكثر من عدد أكمله بمفردي.

ومن زاوية اللغة؟

في مرحلة المرور من آفاق إلى العامل التونسي طُرحت مسألة اللغة بقوة، وحتى بشيء من الحدة. وقد حدثتُك فيما تقدم عن المناضلين أصيلي المناطق الداخلية الذين كانوا يفكرون في ذويهم.ومن ثمة كان استعمال الدارجة لتحرير مقالات العامل التونسي رغم مُعارضة فئة هامة من المناضلين طالبت أن تكون العربية الفصحى لغة الجريدة حتى يتلقاها الرفاق الجزائريون والمغاربة.

وفعلا قمنا بتجربة تحرير جريدة العامل التونسي الإخباري -الصادرة بالداخل-باللغة العربية، وكان ذلك مُهما إذْاعتبرنا أنالدارجة التي أكتب بها شخصيا بالإمكان أن تكون مختلفة عن تلك التي يكتب بها الخنيسي مثلا وهو أصيل مدينة جرجيس.

ماذا كان اختيارك؟

العربية الفصحى. في الأصل كانت الجريدة مُوجهة للعمال. بيد أن العامل الذي يُحسن القراءة بإمكانه ان يفهم الدارجة والفصحى الميسرة على حد سواء. أما الأميّون فإنه مطروح في كل الأحوال أن تُقرأ لهم الجريدة.

تصوري والدتك أو والدتي وهما تنصتان إلى نشرة الأنباء. فقد تستعصي عليهما كلمة أو صيغة، ولكنهما تفهمان عامة ما يُراد تبليغه بالفصحى المُبسطة وكنت أعتبر أن مجلة آفاق لم تكن مُوجهة للعمّال وحدهم.

ماهي إمكانياتكم لإنتاج نشريتكم؟

كنا نطبع 5000 أو 6000 نسخة، بفضل جهد المناضلين وإسهاماتهم الذاتية. لقد كنا نعمل بطرائق بدائية: آلة طبع ونسخ تقليدية. كانت الطباعة ثمرة تطوع الذين يكتبون ويطبعون ويوزعون. ولم تكن لنا مصاريف حول النشرية، فخلاص كل المتطلبات كان يرجع لنا معشر المناضلين. وفي السرية كنا نعيش بمعدل خمسة دنانير للفرد الواحد شهريا!

متى التحقت بالحياة المهنية؟

سنة 1980 قام محمد مزالي بنقل المقرات الاجتماعية للمؤسسات العامة من العاصمة إلى مقرات الإنتاج.

في بنزرت (جرزونة تحديدا) كان لدينا المصنع التونسي للخزف وإدارته العامة كان مقرها في تونس وعندما تم نقله إلى بنزرت رفضت الإطارات أن تلتحق. فتمّ آنتداب إطارات على عين المكان، خضتُ مناظرة أمام الرئيس المدير العام، وكان ذا شخصية قوية عليه الرحمة. بعد المناظرة ترددت قليلا ثم ذهبت للقائه وتشجعت وأحطته علمابمساري وعلاقتي الإشكالية مع سلطات البلاد، فقال لي: »أنا في حاجة لأناس من طينتك تماما، باشر عملك هنيئا… »

وبين 1970 و1980؟

كنتُ نشيطا أتنقل يمنة وشمالا، وكانوا يرغبون في « إيقافي ». عملت من آواخر 1979 إثر إطلاق سراحي كمتعاقد مع بلدية بنزرت بصفة محرر ومترجم. ثم عملت لمدة عامين وشهرين بالشركة الجهوية للنقل.

وكانت هذه الفترات مقطوعة بإيقافات. في المجمل اعتقلت أربع مرات:

من مارس 1968 إلى جانفي 1970

من 14 فيفري إلى 28 ديسمبر 1972

في 1973 دخلت السرية وحوكمت غيابيا ضمن القضية التي باشرتها محكمة أمن الدولة في آوت 1974

أوقفت الخميس 20 مارس 1975 واعتقلت على إثر محاكمتين واحدة اعتراضية

(جويلية 1975).

والثانية (سبتمبر 1975)، ولم يطلق سراحي إلا في الثالث من أوت 1979.

وأعيداعتقالي بتاريخ 12 فيفري 1980 ولم يطلق سراحي إلا يوم 30 أفريل 1980 فقد تراجع الرئيس بورقيبة في قرار السراح الشرطي المؤرخ في 1979/08/03، وقد كلّفني ذلك ثلاثة أشهر إضافية اعتقال!

ماذا فكرت لحظة قيام  » الثورة التونسية » (ديسمبر 2010 – جانفي 2011)؟

لقد سادني الاعتقاد بأن الأمل مازال ممكنا كما أحسست بذلك منذ أمد طويل. ولم أفقد الأمل إطلاقا.

بعد 1980، كنتُ ضمن مجموعة المناضلين الذين انفتحوا على أهمية النضال صلب حركات الدفاع عن حقوق الإنسان، واقتنعت بأن لتونس إمكانية تنمية نشاط حول الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. فقد كنت عضوا بالهيئة المديرة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ونائبا للرئيس سنة 1994 كذلك. وكنت ضمن مجموعة من المواطنين بادروا بتأسيس فرع تونسي لمنظمة العفو الدولية، فقد رأيت خلال اعتقالاتي الأربعة ماذا أمكن لهذه المنظمة فعله لفائدتنا، وفهمت أنهم أناس استطاعوا التجرد من كل انتماء سياسي ومن كل توظيف.

هل انضممت إلى العمل الإنساني لتتجرد من الانتماء السياسي؟

لقد تقت إلى القطع مع الانتماء التنظيمي لأن حصيلة التجربة الأخيرة للعامل التونسي من 1973 إلى 1975 كانت قاسية وموجعة. ولم تعد الحصيلة تشجع على البقاء ضمن التجربة الفسيفسائية.

بعد العامل التونسي جاء الدور على الشعلة التي تعرضت بدورها لتعاقب الضربات القمعية التي أودت بالقيادات. أما التناقضات فقد أصبحت سخيفة! في عام 1982 تزوجت وأنجبت طفلتين وأيقنت أن الثورة والأمل هما البنات والنساء.

هل شاركت بنتاك في « الثورة »؟

ابنتي الكبرى التي تعيش في فرنسا شاركت باعتبارها مهاجرة من بعيد. أما الثانية وهي طالبة بالمعهد الوطني للعلوم التطبيقية للتكنولوجية فقد انخرطت صحبة رفقائها ورفيقاتها في الأحداث.

واليوم؟

إن شخصيتي الراهنة لا يمكن أن تتقاطع مع مواقف سياسية لا أقدر على تحملها وتبنيها بالكامل. فالانضباط الحزبي يتضمن بذور الانغلاق، وكل تنظيم سياسي هو اليوم بالنسبة إليّ نقيض الحرية.

فالأسلوب الستاليني والمركزية الديموقراطية إلخ، لا تتلاءم مع الحرية.

والمطلوب هو أن يتحمل الواحد ذاته وأن يفكر وأن يكون وفيّا لنفسه، نزيها وصادقا، ولا يختبئ وراء واجهات غير وفية لما تدعيه أحيانا.

Afficher plus
Bouton retour en haut de la page